
لينا: ستركز هذه المناقشة على تبعات سقوط نظام الأسد، وصعود أحمد الشرع رئيسا انتقاليا. سنستكشف وجهة سوريا الاقتصادية المحتملة، وآفاق العدالة الانتقالية، وتطور العلاقات مع بدان الجوار ومع الغرب – بوجه خاص في ضوء تخفيف العقوبات الأمريكية والأوروبية الجزئي. هل جرى إنعاش العلاقات بين الولايات المتحدة وسوريا؟ وقد أشاد الرئيس ترامب بنحو خاص بطلعة الشرع الجذابة. دعني أبدأ بسؤالي الأول: ما هي ركائز بقاء النظام السوري السياسية والاقتصادية، وكيف تعبر هذه الآليات عن تغيرٍ قياساً بهياكل الحكم قبل العام 2011؟
جوزيف ضاهر: كان انهيار نظام الأسد ناجما في المقام الأول، بقدر كبير، عن ضعف حليفيْه الرئيسين، إيران وروسيا، العاجزين عن مساندته كما في الماضي، ثم عجز النظام السوري السابق عن الحفاظ على حد أدنى من الدعم الشعبي. فقد كان، في الواقع، فاقدا إلى حد كبير للتعاطف الشعبي. من هذا المنظور، شهدنا سقوط نظام الأسد دون أي إمكان عودة. وتُعزى هذا الظاهرة إلى طبيعته الميراثية، حيث تتركز السلطة السياسية والاقتصادية والعسكرية في القصر - في صلب النظام. وعلى عكس مصر، حيث بقيت السلطة في أيدي الجيش بعد سقوط مبارك، لم يترك النظام السوري وراءه أي عمود فقري مؤسسي. وهذا نقطة تحليلية أساسية: شهدنا سقوط نظام استبدادي وميراثي عمره 54 عامًا، قمعَ كل أشكال المعارضة، وقضى على الفاعلين السياسيين والاجتماعيين المستقلين.
منذ سقوط الأسد في ديسمبر 2024، لا أصف ما ظهر بأنه نظام جديد تمامًا، بل هيكل سلطة انتقالي يُهيمن عليه تنظيم هيئة تحرير الشام. تمتلك هذه القيادة الناشئة برنامجا سياسيا واقتصاديا وعسكريا واضحا يركز على الحصول على الشرعية الدولية. وقد حظي أحمد الشرع، من وجهة النظر هذه، بنجاح نسبي. وقد انعكس هذا النجاح في إعلان الرئيس ترامب عن تخفيف العقوبات الأمريكية وتنفيذه. إجراء سرعان ما حذا حذوه الاتحاد الأوروبي واليابان. وتجسدت هذه الجهود الدبلوماسية في اتفاقيات اقتصادية، بما في ذلك تجديد عقد ميناء اللاذقية مع شركة CMA-CGM، واتفاق مع شركة Dubai Port World بصدد ميناء طرطوس، وعقد بقيمة 7 مليارات دولار حصل عليه كونسورتيوم UCC، ومقره قطر، لبناء البنية التحتية الكهربائية وإعادة بنائها. تبرز جملة الأحداث هذه أن أولوية النخبة الجديدة في السلطة هي كسب شرعية دولية، مرتكزاً لتعزيز السلطة الداخلية. وقد تُرجم ذلك في عملية داخل المؤسسات الحكومية، وعلى المستويات المحلية، تروم توطيد السلطة، لا سيما عبر تعيين شخصيات وحلفاء لهيئة تحرير الشام في مناصب رئيسية، خاصة في الجيش الوطني السوري. بيد أنه ما من أمارة انتقال ديمقراطي حقيقي. نشهد، عوض ذلك، إرساء هيكل استبدادي جديد تسيطر عليه هيئة تحرير الشام. وقد كان ما يسمى بـ ”الحوار الوطني“ حدثاً سطحياً استمر يوماً واحداً دون نتائج ملموسة. ومركز الإعلان الدستوري الجديد السلطة حول الرئاسة، وأدخلت مواد إشكالية، مثل تكريس الشريعة الإسلامية مصدرا رئيسيا للتشريع.
وتشكيل حكومة ”دامجة“ هو أمر رمزي إلى حد كبير - تضم امرأة واحدة وأشخاصاً من الأقليات لا يحظون بقاعدة دعم حقيقية بين السكان – بينما يظل صنع القرار في أيدي شخصيات من هيئة تحرير الشام. وينطبق السيناريو عينه على مؤسسات الدولة، إذ أعيد تنظيم الجيش حول قوات هيئة تحرير الشام و الجيش الوطني السوري، ويدير أجهزة الأمن أشخاص مقربون من الشرع. وهذا يعبر بجلاء عن تعزيز سيطرة هيئة تحرير الشام على المؤسسات. وينخرط النظام بنشاط، من الناحية الاقتصادية، في اتفاقات اقتصادية وإعادة إعمار لضمان نفوذه. وفيما يتعلق بالعدالة الانتقالية، تناول مرسوم رئاسي حديث انتهاكات حقوق الإنسان في ظل حكم الأسد، ما يمثل خطوة إلى الأمام. بيد أنه لا يأخذ في الاعتبار جرائم الجماعات المسلحة الموالية للسلطات الحالية، بما في ذلك هيئة تحرير الشام ذاتها، أو أي جماعة مسلحة أخرى. ويؤدي طابع هذه العدالة الانتقائي إلى تفاقم التوترات السياسية والطائفية، لا سيما في أعقاب مذبحة آذار/مارس ضد العلويين والهجمات ضد الطوائف الدرزية - ولم تؤد أي من هذه الأحداث إلى متابعات قضائية، برغم تورط جماعات مسلحة تابعة للجيش الجديد وداعمة للسلطات الحاكمة الجديدة.
من منظور أعم، تهدف هذه التوترات والهجمات الطائفية إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسة. أولاً، استغلال التوترات الطائفية وسردية المظلومية السنية1 بقصد بناء قبول شعبي وتوحيد قطاعات واسعة من الجماعة العربية السنية حول الحاكمين، برغم الاختلافات السياسية والاجتماعية الكبيرة داخل هذه الجماعة. تمثل الطائفية في الأساس أداة لتعزيز السلطة وتقسيم المجتمع. فهي تتيح إلهاء الطبقات الشعبية عن القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بتعيين مجموعة محددة - على أساس طائفتها أو عرقها - ككبش فداء، وكجذر لمشكلات البلد وكتهديد لأمنها، مبررة بهذا النحو نهج سياسات قمعية وتمييزية تجاهها. ومن جهة أخرى، تمثل الطائفية آلية قوية للرقابة الاجتماعية، تُكيف تطور الصراع الطبقي بخلق تبعية بين الطبقات الشعبية والنخبة الحاكمة. ينجم عن ذلك فقدُ الطبقات الشعبية برنامجها السياسي المستقل وتجد نفسها محددة - وتلتزم سياسياً - وفقاً لهويتها الطائفية. تقتفي السلطات الحاكمة الجديدة، من زاوية النظر هذه، آثار النظام القديم بقيادة الأسد، مواصلة استعمال سياسات وممارسات طائفية أداةً حكم وسيطرة وتقسيم اجتماعي.
ثانياً، تسعى هذه الهجمات والتوترات الطائفية إلى تضييق المساحة و الدينامية الديمقراطيتين من القاعدة. أصبح الناس، بعد مذابح مارس/آذار، أشد خوفاً من التنظيم. على سبيل المثال، نظم موظفون مفصولون من القطاع العام مظاهرات في مختلف المحافظات في يناير/ كانون الثاني وفبراير/شباط 2025، كما كانت ثمة محاولات تنظيم نقابات بديلة، أو بالأقل هياكل تنسيقية. لكن المذابح الطائفية في المناطق الساحلية قلصت إلى حد كبير قوة حركة الاحتجاج، خشية إمكان رد عنيف من قبل الجماعات المسلحة المقربة من السلطات الجديدة أو المنبثقة عنها. وأخيراً، أتاحت هذه الهجمات الطائفية للقادة الجدد في دمشق إعادة تقييم سيطرتهم على بعض الأراضي (المناطق الساحلية) ومحاولة القيام بالشيء ذاته في مناطق تركز أعداد كبيرة من الدروز. لذا تندرج أهداف السلطات الحاكمة عبر هذه الأحداث في إستراتيجية أوسع نطاقاً تتوخى مركزة السلطة وتوطيد سيطرتها على المناطق غير الخاضعة لها بالكامل.
إجمالا، ليس ما نشهده انتقالاً ديمقراطياً، بل بزوغ عملية بناء نظام استبدادي جديد، تهيكله هيئة تحرير الشام وتقوده، تحت غطاء شرعية مؤسسية ودولية.
لينا: كيف يؤثر توجه النظام الاقتصادي بعد الحرب (اقتصاد الحرب، رأسمالية المحاسيب) على آفاق إعادة الإعمار والإصلاح؟
جوزيف ضاهر: مسألة التوجه الاقتصادي حاسمة. يستحيل انتقال ديمقراطي حقيقي مع بقاء الشعب السوري غارقاً في الفقر - كما هو حالياً. إنه من شأن أي سلطة تلي نظام الأسد أن تواجه تحديات اقتصادية هائلة. تقدر تكاليف إعادة الإعمار بأكثر من 400 مليار دولار، مع تدمير واسع النطاق للبنية التحتية (الكهرباء، النقل، الاتصالات، شبكة الطرق)، ولمراكز حضرية رئيسة (حمص، حلب، ضواحي دمشق) وللزراعة. كما يعاني البلد من أزمة نقدية، مع تقلب قيمة الليرة السورية التي تعاني من منافسة الدولار الأمريكي والليرة التركية. لذا فإن رفع العقوبات أمر مرحب به، ومزيل لعقبة كبيرة أمام الانتعاش الاقتصادي. بيد أن توجه هيئة تحرير الشام الاقتصادي لا يمثل قطيعة بل استمرارية - وحتى تكثيفاً – لسياسة عهد الأسد النيوليبرالية، مصحوبة بتدابير تقشفية. تحدثت وزارة الاقتصاد عن انتقال إلى نظام سوق حرة متوافق مع المبادئ الإسلامية، لكن لم يكن لسوريا قط اقتصاد اشتراكي. وحتى في سنوات 60، كانت تعمل وفق نموذج رأسمالي خاضع لسيطرة الدولة، تحول تدريجياً إلى نموذج نيوليبرالي في عهد حافظ الأسد، ثم بشكل أكبر في عهد بشار الأسد، مع تحرير واسع للاقتصاد.
نشهد اليوم تنفيذ تدابير تقشفية جديدة، منها خفض كبير في دعم سلع أساسية مثل الخبز، الذي ارتفع سعره من 400 إلى 4000 ليرة سورية. وتؤثر هذه السياسات بنحو غير متناسب على الفقراء، لا سيما في ظل أوجه خصاص عامة. بل إن مسؤولين سابقين اعتبروا الزيادة المقبلة في أسعار الكهرباء ضرورية، متجاهلين أنها ستؤدي إلى مزيد من تقويض القطاعات الإنتاجية مثل الزراعة أو الصناعة التحويلية، المحتاجة إلى طاقة بأسعار في المتناول. كما تم تسريح كثيف لموظفي القطاع العام، دون إتباع عملية شفافة أو منظمة. وثمة أيضاً إلى حد ما أبعاد طائفية وجندرية: فقد كان معظم الموظفين المسرحين من الطائفة العلوية، ونساء - كنّ ممثلات بشكل خاص في القطاع العام – حيث تضرروا بنحو غير متناسب. لا أحد ينكر استشراء المحسوبية والمحاباة في نظام الأسد ومؤسساته، لكن على الحكومة الحالية أن تضمن شفافية قراراتها. وقد أثارت التسريحات مظاهرات في يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط، لكنها توقفت بعد المذابح الطائفية ضد العلويين في مارس/آذار، خشيةَ قمع عنيف. كما أعادت السلطات الجديدة هيكلة مؤسسات مثل الاتحاد العام لنقابات العمال، وعينت قيادة جديدة دون إصلاح ديمقراطي داخلي. وتواصل إستراتيجية إضفاء الليبرالية الاقتصادية للحكومة الحالية تقويض قطاعات رئيسة. على سبيل المثال، تأتي التخفيضات المحتملة في دعم القمح في وقت تتعرض الزراعة لضغوط مرتبطة بالمناخ. وبالمثل، فإن الصناعة التحويلية آخذة في الانهيار بسبب المنافسة غير العادلة مع الواردات - خاصة القادمة من تركيا. هذه الظاهرة شبيهة بتأثير اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا في 2006-2007، التي دمرت الشركات الصغيرة والمتوسطة في سوريا. ارتفع حجم التجارة بين سوريا وتركيا بأكثر من 40% في الأشهر الخمسة الأولى من العام، مقارنة بالعام الماضي، ليصل إلى مليار دولار، بينما يواجه المنتجون السوريون تحديات عديدة، منها ارتفاع أسعار الكهرباء ومحدوديتها، ونقص العمالة الماهرة، وتقادم البنية التحتية.
وتشهد قطاعات الصناعة التحويلية والزراعة - ركائز انتعاش اقتصاد سوريا - تآكلا. وقبل زيارة في مطلع العام إلى منتدى دافوس - رمز للنيوليبرالية العالمية - دعا وزير الخارجية السوري إلى الخصخصة وإضفاء الليبرالية والتقشف. وقد أتاحت مذكرة التفاهم الأخيرة، مع كونسورتيوم قطري للبنية التحتية الكهربائية، والتي تعتمد بشكل أساسي على عقود من نوع build-operate-own (BOO)، أو ”بناء وتشغيل وتملك“، استحواذ فاعلين خواص على بنى تحتية أساسية وتحديد الأسعار - ما يقوض سيادة الدولة والإفادة العامة من الخدمة. سوريا بحاجة ماسة إلى المساعدة الدولية، لكن الجهود الحالية تفيد النخبة التجارية أكثر من السكان. كما تمكنت بعض شخصيات عالم الأعمال المقربة سابقا من نظام الأسد، مثل أفراد عائلة محمد حمشو، من التصالح مع السلطات الجديدة. وفي الآن ذاته، يكتسب رجال الأعمال المرتبطون بـهيئة تحرير الشام، لا سيما ذوو صلات بتركيا - نفوذاً متزايداً. وقد تعني هذه التغييرات انبعاث نظام رأسمالية محاسيب، تهيمن عليه النخب المتوافقة مع مواقف هيئة تحرير الشام ورجال أعمال مرتبطين بالنظام السابق. وهذا يثير تساؤلات مهمة من منظور العدالة الانتقالية، حيث لا تناول للجرائم الاقتصادية وللشراهة. ونشهد، عوض ذلك، استمرارية – لا تقتصر على السياسات، بل تشمل الفاعلين المستفيدين منها والديناميات المرتبطة بها.
في شهر مايو/أيار، قامت الحكومة حتى بتعليق إلزام الشركات بتسجيل مستخدَميها في الضمان الاجتماعي، بحجة تشجيع الاستثمار - على حساب حقوق الشغيلة. وقد أعيدت صياغة هذا القرار، بعد تعرضه لانتقادات، بجعله ينتهي في متم العام بعد أن كان غير محدود. يعكس هذا النموذج الاقتصادي في مرحلة ما بعد نزاع، بشكل وثيق، ديناميات ما بعد النزاع في العراق ولبنان، حيث لم تحل الإصلاحات النيوليبرالية والخصخصة المشاكل الهيكلية بل فاقمتها. يرتبط الانهيار الاقتصادي لعام 2019، في لبنان، ارتباطًا مباشرًا باقتصاد ما بعد الحرب. اليوم، يعيش 90٪ من السوريين تحت خط الفقر، وتعتمد حياتهم إلى حد كبير على التحويلات المالية من أفراد الأسرة في الخارج. كانت سوريا، قبل الانتفاضة، تصدر 12 مليار دولار من السلع؛ اليوم، يقل المبلغ الإجمالي عن مليار دولار. اقتصادها الإنتاجي مقوض بشدة. في العراق ولبنان، قمعت السلطات أيضاً النقابات والحركات الاجتماعية التي طالبت بإعادة إعمار ديمقراطية وعادلة اجتماعياً. ويبدو أن سوريا تسير على نفس الطريق. فهيئة تحرير الشام لا توطد سيطرتها السياسية والعسكرية فحسب، بل حتى نظاماً اقتصادياً يعزز الأنماط الاستبدادية والتفاوتات الاجتماعية.
لينا: أتفق معك تمامًا على أن الثقة أمر أساسي لأي تحول اقتصادي جوهري - لا سيما في النظام المصرفي والبيئة التجارية والمؤسسات العامة. لقد ناقشت هذا الأمر مع العديد من الخبراء في لبنان الذين يؤكدون أن استعادة الثقة في القطاع المالي، خاصة بعد انهياره إبان أزمة 2019، أمر أساسي لتعزيز الاستقرار والسلام. وينطبق ذلك على سوريا أيضًا، إذ أن إظهار تحسن في النظامين المصرفي والاقتصادي قد يبعث الأمل في اقتصاد انتقالي ذي مصداقية ويرسي أسس إعادة الإعمار. بالأمس فقط، علمت أن شركات تخطط لإعادة إدخال البنية التحتية للاتصالات في سوريا، وأن الموعد النهائي لتقديم العروض هو 10 يونيو. بالنظر إلى الاهتمام الذي أبدته مؤخرًا شركات الاتصالات في دول الخليج العربي بمشروع البنية التحتية للألياف الضوئية في سوريا، كيف تضمن الحكومة أن تساهم هذه الاستثمارات في النمو الاقتصادي على المدى الطويل وتعود بالنفع على السكان ككل؟
جوزيف ضاهر: سؤال جيد، لينا. دعيني أبدأ بالقطاع المصرفي. يتطلب كل انتقال اقتصادي جوهري قطاعاً مالياً فعالاً. وقد تضرر النظام المصرفي السوري بشدة، لكن تخفيف العقوبات مؤخراً والخطوات المتخذة نحو إعادة الاندماج في النظام المالي الدولي تمثل تطورات إيجابية. ومع ذلك، يجب توخي الحذر. كان لبنان يحظى بواحد من أكثر الأنظمة المصرفية تطوراً في المنطقة، لكن جزءاً كبيراً من الودائع خُصص لخدمة الديون أو تمويل العقارات أو إنعاش الاستهلاك، وليس للقطاعات الإنتاجية. سارت سوريا على نفس النهج حتى العام 2011. لم تؤدِ البنوك العامة دورها، وانخفض مستوى الودائع بنحو كبير.
يقتضي إسهام حقيقي للقطاع الخاص - لا سيما الشركات الصغيرة والمتوسطة والمزارعون - تحسين الإفادة من الائتمان. وهذا يتطلب المزيد من الودائع ومؤسسات مصرفية أقوى تدعم القطاعات الاقتصادية المنتجة. ومن شأن ذلك أن يساهم في استقرار الليرة السورية وخلق فرص عمل وتوليد إيرادات ضريبية. وثمة حاجة، في الآن ذاته، إلى إصلاح ضريبي، وبوجه خاص إلى فرض ضرائب تصاعدية عوضا عن الاعتماد على الضرائب غير المباشرة الظالمة التي تسود معظم الاقتصادات العربية. وللأسف، تفضل القيادة الحالية المصالح التجارية. تحدث أحمد الشرع بشكل رئيسي مع كبار رجال الأعمال السوريين، داخل البلد وخارجه، وليس مع النقابات أو الجمعيات المهنية أو فاعلي المجتمع المدني المحلي، ما أثار تساؤلات حول طابع الدمج والإنصاف في هذه العملية الانتقالية.
فيما يتعلق بمسألة قطاع الاتصالات وتدخل دول الخليج: استثمرت هذه الدول أكثر، على مدى العقود الماضية، في البنى التحتية الأساسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لا سيما عبر عمليات الخصخصة في بلدان المنطقة. يندرج ذلك في إستراتيجيتها الأشمل لتوسيع نفوذها السياسي والاقتصادي. يجب، برغم ضرورة الاستثمار الدولي، أن تظل القطاعات الحيوية مثل الاتصالات تحت سيطرة الدولة وإشراف ديمقراطي لضمان السيادة والمساءلة أمام العامة. غالبًا ما تؤدي الخصخصة إلى تقليص حقوق الشغيلة وتقييد الوصول العام من خلال رفع كبير للأسعار. يوجد حالياً في سوريا مزودان بخدمات الاتصالات هما سوريا تيل (SyriaTel) و MTN. تمثل سوريا تيل، التي كان يسيطر عليها سابقاً رامي مخلوف، رمز المحسوبية في عهد الأسد. من الناحية المثالية، ينبغي إعادة هذه الشركات إلى سيطرة الدولة. يمكن أن تسهم عائدات الاتصالات بشكل كبير في جهود إعادة الإعمار. وينبغي أن تولي أي استثمارات في هذا القطاع أسبقية لتوسيع نطاق الوصول وتحسين البنية التحتية وتطوير القدرات التكنولوجية المحلية - دون أن تؤدي إلى مفاقمة ضغوط كلفة معيشة السوريين العاديين. وهذا يطرح مشكلة أخرى: رواتب القطاع العام. فقد وعدت هيئة تحرير الشامبزيادة الرواتب بنسبة 400% منذ يناير/كانون الثاني، لكن ذلك لم يتجسد. يتقاضى الموظفون الحكوميون حاليا ما بين 20 و25 دولاراً في الشهر. وحتى لو ارتفعت الرواتب إلى 80-100 دولار، ستظل أقل بكثير من تكاليف المعيشة الدنيا - التي تقدر بأكثر من 600 دولار على الأقل لأسرة مكونة من خمسة أفراد في دمشق. وتذكر المكافآت التي تُمنح خلال الأعياد، مثل عيد الأضحى، بالتكتيكات القديمة التي كانت سائدة في عهد الأسد، ولا تلبي الحاجات الهيكلية. قبل الانتفاضة، كان متوسط الرواتب في القطاع العام يتراوح بين 200 و250 دولاراً، مع كلفة معيشية أقل بكثير.
إجمالا، تعبر السياسات الاقتصادية في ظل السلطات الحالية عن استمرارية مع الماضي. ثمة حاجة إلى استثمارات في قطاعات مثل الاتصالات والكهرباء، لكن يجب أن تكون مصممة لخدمة الشعب - وليس لترسيخ السيطرة الأجنبية أو تعزيز عدم المساواة. يثير المسار الحالي مخاوف كبيرة بشأن السيادة وحقوق الشغيلة والقطاعات الإنتاجية في الاقتصاد والتأثير طويل الأمد على المجتمع السوري.
لينا: كنت أعتقد، مع الغاء العقوبات وقدوم مستثمرين أجانب، أن هذه السؤال مهم يجب طرحه عليك، خاصة أنه يوضح كيف يمكن لهكذا استثمارات أن تحسن وضع سوريا الاقتصادي. لكن دعنا ننتقل إلى موضوع آخر. برغم ضرورة تعزيز الثقة المالية والاقتصادية، يجب أن يقترن بالاستقرار والأمن. إذ يتعذر، بدون هذه الأسس، أي انتعاش أو إعادة بناء اقتصادي مستدامة. بالنظر إلى الوجود العسكري التركي المستمر في شمال سوريا ودعمها، كيف تتعامل الحكومة السورية مع علاقتها مع أنقرة لضمان سيادتها واستقرارها؟ لأن السيادة مهمة في القانون الدولي. وما هي خطوات الحكومة السورية لتجنب التصعيد والحفاظ على السلام الإقليمي مع إسرائيل؟
جوزيف ضاهر: أولاً، فيما يتعلق بالعقوبات: يجب أن تستمر عملية الغائها. ما نلاحظ هو أن معظم الشركات الخاصة التي توقع حالياً اتفاقيات مع دمشق مدعومة من حكومات أجنبية. على سبيل المثال، تم توقيع عقد ميناء طرطوس من قبل دبي العالمية (الإمارات العربية المتحدة)؛ CMA-CGM (فرنسا)؛ واتحاد شركات بقيادة قطر يستثمر في البنية التحتية الكهربائية - وجميعها مدعومة من جهات حكومية. أما المستثمرون الخواص الذين لا يحظون بهكذا دعم حكومي، فيواجهون تحديات كبيرة، لا سيما بسبب الإشارات التحذيرية المرتبطة بالعقوبات.
أما بصدد تركيا، فربما أذنت في البداية لهيئة تحرير الشام، لكنها لم تتوقع انهيار النظام. كانت طموحات تركيا الإستراتيجية مقتصرة على الوصول إلى حلب، وليس إطاحة الأسد. ويجدر التذكير بأن تركيا كانت دخلت مرحلة تطبيع مع نظام الأسد، تميزت بمفاوضات حول قضايا مثل عودة اللاجئين والأمن القومي - لا سيما فيما يتعلق بالإدارة الذاتية الكردية في الشمال الشرقي، التي يهيمن عليها حزب الاتحاد الديمقراطي (المنتسب إلى حزب العمال الكردستاني). وقد أكد الرئيس أردوغان موقفه المعتبر كل شكل من الحكم الذاتي أو اللامركزية الكردية غير مقبول، واصفاً إياه بأنه ”حلم“. ومن هذا المنطلق، يشاطر أحمد الشرع هذا الموقف، فبرغم مطالبات هامة باللامركزية في سوريا، يؤيد وجود سلطة مركزية قوية في جميع أنحاء البلد. ويمكن تفسير الهجمات الأخيرة التي شنتها جماعات تابعة للسلطات الجديدة، أو مؤيدة لها، على مناطق تركز درزي كثيف، على أنها محاولات لإعادة تأكيد سلطة الدولة في المناطق الخارجة عن سيطرة دمشق الكاملة، مثل السويداء أو بعض أحياء دمشق و/أو مدنها.
كانت علاقة الطرفين قبل ديسمبر/كانون الأول 2024، براغماتية – برغم تصنيف تركيا لهيئة تحرير الشام كمنظمة إرهابية. لكن الدينامية تغيرت بعد ذلك التاريخ. فقد برزت تركيا رابحا سياسيا واقتصاديا وعسكريا رئيسا من سقوط النظام. تسعى أنقرة إلى إقامة قواعد عسكرية، وأعلنت استعدادها لتدريب الجيش السوري الجديد وتأكيد دورها كلاعب رئيس في مستقبل سوريا. وتظل تركيا، إلى جانب قطر، ممولًا رئيسيًا لأجزاء من الجيش الوطني السوري، الذي يلعب قادته دورًا مؤثرًا في الشمال برغم العقوبات. وبنحو مواز، يبدو أن الشرع يسعى إلى تنويع علاقاته الخارجية. إنه حذر، ولا يريد الاعتماد فقط على دعم تركيا أو قطر. ولهذا السبب، كانت المملكة السعودية وجهة أول زيارة رسمية له إلى الخارج. بيد الرياض مفتاح قبول عربي أوسع - وهو هدف تحقق في نهاية المطاف. على الرغم من أن لهيئة تحرير الشامجذورا جهادية، يعبر انسحابها من جماعات مثل القاعدة وداعش عن منطق براغماتي يركز على السلطة، عوض التزام أيديولوجي.
وتفسر هذا البراغماتية أيضاً تكثيفَ محادثات الشرع مع الولايات المتحدة بهدف إلغاء العقوبات. تظل تركيا الفاعل الخارجي الأكثر نشاطاً في سوريا، وتستعد شركات البناء التركية المرتبطة بأردوغان للمشاركة في إعادة الإعمار - التي من المرجح أن تمولها ملكيات الخليج. تمتلك هذه الملكيات رأس المال، لكن تركيا تحوز القدرات والجاهزية اللوجستية. تعتبر أنقرة سوريا سوقا رئيسية للتصدير والنفوذ. في عهد إدارة ترامب، كانت إسرائيل حريصة على التوصل إلى شكل من أشكال الاتفاق مع تركيا. ونتيجة لذلك، تراجعت التوترات والمواجهات المباشرة بين أنقرة ودمشق، برغم مواصلة إسرائيل مهاجمة جنوب سوريا واحتلاله.
نهجُ الشرع غيرُ محكوم بأي أيديولوجية. وتعبر عملية التطبيع الجارية في سوريا على الصعيدين الإقليمي والدولي عن هذا المسار. إذ يؤكد بانتظام أن سوريا لن تشكل تهديدًا لجيرانها - بما فيها إسرائيل. وقد اتخذ، في هذا الإطار، خطوات لإثبات استعداده لإرضاء المصالح الأمريكية والإسرائيلية، بما في ذلك التحكم في الفاعلين الفلسطينيين في سوريا، فضلاً عن الرقابة المتزايدة على حدود لبنان وسوريا، حيث يتم بانتظام حجز أسلحة موجهة إلى حزب الله.
لينا: كما ذكرت، رأينا الحكومة تحاول تسيير علاقة معقدة مع إسرائيل، وتبذل جهوداً لتخفيف التوترات مع تل أبيب - كما في قضية إيلي كوهين. ومع ذلك، تثير الضربات الإسرائيلية الأخيرة في جنوب سوريا القلق. هل تعتقد أن هذه الهجمات قد تؤثر على مسار العلاقات المستقبلية بين سوريا وإسرائيل؟ و هل يمكن، بالنظر إلى نفوذ تركيا المتزايد على المشهد السياسي والعسكري السوري، أن تؤدي أنقرة دوراً في الوساطة أو إعادة توجيه الدينامية بين البلدين؟
جوزيف ضاهر: لست متيقنا من إمكان الحديث عن علاقة ”جيدة“ بين سوريا وإسرائيل، بل عن تطبيع محتمل، وهو أمر مغاير تماماً. إن الإذن الذي أعطته الولايات المتحدة لنتنياهو، بشأن الحرب الإبادة الجماعية في غزة، أعاق أي عملية تطبيع كامل مع ملكيات الخليج. تبدو السعودية، على سبيل المثال، مستعدة للمضي قدماً، لكنها، على عكس دول الخليج الأخرى، مضطرة أن تراعي الرأي العام. لهذا السبب يبدو أن الرياض اتخذت خيارًا استراتيجيًا: إنها بحاجة، كي تواصل جهود التطبيع، إلى مقابل، من قبيل ”صفقة ضخمة“ مع الولايات المتحدة بشأن عدة مسائل، وخارطة طريق لحل الدولتين، بقصد الحفاظ على قدر من الشرعية على الصعيد الوطني. وفيما يتعلق بإسرائيل وسوريا، يلزم تفكيك أحد أكبر أساطير نظام الأسد، أي دعمه الثابت المزعوم للقضية الفلسطينية. في الواقع، هذا النظام ملطخ بدماء فلسطينية، سواء في سوريا أو لبنان. علاوة على ذلك، لم تطلق سوريا، منذ اتفاق الانسحاب عام 1974، رصاصة واحدة على إسرائيل في هضبة الجولان المحتلة. حافظ الأسد على نوع من الهدوء على الحدود، كان في الواقع يحمي مصالح إسرائيل. كانت إسرائيل على علم بذلك، وعندما بدأ النظام ينهار، خشيت حدوثَ اضطرابات على ما كان يعتبر حدوداً ”آمنة“. لهذا وسعت إسرائيل احتلالها في جنوب سوريا، واستهدفت البلد بانتظام بعدة هجمات في الجنوب ومناطق أخرى.
كما عبر نمط الضربات الإسرائيلية هذا عن موافقة إستراتيجية من جانب الولايات المتحدة - فواشنطن تدعم هذه العمليات وتسهلها. وقد تجلى ذلك بوضوح في غزة: منحت الولايات المتحدة إسرائيل، بين أكتوبر 2023 وأكتوبر 2024، أكثر من 18 مليار دولار من المساعدات العسكرية واللوجستية والإستراتيجية. لولا ذلك، لما أمكن ارتكاب الإبادة الجماعية في غزة. عودةً إلى سوريا: بعد ظهور أحمد الشرع كشخصية متجاوبة، تراجعت الضربات الإسرائيلية قليلاً. يبدو أن إسرائيل تدرك رغبة القيادة الجديدة في بناء تفاهم، برغم استمرار استهدافها للبلد وتدمير البنية التحتية في أراضي الجنوب، تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي. بعد قول هذا، لا تنوي إسرائيل إعادة هضبة الجولان المحتلة. بل على العكس، أعادت، في ديسمبر 2024، تأكيد سياسة الضم باستثمار أكثر من 11 مليون دولار، بهدف زيادة عدد المستوطنين من 30 ألف إلى 50 ألف شخص.
وهكذا نرى تناقضاً عميقاً. فمن ناحية، تنحاز النخب الحاكمة في المنطقة بنحو أكثر صراحة إلى إسرائيل والولايات المتحدة، حتى لو كلف ذلك إضفاء شرعية على الاحتلال والإبادة الجماعية. ومن ناحية أخرى، يظل التطبيع مسألة حساسة سياسياً حيث لا يزال الدعم الشعبي لفلسطين قوياً في العالم العربي. لهذا السبب، تنهج هيئة تحرير الشام وأحمد الشرع إستراتيجية توازن صعبة للغاية. يبدو أن الشرع يبني تحالفات جديدة مع الخليج والغرب، وبلغ به الأمر وصف سوريا وإسرائيل بأن لهما أعداء مشتركين، هم حزب الله وإيران، وهو ما حظي بإشادة من بعض القوى الأجنبية. يبدو أن الولايات المتحدة تدرك أن التطبيع الشعبي غير قابل للحياة، خاصة مع استمرار شعبية القضية الفلسطينية، سواء في سوريا أو في الشتات، وإن بدرجة أقل من ذي قبل. وبالفعل، مع إرهاق السكان العام، والفقر، والأزمة الاقتصادية، والعداء تجاه الفاعلين الفلسطينيين الذين يُنظر إليهم على أنهم أداة في يد إيران، أصبح هذا المسار نحو التطبيع أقل إثارة للنقد، على أمل أن يتيح مستقبلاً أفضل للسوريين. أصبحت شروط واشنطن لتقارب مستقبلي مع سوريا أكثر وضوحاً: ترسيخ سوريا في تحالف بقيادة الولايات المتحدة، وتأمين الحدود مع إسرائيل، ومنع نقل الأسلحة إلى حزب الله أو جماعات مسلحة أخرى، وضمان الجهود الداخلية لمكافحة الإرهاب.
ملاحظة
- 1
مظلومية السنة: يمكن ترجمتها بـ ”شكاوى السنة“ أو ”مروية اضطهاد السنة“. وهي تشير إلى المفهوم الاجتماعي-السياسي والأيديولوجي الذي يصور السنة (عادة في سياق وطني أو إقليمي محدد) على أنهم مهمشون أو مضطهدون أو ضحايا ميز، غالبًا كرد فعل على هيمنة أو محاباة متصورة تجاه مجتمعات شيعية أو أنظمة.