مجلة وموقع تحت مسؤولية المكتب التنفيذي للأممية الرابعة.

بعد انقطاع التيار الكهربائي على نطاق واسع: أي نموذج طاقي للانتقال البيئي؟

بقلم دانيال ألباراسين
شارع روزاليا دي كاسترو، فيغو، 28 أبريل 2025. © Seoane Pardo CC BY-SA 4.0

أدى انقطاع التيار الكهربائي في 28 نيسان/أبريل الماضي إلى اضطراب الأوضاع في شبه الجزيرة الأيبيرية وجنوب فرنسا على مدى بضع ساعات. ألحق هذا الحدث أضراراً بجميع سكان المنطقة على نحو أو بآخر. وأثار نقاشات عديدة، تتطلب تحليلاً وتفكيراً عميقين، حتى لا تظل مجرد حكايات، نظراً للمخاطر المنظومية التي ينطوي عليها تكرار هكذا وضع. يجب استخلاص الدروس من ذلك للمستقبل.

بهذا المعنى، يمكن القول إن نظام الطاقة يمر بمنعطف تاريخي. تجبرنا الطوارئ المناخية والهشاشة الجيوسياسية وندرة الموارد على إعادة التفكير في الطريقة التي نشتغل بها لإنتاج الطاقة وتوزيعها واستهلاكها. في هذا السياق، تشكل زيادة قدرة الطاقة القائمة على الطاقات المتجددة رهاناً حاسماً على ما يبدو.

لكن كل تطور ليس مفيدًا بالضرورة: إنه يعيد إنتاج كثير من أوجه منطق الأنظمة الأحفورية التي من المفترض أن يحل مكانها، لأن نموذج الانتقال الطاقي الحالي تديره شركات خاصة كبيرة لا تهدف سوى إلى تحقيق المردودية. اخترقت قلة محتكرة خاصة جميع مجالات الموارد والتكنولوجيات واستولت عليها، بما في ذلك الطاقات المتجددة، وهي تحظى بحماية الدولة ونظام أسعار يكفل لها هوامش ربح وسوقاً في أكثر القطاعات مردودية في الاقتصاد الإسباني. بوجه هذا الوضع، من الملحّ الدفاع عن انتقال اشتراكي-بيئي عادل وديمقراطي ومخطَّط يضع الحياة والرفاهية الجماعية في صميم اهتماماته.

كيف يشتغل نظام الكهرباء؟

لا يمثل نظامُ الكهرباء الشكلَ الرئيسي الذي تصلنا به الطاقة، بل يشكل نسبة 24% وحسب من إجمالي الطاقة المستخدَمة، بينما يأتي الباقي من مصادر أحفورية تُستعمل في النقل أو التدفئة. تتطلب شبكة الكهرباء بنية تحتية معقدة تتيح للكهرباء المنتَجة الوصول إلى وجهات الاستهلاك بشكل فوري ومستمر وآمن. لفهم التحديات الحالية والقرارات التي تستلزم تَحول هذا النظام الكهربائي، من المهم التعرف على عناصره الرئيسية وتفاعلاتها.

يتكون نظام الكهرباء من أربع أطوار رئيسية:

• إنتاج الكهرباء في محطات توليد الطاقة (الحرارية، النووية، الكهرومائية، الشمسية، الريحية، إلخ)؛

• نقل الكهرباء عالية الجهد لمسافات طويلة عبر شبكة خطوط نقل؛

• توزيع الكهرباء بالجهد المتوسط والمنخفض على دور السكن والشركات وقطاع لخدمات؛

• الاستهلاك: استخدام الطاقة الكهربائية بشكل نهائي من قبل المستخدِمين في المنازل أو قطاع الصناعة أو القطاع العام.

يستلزم النظام الكهربائي الممَركز أن يكون الإنتاج والاستهلاك في حالة توازن في جميع اللحظات. مما يستتبع مراقبة تقنية مستمرة، وعادة ما تكون آلية، لضبط العرض وفقاً للطلب الفعلي، والإنتاج وفقاً للاستهلاك، ثانية بثانية. لتلبية هذه المتطلبات، لا يلزم وجود إشراف وتنسيق مناسبين وحسب، بل أيضًا العمل على توليف تكنلوجيات ذات خصائص مختلفة للغاية، منها ما يصعب تدبيره أكثر من غيره - كما هو الحال بالنسبة للطاقات المتجددة - في الإنتاج الذي يساهم في نظام الكهرباء.

خصائص تكنولوجيات إنتاج الكهرباء

باختصار، تتميز التكنولوجيات الحالية الرئيسية بالخصائص التالية.

محطات الطاقات الحرارية الأحفورية (الغاز والفحم الحجري وزيت الوقود)

تساهم في تدبير النظام الكهربائي الممركز الحالي، بفضل إمكانية تشغيلها أو إيقافها حسب الطلب. كما تتمتع هذه المحطات بقدرة توليد عالية وبخاصية قصور ذاتي inertie [مما يعني أنها تستغرق وقتًا طويلاً للتشغيل والتوقف، ويمكنها الاستمرار في إنتاج الكهرباء حتى بعد انخفاض الطلب- المترجم] تمنح النظام استقراراً كبيراً.

مع ذلك، فإنها تسبب تلوثاً بالغاُ وتنفث كميات ضخمة من ثاني أكسيد الكربون وغازات أخرى، فضلا عن الاعتماد الخارجي الذي يترتب عن اللجوء إلى استيراد هذه المصادر، وحالة انعدام اليقين الناجمة عن الاضطرابات الجيوسياسية وغيرها من مخاطر بيئية وصحية جسيمة.

المحطات النووية

غالبًا ما يعزى الفضل في تحقيق إنتاج مستمر والمساهمة في استقرار الشبكة إلى هذه التكنولوجيا، بسبب قصورها الذاتي. لكن يجب إدراك أن هذه الاستمرارية ليست ميزة، بل عنصر صلابة، لأنه إذا كان ممكناً إيقاف المحطات، فإن إعادة تشغيلها تستغرق وقتًا طويلاً للغاية وتتطلب تكاليف باهظة. إن ضرورة الإنتاج بشكل دائم تتعارض تماماً مع حاجات نظام الشبكة الممركز. كانت لوبيات قطاع الطاقة النووية تسعى إلى إعلاء شأن تكنولوجيتها، مع ترويج شعار ما تتمتع به هذه الأخيرة من استقرار، لكن ذلك يستتبع تكييف النظام وبقية مصادر الطاقة.

صحيح أيضًا أنها لا تؤدي إلى انبعاثات مباشرة من ثاني أكسيد الكربون، لكن هناك عوامل مختلفة تجعل امكانية استخدامها في إطار الانتقال البيئي على مدى متوسط وطويل أمرًا غير وارد تمامًا: على الرغم من انخفاض تكاليف اشتغالها، فإن تكاليف الاستثمار فيها مرتفعة، مما يجعلها غير مربحة؛ ومدة صلاحيتها محدودة ببضعة عقود، مما يفضي إلى تكاليف تفكيك وإعادة استثمار باهظة للغابة؛ ويمتد نطاق تدبير النفايات المشعة إلى المستوى الجيولوجي، ولا توجد حاويات قادرة على مقاومة التآكل لمدة تفوق قرن؛ وعلى الرغم من التحسينات التي أدخلت على مجال السلامة، فإن المخاطر طويلة الأجل تجعل من الأمر المستبعد خطراً محدقاً، على حد تعبير أولريش بيك1، فضلاً عن استهلاك المياه اللازمة لتبريد المحطات.

الطاقات المتجددة

تمثل الطاقات المتجددة البديل، لكنها ليست خلوا من اكراهات.

أولاً، لا يشكل نظام الشبكة الكهربائية الممركز خياراً مناسباً للطاقات المتجددة.

إن طاقة الرياح نظيفة، شأنها شأن الطاقة الشمسية الكهروضوئية، التي تتميز أيضاً بكونها مقسمة إلى عدة وحدات وسهلة التركيب. تتميز كلتا الطاقتين بتكاليف تشغيل منخفضة. لكنهما تتسمان بأداء متقطع، وبصعوبة أكبر في التدبير، وتحتاجان إلى مساحات شاسعة، كما أن النموذج التكنولوجي الحالي لا يولد قصورًا ذاتيًا. ولزيادة توافقهما في بيئة مستقرة مع النظام الحالي، تستلزمان حلول تخزين أو إغاثة، غير متوفرة بشكل كافٍ اليوم. تعمل محطات الطاقة الكهرومائية بشكل جيد، في البلدان الزاخرة بالمياه، مثل البلدان الاسكندنافية، وتشكل البطاريات بديلاً، في بلدان أخرى تعاني من موجات جفاف متكررة، مثل بلدنا. لكن هذه البطاريات مرتفعة التكلفة، من الناحية الاقتصادية ومن حيث المواد الأساسية (الليثيوم والكوبالت والنيكل) على حد سواء، مع ما يترتب على ذلك من عواقب بيئية، في حين أن الهيدروجين غير فعال إلى حد ما كمادة للتخزين وستكون استخداماته محدودة.

كلما زاد إدماج الطاقات المتجددة المتقطعة، أصبحت شبكة الكهرباء أكثر تعقيدًا من الناحية التقنية. لذلك، من الضروري العمل، إلى جانب إنتاج الطاقة المتجددة، على تعزيز نموذج مُوزَّع إلى أجزاء وغير ممركز، حيث يتم إعطاء الأولوية للاستهلاك الذاتي في المجتمعات المحلية الطاقية، مما يقلل الضغط على الشبكة المركزية، وعلى تطبيق سياسات تدبير الطلب، عن طريق تشجيع الاستهلاك في الساعات التي يبلغ فيها الإنتاج أعلى مستوياته. وفي هذا الصدد، يمكن اتخاذ بعض التدابير بالفعل. بقدر ما أن النظام الكهربائي يستلزم تزامناً بين الإنتاج والاستهلاك، فما معنى أن تكون فترة الاستهلاك الأغلى ثمناً في الربيع والصيف مطابقة لأكثر الساعات إشماساً؟ بل على العكس، يجب أن يكون سعر الكهرباء أرخص في أكثر ساعات اليوم إشماساً في هذه الفترة من السنة. 

ما الذي لا يسير على ما يرام في عملية تطوير الطاقات المتجددة حالياً؟ 

بعيداً عن أن يشكل نشر الطاقات المتجددة حالياً بديلاً حقيقياً عن نظام الطاقة الأحفورية، فإنه يخضع لمنطق السوق وليس للحاجات الاجتماعية أو البيئية. تستثمر الشركات الخاصة بشكل غير منظم، مع إعطاء الأولوية للمناطق التي يكون فيها الوصول إلى شبكة الكهرباء أسهل وأكثر مردودية، وتلك التي يكون فيها الاستهلاك أهم، دون الأخذ في الاعتبار العواقب المترتبة على الأراضي والنزاعات التي تندلع بسبب حاجات المجتمعات المحلية القروية، التي غالباً ما تكون قريبة من نقاط التوصيل هذه.

لا يؤدي منطق «الطاقات المتجددة الاستخراجية» هذا بالضرورة إلى تقليل الاعتماد على المصادر غير المتجددة: إذ ينضاف إليها ببساطة، في كثير من الحالات، في حين تظل الأنظمة الأحفورية والنووية قائمة ما دامت تواصل تحقيق الأرباح. علاوة على ذلك، فإن مركزة النظام - التي يعيد إنتاج النموذج الأحفوري - غالبا ما تتعارض مع سكان القرى، والممارسات الزراعية التقليدية، والتنوع البيولوجي، بسبب بناء منشآت ضخمة لإنتاج الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وشبكة كهربائية ممركزة تستلزم حصة كبيرة من الطاقة القذرة لضمان استقرارها،

بدلاً من المضي قدماً نحو خفض للاستهلاك وإعادة تنظيم نموذج الطاقة، يُعاد إنتاج نموذج إنتاجوي متعارض بشكل مباشر مع الحدود البيئية لكوكب الأرض.

نحو نموذج طاقي عادل ومستدام

تمثل الطاقة ثروة مشتركة أساسية. يجب والحالة هذه تدبيرها عبر تخطيط عام، بمشاركة ديمقراطية للمجتمعات المحلية، وليس كقطاع مربح. من الضروري أن تستعيد السلطات العامة زمام المبادرة في بلورة تصور لنظام الطاقة، عبر التوجه نحو نموذج يجمع بين:

• الطاقات المتجددة كمصدر رئيسي، مع العمل تدريجياً على الحد من استخدام الطاقات الأحفورية والنووية وعلى استبدالها؛

• توزيع غير ممركز وقائم على مستوى المجتمعات المحلية، مع أنظمة استهلاك ذاتي وشبكات محلية وتخزين للطاقة متكيف مع كل منطقة؛

• تعاون مع المجتمعات المحلية القروية والحضرية، عبر إدماج معايير اجتماعية وبيئية ومناظر طبيعية في اختيار المواقع ونماذج التدبير؛

• مشاركة ديمقراطية في القرارات المتعلقة بالطاقة، عبر إقرار الطاقة كحق وليس كسلعة.

يستلزم هذا النموذج استثمارات عامة مستمرة، ليس وحسب في بنى الإنتاج التحتية، بل أيضاً في شبكات التوزيع الذكية والتخزين وفعالية الطاقة والتعليم التقني والمواطن. لا يمكن أن يقتصر استثمار عام على تمويل البنى التحتية التي تحقق فيها الشركات الخاصة أرباحاً زهيدة؛ بل يجب أن يعود بالنفع على المجتمع بأسره. على سبيل المثال، على الرغم من أن استئجار البطاريات وأنظمة التخزين على نطاق واسع قد يساهم في استقرار شبكة الكهرباء، فإنه يؤدي أيضًا إلى خفض تكاليف الاستثمار التي كان يتعين على الشركات الخاصة تحملها. إذا استأجر القطاع العام بطاريات على نطاق واسع، فعندئذ من المنطقي أن يكون النظام بأكمله عامًا، عبر إضفاء الطابع الاجتماعي على هذا القطاع الاستراتيجي. ستظل التكلفة، على الرغم من ارتفاعها، دون نسبة 5٪ من الإنفاق المتوقع تخصيصه للدفاع بحلول عام 2030. سيشكل ذلك بلا شك خيارًا أمثل بكثير.

مع ذلك، لا يكفي تطبيق إضفاء الطابع الاجتماعي. بل يجب أن يقترن ذلك بتخطيط لإعادة نشر البنى التحتية وإدخال تغيرات تكنولوجية. يلزم أن يحل هذا النموذج، القائم على الطاقات المتجددة - وبشكل هامشي، على الغاز في حالات الطوارئ - مكان التكنولوجيات ومصادر الطاقة الأخرى، وأن ينشر نموذجاً غير ممركز، وأن يكيف المصادر مع خصوصيات المناطق، عبر القرارات الديمقراطية التي يعتمدها كل مجتمع محلي بشأن تحديد المواقع التي ستقام فيها المنشآت. وبالمثل، يبدو أن إعادة تنظيم البنى التحتية وإعادة نشرها في إطار انتقال مدعوم بالبحث والابتكار أمر لا غنى عنه. وعلى هذا النحو، قد يعتمد هذا الانتقال بشكل مطرد على تكنولوجيات منخفضة التكلفة  low tecتسمى أيضاً تكنولوجيات «متواضعة» أو «خفيفة» - مستقلة عن صناعة الوقود الأحفوري وقادرة على تقليل استخدام المواد والطاقة، ومندرجة في إطار «اقتصاد حلزوني»، حيث يتم إعادة دمج المواد قدر الإمكان في دورة الطبيعة - مع العلم بمدى صعوبة ذلك في مجال الديناميكا الحرارية، كما يؤكد ذلك كثيرًا الأستاذ خوسيه مانويل ناريدو  José Manuel Naredo 2. كل ذلك مع تأمين خدمة كافية لجميع السكان.

السيادة الطاقية والأراضي

في عالم متسم على نحو مطرد بالتوترات حول التحكم بالموارد، أصبح الاكتفاء الذاتي في مجال الطاقة عنصراً أساسياً لبسط السيادة. تتمتع شبه الجزيرة الأيبيرية، وخاصة جنوبها، بإمكانات هائلة تكفي إلى حد كبير لتلبية جزء هام من طلبها باستخدام الطاقات المتجددة. لكن ذلك يستلزم تغيير النموذج: لا يكفي تغيير مصادر الطاقة، بل يجب أيضا تغيير موازين القوى التي تهيكل النظام.

تتطلب سيادةٌ طاقية حقيقية اتخاذَ قرار جماعي بشأن نوع الطاقة اللازم إنتاجها، وكيفية ذلك، وأين، ولصالح من، وما العواقب المترتبة على ذلك. مما يفترض الإقرار بأن الطاقة ليست محايدة، وأن تفاوت الاستفادة منها يحدد جميع جوانب الحياة، وأن أي تغيير ينبغي أن يقترن بالعدالة الإقليمية والاجتماعية، التي تتمثل خطوتها الأولى في القضاء على الهشاشة الطاقية، وضمان الإمدادات الأساسية لجميع السكان، مع مراعاة حدود محيطنا الحيوي.

تستلزم هذه العدالة أيضًا، كما أشرنا سابقًا، الاتفاق على مواقع إقامة المنشآت وفقًا لمعايير لا تنال من إمكانات أو حاجات الإنتاج الزراعي والبلدات القروية، وتشمل التكييف التقني للبنى التحتية اللازمة. على سبيل المثال، تطوير محركات هوائية بدون شفرات، تنقل الطاقة عن طريق اهتزازات ناتجة عن دوامات الهواء - لأن الطيور تحلق في نفس اتجاه الرياح التي تستغلها هذه الأجهزة - أو إنشاء مزارع شمسية في ساحات، وأسطح المباني والمنشآت الصناعية، وفي المناطق القروية التي تقل فيها العواقب المترتبة على السكان والزراعة والتنوع البيولوجي.

علينا أيضاً أن نستحضر ضرورة مضاعفة عدد هذه البنى التحتية القائمة على الطاقة المتجددة، ليس لإضافتها إلى التكنولوجيات الأحفورية والنووية، بل لتحل مكان الأغلبية الساحقة من هذه الأخيرة.  

الحدود البيوفيزيائية: الجانب الخفي للانتقال

لا يمكن الحديث عن انتقال طاقي دون الإقرار بالحدود المادية لكوكبنا. ينبغي ألا يُنظر إلى كهربة قطاع الاقتصاد، اللازمة من نواحٍ عديدة، في إطار نمو غير محدود لإنتاج الطاقة المتجددة. يبدو من الضروري زيادة القدرة الحالية بشكل جذري، شريطة ألا يحدث ذلك بطريقة عشوائية ووفقاً لمعايير السوق، بل مع الأخذ في الاعتبار الحاجات والظروف الاجتماعية والبيئية والتقنية. لكن علينا إدراك أن ذلك يستتبع توفر كميات هائلة من المواد، مثل النحاس والليثيوم والمعادن النادرة، التي توجد بكميات محدودة وتطرح دورة حياتها تحديات بيئية جسيمة. سيستلزم ذلك أيضًا مواصلة البحث العلمي وتطوير بنى تحتية قادرة على استخدام مواد أخرى وافرة، مثل الألومنيوم الذي قد يكون مناسبًا لبعض الأنشطة، على الرغم من أنه أقل توصيلًا من النحاس.

تعتمد البنى التحتية المتجددة الحالية بشكل غير مباشر على الطاقات الأحفورية في استخراجها وتصنيعها ونقلها وصيانتها.إن مدة صلاحيتها محدودة - عادة ما لا تتجاوز 30 عامًا - مما يستلزم إعادة إنشائها، كما أنها تخلف نفايات. لا يكفي والحالة هذه تبديل مصادر الطاقة، بل من اللازم تغيير النموذج الاقتصادي نحو اقتصاد متسم بالبساطة والعدالة، يعمل على تحديد خيارات بشأن الحاجات الطاقية التي يجب تلبيتها، عبر تجنب الاستهلاك المفرط وغير الضروري، بدلاً من السعي إلى صون نفس مستوى الاستهلاك.

وهذا يستلزم:

• تعزيز أنماط حياة واستهلاك بسيطة وفعالة ومشتركة، دون التخلي عن تلبية الحاجات المرتبطة بالرفاهية ونمط حياة كريم؛

• المراهنة على حركة النقل العام والجماعي عبر الطاقة الكهربائية، مع إعطاء الأولوية للنقل بالسكك الحديدية والترام، لكن أيضا بالحافلات أو المترو، وحصر استخدام السيارات الكهربائية في المناطق الحضرية لتلبية الخدمات الأساسية (سيارات الأجرة والإسعاف والإطفاء). يجب أيضا تطوير أنظمة مواصلات محلية مشتركة تتيح تغطية المناطق القروية التي لا تشملها شبكات النقل؛

• إعطاء الأولوية لاستخدام الطاقة في تلبية الحاجات الأساسية والقيام بالأنشطة ذات المنفعة الاجتماعية العالية.

ما السياسة الاقتصادية اللازمة لنموذج الطاقة المطلوب؟

يتطلب انتقال طاقي مستدام نهج سياسة اقتصادية في خدمة المصلحة العامة. لا يعني ذلك تغيير مصفوفة الطاقة وحسب، بل أيضاً بناء نموذج تنمية مغاير. نموذج لا يسعى إلى نمو غير محدود، بل إلى تحقيق التوازن مع الحدود الطبيعية والعدالة الاجتماعية.

وهذا يستلزم:

• تخطيط عام طويل الأمد، مع اعتماد معايير تقنية واجتماعية وبيئية؛

• تفاوض ومشاركة ديمقراطية للمجتمعات المحلية في صنع القرارات الاستراتيجية؛

 • إعادة توجيه فرص العمل والتكوين المهني نحو قطاعات مستدامة؛

• لامركزية أنظمة الإنتاج والتوزيع، مع الحفاظ على ترابط، وحتى تآزر، بين مختلف الأنظمة.

قامت النخب الاقتصادية والسياسية العالمية على ما يبدو باختيار مسار معاكس: انتقال استبدادي ومناهض للمجتمع، قائم على التحكم بالموارد الاستراتيجية، وعلى الاستخراجية، وتنامي اللجوء إلى القوة، وعلى انعدام المساواة والإقصاء. إنه نموذج يجمع بين الوقود الأحفوري والطاقة النووية والطاقات المتجددة الممركزة الضخمة في إطار نظام مبني بشكل مطرد على الاستخراجية والعسكرة وانعدام الاستقرار. نموذج يقف سدا منيعا بوجه الاحتجاجات، ويقيد الحقوق، ويوطد امتيازات أقلية.

ليس هذا المسار غير عادل اجتماعياً وحسب، بل أيضاً غير قابل للتحقيق بيئياً ولا يمكن تحمله سياسياً. إنه يتعارض مع مصالح الأغلبية، وخاصة الطبقات الشعبية وشعوب بلدان الجنوب، ويحُول دون أي إمكانية لتحقيق انتقال حقيقي نحو مستقبل قابل للحياة.

لا يشكل نموذج الطاقة مجرد مسألة تقنية: إنه مسألة ذات أبعاد سياسية عميقة. يحدد نوع الحياة الممكنة ومن يستطيع العيش فيها. لذلك يشكل النضال لتحقيق نظام طاقة جديد أيضاً نضالاً لإرساء الديمقراطية والعدالة والكرامة. وبالمثل، لا يشكل نظام الكهرباء مجرد شبكة تقنية، بل هو أيضاً مجال لاتخاذ قرارات سياسية واجتماعية وبيئية. تتميز كل تكنولوجيا بشروطها ومزاياها وحدودها، ولا تخلو أية منها، حتى الطاقة المتجددة، من عواقب. لذلك، لا يستلزم انتقال طاقي عادل زيادةَ استخدام طاقات متجددة وحسب، بل أيضاً تخطيطاً ديمقراطياً واعياً، انطلاقاً من القطاع العام والمجتمعي المحلي، الذي يمنح الأولوية للاستخدامات الضرورية اجتماعياً، ويقلل من العواقب، ويوزع سلطة الطاقة بشكل أكثر ديمقراطية.

لا يعتمد تجنب انقطاعات الكهرباء في المستقبل على تركيب مزيد من الألواح الشمسية أو المحركات الهوائية وحسب، بل أيضاً على مراجعة عميقة لنمط حياتنا وطرق الإنتاج والتنظيم. نحتاج إلى نموذج عام وديمقراطي وقادر على تلبية الحاجات ومستدام وعادل. علينا تطويره من الآن، لأن النموذج الحالي أصبح غير مؤكد وخطيرا على نحو مطرد.

 6 حزيران/يونيو 2025

النص الأصلي بالإسبانية على الرابط التالي

  • 1

    أولريش بيك Ulrich Beck (1944-2015) عالم اجتماع ألماني، وأستاذ باحث في كلية لندن للاقتصاد، ومؤلف كتاب مجتمع المخاطر La Société du risque  (1986)، وكتب عديدة ودراسات حول تدبير المخاطر وتخفيف عواقبها على الصعيدين السياسي والاقتصادي في المجتمعات الغربية المعاصرة.

  • 2

    خوسيه مانويل ناريدو بيريز José Manuel Naredo Pérez (1942-...) خبير اقتصادي وإحصائي إسباني، رائد وباحث ومنشط توعوي في مجال الاقتصاد البيئي في إسبانيا، حيث قدم إسهامات مهمة بصفته مؤلفاً وناشراً.

المؤلف - Auteur·es

دانيال ألباراسين

دانيال ألباراسين Daniel Albarracín، اقتصادي وعالم اجتماع. أستاذ في قسم الاقتصاد التطبيقي الثاني بجامعة إشبيلية. عضو في المجلس الاستشاري لمجلة فينتو سور Viento Sur وعضو في الحزب المناهض للرأسمالية Anticapitalitas، فرع الأممية الرابعة في إسبانيا. ترجم النص من الإسبانية إلى الفرنسية.