مجلة وموقع تحت مسؤولية المكتب التنفيذي للأممية الرابعة.

سوريا: إعادة الانطلاق الهشة بعد عهد الأسد

بقلم جوزيف ضاهر

يواجه السكان، بعد أكثر من عشر سنوات من الحرب الأهلية، عملية إنعاش و إعمار بالغتي التعقيد. وتشهد على ذلك الإجراءات الأولى التي اتخذتها الحكومة.

أعاد سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024 الأمل في مستقبل أفضل لسوريا. لكن، بعد بضعة أشهر فقط، ظهرت صعوبات عديدة، أو تفاقمت: تشظي البلد و وتفككه السياسي، وتدخل واحتلال من قبل قوات أجنبية، وتوترات الطائفية، بوجه خاص بعد مذبحة العلويين في المنطقة الساحلية، وغياب انتقال سياسي دامج وديمقراطي. تشكل هذه الديناميات عقبات أمام انتعاش اقتصادي وعملية إعادة إعمار، وكلاهما أمران ملحان وضروريان.

الصعوبات الحالية

 لا يزال أكثر من نصف السوريين نازحين داخل البلد أو خارجه. ويعيش 90% من السكان تحت عتبة الفقر، ووفقاً لمنظمة الأمم المتحدة، يحتاج 16,7 مليون شخص – أي ثلاثة أرباع السكان – إلى مساعدات إنسانية.

لذا، فإن تحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية أمر حاسم لمستقبل سوريا ولزيادة انخراط الشعب السوري في عملية الانتقال السياسي الراهنة. علاوة على ذلك، ستتطلب عملية الانتعاش وإعادة الإعمار مساعدة مالية دولية.

 تقدر تكلفة إعادة إعمار سوريا بما يتراوح بين 250 و400 مليار دولار. ينبغي استخدام المساعدة المالية الدولية، بمشاركة الدولة، من أجل إعادة بناء مساكن للنازحين، وإنعاش قطاعات الاقتصاد الإنتاجية، مع تجنب تغذية الديناميات المضارباتية والتجارية.

رغم ذلك، تواصل العقوبات المفروضة على سوريا وعلى هيئة تحرير الشام  (هتش (إعاقة الاستثمارات الأجنبية.  في نهاية فبراير 2025، علق الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة العقوبات المفروضة على بعض القطاعات والمؤسسات السورية.

بينما لا تزال العقوبات الأمريكية واسعة النطاق تشكل عقبة رئيسة. في يناير، خففت إدارة بايدن العقوبات المفروضة على قطاع الطاقة وتحويل الأموال الشخصية. لكن، من ناحية أخرى، لم تحدد إدارة ترامب الجديدة بعد سياسة واضحة تجاه سوريا أو موقفاً بشأن العقوبات.

بعد قول هذا، وحتى إذا تجاهلنا هذه الإجراءات التقييدية، تواجه سوريا مشكلات اقتصادية هيكلية عميقة تعيق الانتعاش الاقتصادي وتهدد مستقبل عملية إعادة الإعمار.

يمثل عدم استقرار قيمة الليرة السورية مشكلة أخرى مهمة. فبُعيد سقوط نظام الأسد، ارتفعت قيمتها في السوق السوداء بشكل حاد بفعل تدفق العملات الأجنبية، وتوقعات الحصول على دعم من الجهات الإقليمية والغربية، والسياسات النقدية الرامية إلى خفض المعروض من الجنيه السوري في السوق، و التعامل غير الرسمي بالدولار. لكن الطريق إلى استقرار الليرة السورية لا يزال طويلاً، ما يثبط المستثمرين الباحثين عن عوائد سريعة أو متوسطة الأجل.

من جهة أخرى، تستخدم بعض مناطق الشمال الغربي منذ عدة سنوات الليرة التركية لإضفاء استقرار على الأسواق المتضررة من انخفاض قيمة العملة السورية الحاد. يُستخدم أيضا الدولار الأمريكي على نطاق واسع في البلد. وبالتالي، قد تكون إعادة العمل بالعملة السورية كعملة رئيسة أمراً صعباً في سياق يتسم بعدم الاستقرار.

لا تزال البنية التحتية وشبكات النقل في سوريا متضررة بشدة. وتكاليف الإنتاج مرتفعة مع استمرار نقص حاد في السلع الأساسية وموارد الطاقة. كما تعاني سوريا من نقص اليد العاملة المؤهلة، ويبقى السؤال مفتوحا حول ما إذا كان هؤلاء العمال المتخصصون سيعودون ومتى.

يحتاج القطاع الخاص، المكون أساساً من شركات صغيرة ومتوسطة ذات قدرات محدودة، إلى تحديث وإعادة هيكلة كبيرة بعد أكثر من 13 عاماً من الحرب والدمار. كما أن الموارد العامة محدودة للغاية، ما يحدّ أكثر من إمكانات الاستثمار في الاقتصاد.

تتركز موارد سوريا النفطية الرئيسة في شمال شرق البلد، الخاضع حالياً لسيطرة الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا (AANES) بقيادة الأكراد. ومن شأن اتفاق أُبرم مؤخراً بين رئاسة سوريا والإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا أن يسهل وصول دمشق إلى هذه الموارد. رغم ذلك، استمر إنتاج النفط والغاز الطبيعي في سوريا في الانخفاض بشكل كبير منذ العام 2011. انخفض إنتاج النفط من 385 ألف برميل يومياً في العام 2010 إلى 110 آلاف برميل في مستهل العام 2025، وهي كمية غير كافية إطلاقاً لتلبية الحاجات المحلية. كانت سوريا تتزود الى حد كبير، قبل سقوط الأسد، ببترول من إيران، لكن هذا الدعم توقف منذئذ.

بات السوريون، مع استمرار ارتفاع تكاليف المعيشة وانخفاض قيمة الليرة السورية، يعتمدون بشكل متزايد على التحويلات المالية. ويفوق حجم هذه التحويلات الاستثمارات الأجنبية المباشرة في سوريا، التي كانت ضئيلة منذ العام 2011، وعن المساعدات الإنسانية، التي تجاوزت في المتوسط 2 مليار دولار سنوياً في السنوات الأخيرة.

القرارات الأولى

في الآن ذاته، تُعزز التوجهات وقرارات الحكومة الاقتصادية، التي تتجاوز ولايتها المؤقتة وتفرض أو تروج لرؤيتها الاقتصادية كنموذج لمستقبل سوريا، إرساء نموذج نيوليبرالي وتسرعه مصحوبا بتدابير تقشفية. تخدم هذه السياسة بشكل أساسي مصالح الطبقات الرأسمالية. فقد نظم زعيم هتش، أحمد الشرع، ووزراؤه العديد من اللقاءات مع رجال الأعمال السوريين، داخل البلد وخارجه، لعرض رؤاهم الاقتصادية والاستماع إلى مطالبهم، بهدف تلبية مصالحهم.

بالإضافة إلى ذلك، تدل مؤشرات متطابقة على أن هتش تُسرع عملية الخصخصة وتُنفذ تدابير تقشفية في البلد. صرح وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني لصحيفة فاينانشال تايمز ، قبل مشاركته في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، بأن القادة الجدد يعتزمون خصخصة الموانئ والشركات العامة وجذب الاستثمارات الأجنبية وزيادة التجارة الدولية. وأضاف أن الحكومة "ستدرس الشراكات قطاع  عام - خاص لتشجيع الاستثمار في المطارات والسكك الحديدية والطرق".

فيما يخص تدابير التقشف، جرى بالفعل اتخاذ العديد من القرارات. رُفع سعر الخبز المدعوم من 400 ليرة سورية (لـ 1100 غرام) إلى 4000 ليرة سورية (في البداية لـ 1500 غرام، ثم خُفض إلى 1200 غرام). خلال الأشهر التالية، أُعلن عن إنهاء الدعم على الخبز، في إطار تحرير السوق.

بعد بضعة أسابيع، صرح وزير الكهرباء عمر شقرق في مقابلة أجراها في يناير 2025 مع موقع The Syria Report أن الحكومة تخطط لخفض تدريجي لدعم الكهرباء، بل حتى إلغاءه، لأن «الأسعار الحالية منخفضة جداً، وأقل من كلفتها، ولكن بشكل تدريجي فقط وبشرط زيادة الدخل المتوسط». حالياً، لا يتجاوز إمداد الشبكة العامة بالكهرباء في المدن الرئيسة في البلاد ساعتين في اليوم. في الآن ذاته، جرى رفع سعر قارورة الغاز المنزلي المدعومة من 25000 ليرة سورية (2.1 دولار) إلى 150000 ليرة سورية (12.5 دولار)، ما كانت له عواقب وخيمة على الأسر.

بالإضافة إلى ذلك، أعلن وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية عن تسريح ربع مستخدمي الدولة أو ثلثهم، ما يعادل، حسب السلطات الجديدة، عدد الموظفين/ات الذين كانوا يتقاضون رواتبهم دون عمل. في الوقت الحالي، لا توجد تقديرات لعدد العمال/ات الذين سُرحوا/ن، في حين أن بعض الموظفين/ات في إجازة مدفوعة الأجر لمدة ثلاثة أشهر في انتظار توضيح وضعهم الوظيفي الفعلي. في أعقاب هذا الإجراء، اندلعت احتجاجات العمال/ات المسرحين/ات أو الموقوفين/ات عن العمل في جميع أنحاء البلد.

برغم الإعلان عن زيادة بنسبة 400٪ في رواتب العمال في فبراير 2025، ما يرفع الحد الأدنى للأجور إلى560 123 1  ليرة سورية (حوالي 93.6 دولارًا)، فإن هذه الإجراء، الذي لم يُنفذ بعد، لا يزال غير كافٍ لمواجهة ارتفاع تكاليف المعيشة. وفقاً لتقديرات ليومية قاسيون في نهاية مارس 2025، يبلغ الحد الأدنى لكلفة المعيشة لأسرة سورية مكونة من خمسة أفراد تقيم في دمشق 8 ملايين ليرة سورية شهرياً (ما يعادل 666 دولاراً). (1)

في متم يناير /كانون الثاني 2025، خفضت دمشق الرسوم الجمركية على أكثر من 260 منتجاً تركياً. وبلغت الصادرات التركية إلى سوريا في الربع الأول من هذا العام حوالي 508 ملايين دولار، بزيادة بنسبة 31,2% مقارنة بالفترة نفسها من العام 2024 (حوالي 387 مليون دولار)، وفقاً لوزارة التجارة التركية. كما أعرب المسؤولون السوريون والأتراك عن استعدادهم لاستئناف المفاوضات بشأن اتفاقية التجارة الحرة بين سوريا وتركيا لعام 2005، المعلقة منذ عام 2011، بهدف توسيع التعاون الاقتصادي. رغم ذلك، قد يكون لذلك تأثير سلبي على الإنتاج الوطني السوري، لا سيما في قطاعي الصناعة التحويلية والزراعة، اللذين قد يواجهان صعوبة في مواجهة منافسة الواردات التركية. كان الاتفاق السابق، المبرم في العام 2005، قد أدى إلى آثار مدمرة على الصناعة المحلية، مفضيا إلى إقفال العديد من المصانع، لا سيما في ضواحي المدن الكبرى.

الخلاصة، تواجه سوريا تحديات اجتماعية واقتصادية ضاغطة.جب، في هكذا  سياق، تسريع معالجة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية من أجل تحسين ظروف معيشة السكان وقدرتهم على المشاركة في الحياة السياسية في الفترة الانتقالية. لكن توجه الحكومة الجديدة الاقتصادي والسياسي، المتسم برغبة في زيادة التحرير والخصخصة والتقشف وخفض الإعانات، لن يؤدي إلا إلى زيادة التفاوتات الاجتماعية والفقر وتركيز الثروة في أيدي أقلية وغياب التنمية الإنتاجية، وهي العوامل التي كانت وراء انتفاضة العام 2011الشعبية.

(1)عشية شهر رمضان، استجوب المجلس النرويجي للاجئين أشخاصًا من مختلف الدخل، قدروا أن الكلفة الشهرية للغذاء والإيجار والخدمات العامة تبلغ 3 ملايين ليرة سورية، أي 300 دولار أمريكي، لكل أسرة، ويرجع ذلك أساسًا إلى التقلبات المستمرة في سعر الصرف وتقلبات السوق.

المصدر

المؤلف - Auteur·es

جوزيف ضاهر

ناشط وباحث يساري سويسري سوري. وهو أستاذ زائر في جامعة لوزان وأستاذ مساعد ما بعد الدكتوراه في كلية العلوم السياسية والاجتماعية في جامعة غنت. أهلته خبرته في سورية ولبنان والشرق الأوسط لكتابة العديد من المقالات للمجلات الأكاديمية، وكذلك لمراكز بحثية مختلفة ومواقع أكاديمية باللغات الإنجليزية والفرنسية والعربية. نشر كتابين رئيسيين: 1) في تشرين الأول (أكتوبر) 2016 - "حزب الله": الاقتصاد السياسي لـ"حزب الله" في لبنان" Hezbollah: The Political Economy of Lebanon's Party of God؛ و، 2) في حزيران (يونيو) 2019 -"سورية بعد الانتفاضات، الاقتصاد السياسي لقدرة الدولة على الصمود" Syria after the uprisings, The Political Economy of State Resilience. بشكل عام، يعتمد إطاره النظري الأساسي على تحليل الاقتصاد السياسي في سورية ولبنان والشرق الأوسط الأوسع.
*نشر هذا الحوار تحت عنوان: Understanding the Rebellion in Syr