مجلة وموقع تحت مسؤولية المكتب التنفيذي للأممية الرابعة.

الحركة الكردية بعد حل حزب العمال الكردستاني

بقلم تينو بروغوس

ليس تنظيم مؤتمر حزب العمال الكردستاني في وقت قياسي تقريبًا، وكذا قرار إنهاء أنشطته وحل المنظمة، أحداثًا مفاجأة لمن رافقوا الحركة الكردية منذ عقود. نعلم أن عبادة شخصية رئيسها، عبد الله أوجلان، خط أحمر يصعب التشكيك فيه. بالنظر إلى هذا، وبعد تدخله في فبراير/شباط الماضي حيث أعلن أن حزب العمال الكردستاني قد أدى دوره، وأنه لم يبق غير تنظيم حل الحزب، لم يكن الأمر سوى مسألة وقت قبل أن يصير هذا الاقتراح واقعا.

ولعل أكثر ما لفت الانتباه ندرةُ المعلومات عن الموضوعات المناقشة فعلاً في المؤتمر في سياق عدم استقرار الإقليمي بالغ. ويبدو جليا أن ثمة خلف البيانات الرسمية نشاط مكثف من مختلف الجهات السياسية والدبلوماسية حول الظروف الحالية المتيحة تطور عملية سلام حقيقية ذات مضمون ملموس.

وبرغم أن وجود حزب العمال الكردستاني عنصر مهم، كما تقر بذلك تركيا، ليس بالضرورة أن يكون محددا لتطور نضال الشعب الكردي. في الواقع، نشأت في السنوات الأخيرة جملة منظمات وشبكات أفقية تسهل المشاركة، وتقلص دور التنظيم الحزبي إلى مجرد دور أيديولوجي، بالأقل من الناحية النظرية. يجدر التذكير إلى أنه بدأت، مع سقوط الاتحاد السوفيتي، سيرورة تفكير داخل حزب العمال الكردستاني اتخذت اجراءات لتعديل بعض الجوانب التي كانت تربط صورته ونموذجه التنظيمي بتقليد ماركسي-لينيني يعود إلى حقبة الحرب الباردة. وهكذا، بدأ الدين الإسلامي، الذي كان له دور هامشي للغاية في حياة حزب العمال الكردستاني، يجد مكانة في ممارسة الحزب، تماماً كما تم استبدال رمز المطرقة والمنجل التقليدي بمشعل مضاء يرتبط أكثر بدور النار في التقاليد ما قبل الإسلامية في المنطقة أو بعيد النيروز، العيد الوطني الكردي، الذي يُحتفل به بإشعال نيران بهجة في المدن والأحياء والقرى.

يمكن القول إن حزب العمال الكردستاني قام، حتى اختطاف/اعتقال أوجلان في عام 1999، بتجديد أيديولوجي خاص به، ببطء شديد وبما يتماشى مع ظروف اللحظة، في أواخر القرن الماضي. وقد سمح تطور دفاعه إبان محاكمته في تركيا بتعميق التغييرات التي كانت جارية إلى حد ظهور ما يسمى بالنموذج الجديد الذي قطع، بالأقل نظريا، مع عناصر مركزية سابقة: الهرمية، والمركزية، والشخصانية، والعسكرة، وفتح الطريق أمام مرحلة مطبوعة بنموذج أكثر انفتاحاً وفرص مشاركة، عزز جملة تغييرات مثل دور الشباب والنساء، وإدراج مراجع بيئية، والتخلي عن العقائد الجامدة القديمة.

انعكست هذه التغييرات في محاولة لتعديل العلاقات بين حزب العمال الكردستاني والدولة التركية. ولهذه الغاية، تم حل حزب العمال الكردستاني، وأُستُعيض عنه بحزب كادك (مؤتمر الحرية والديمقراطية في كردستان). كان الهدف تعميق التغييرات الداخلية والانفتاح على إمكان التفاوض مع الدولة التركية. بيد أن هذا الانفتاح سرعان ما اصطدم بالقيود المفروضة في تركيا والغرب على حد سواء: فقد أُعلِن حزب العمال الكردستاني وحزب كادك ومنظمات كردية أخرى منظمات غير قانونية وأُدرجت في قائمة المنظمات الإرهابية.

أفضى هذا كله إلى حصيلة متناقضة. فقد أرسى حزب العمال الكردستاني توجهًا جديدًا، هو المبدأ الكونفدرالي الديمقراطي. وأفلح، بهذا النحو، في إنهاء الأزمة التي هزت المنظمة بعد اعتقال أوجلان، لكنه لم يتمكن من فتح باب مفاوضات مع الدولة التركية. فتقررت، في ظل هذا السياق، إعادة استخدام اسم حزب العمال الكردستاني بعد عملية إعادة تأسيس. أعطت اليوتوبيا الجديدة حفزا جديدا لعملية كانت في أزمة مع اعتقال الزعيم ومحاكمته.

شهدت فترة سجن أوجلان أطوارا متعاقبة من الاتصالات مع الحكومة التركية وأخرى من الانقطاع والعزل في السجن. وهكذا، كانت ثمة، بين العامين 2008 و2010، هدنة فعلية، ثم بدأت في العام 2013 عملية مفاوضات هزتها تطورات الحرب الأهلية في سوريا وانتهت بانهيارها بعد فترة وجيزة، لتستأنف بعد ذلك الاتصالات والتبادلات التي مهدت طريق إعلان أوجلان الرسمي من السجن في فبراير 2025.

عمليات التفاوض والتسريح

تزامنا مع نهاية الحرب الباردة، جرت على الصعيد الدولي عمليات تفاوض مختلفة بهدف إنهاء بعض النزاعات التي استمرت خلال حقبة الكتل العسكرية. ومن أبرزها، العمليات المرتبطة باتفاقات إسكيبولاس في أمريكا الوسطى، التي مهدت طريق إجراء انتخابات في نيكاراغوا عام 1990، واتفاقات تشابولتيبيك، التي أنهت الحرب في السلفادور، وما تلاها من اتفاقات أثرت على غواتيمالا وأدت إلى حل منظمة الوحدة الثورية الوطنية الغواتيمالية (URNG).

ولعل أبرز هذه العمليات تلك التي بدأت في كولومبيا في الثلاثين عاماً الماضية. وبرغم كل محدوديتها، كانت أول هذه العمليات تلك التي أثرت على حركة M-19 ومنظمات أخرى أصغر حجماً في العام 1991. من جانبها، دخلت القوات المسلحة الثورية الكولومبية (FARC) في عمليات هدنة وتفاوض وانفصال متتالية منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى توقيع اتفاقات هافانا في العام 2016. وحتى جيش التحرير الوطني ELN، المعتبر الأكثر تردداً في مفاوضة السلطات، يشارك منذ التسعينيات من القرن الماضي في اتصالات وتبادلات مع حكومة كولومبيا في ألمانيا وإسبانيا وكوبا.

يروم هذا كله إيصال فكرة أن بدء عملية مفاوضات جادة من أجل تسريح المسلحين النهائي والتخلي عن الكفاح المسلح يعني فتح فترات تفاوض طويلة قد تشهد أطوارا من الجمود وأخرى من التقدم. لكل حالة خصائصها المميزة، ولا يمكن أن تفيد الأساليب المستخدمة في حالة ما في عملية أخرى خارج الإطار المقارن. ويمكن إضافة أمثلة أخرى من مناطق أخرى من العالم (مينداناو في الفلبين أو آتشيه في إندونيسيا)، وحتى أوروبا مع حالة أيرلندا الشمالية واتفاقات الجمعة العظيمة، وهذا اكتفاء بمثال العمليات التي توصلت إلى اتفاق نهائي لتسريح المسلحين. وقد تكون حالة الباسك مهمة بشكل خاص للحركة الكردية، إذ أنها عملية تخل وحل لم تحظ باعتراف من الدولة الإسبانية.

قياسا بكل هذه الحالات، يبدو أن حزب العمال الكردستاني قد بدأ مرحلة جديدة دون أن يحصل، حتى الآن، على أي شيء في المقابل. يُستشعر تسرع ما (أو إصابة بانهاك؟) في الجانب الكردي، الذي يتوق إلى بدء مرحلة جديدة بينما لم تحرك الجانب الحكومي قط. فتحت نهاية عزلة أوجلان وتصريحه الطريق أمام حقبة جديدة تمر ، بالنسبة للحركة الكردية، بعملية تفاوض. وبدون حصول الدولة التركية على نتائج ملموسة، تم الإعلان عن التخلي عن الكفاح المسلح وحل المنظمة. ومن المعروف في السياسة أن الظاهر مهم، ولكن حتى ما لا يظهر للوهلة الأولى. لذا، سيكون من المناسب الانتباه لتطور الأحداث في المستقبل القريب من أجل تقييم دقيق للإجراءات التي ستتخذ.

مهما يكن من أمر،  ينبغي ألا يمنع ذلك طرح تساؤلات عديدة حول تطور الحركة الكردية، والاستقرار الإقليمي، والشكوك بشأن توطيد ما حققت الحركة من مكاسب في العقود الأخيرة.

يتعلق السؤال الأول بما إذا كنا إزاء محاولة لدمج الحركة الكردية في النظام السياسي التركي. وإذا كان هذا الافتراض واردا، فلابد من جملة من تغييرات هامة لا تبدو واردة في الأفق القريب على الأقل: تعديلات قانونية جوهرية تطال الإطار الدستوري الحالي، فضلاً عن الاعتراف الفعلي بحقوق التجمع والتعبير وتكوين الجمعيات، والاعتراف بالتنوع الثقافي، وإطلاق سراح آلاف السجناء السياسيين، على سبيل المثال لا الحصر. وقد تحفز رغبة أردوغان في البقاء في السلطة بأي ثمن هذه الفكرة، التي تتطلب دعم اليمين القومي المتطرف (حزب العمل القومي)  ومواجهة حزب الشعب الجمهوري العلماني والكمالي، الذي كان حتى سنوات قليلة مضت قاعدة ارتكاز النظام التركي. ومن شأن تطور هذا الاتجاه أن يمنح البرلمانيين المنتمين إلى حزب المساواة وديمقراطية الشعوب دوراً بارزاً.

يتعلق الانشغال الثاني بتطور سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد البعثي. كل شيء يشير إلى أننا دخلنا مرحلة ستشهد تقسيم مناطق النفوذ في سوريا، بين تركيا في الشمال وإسرائيل في الجنوب. كيف ستتكيف الحركة الكردية مع هذا الواقع الجديد؟ هذا أمر مجهول. تم التنديد لعقود طويلة بالتقسيم الاستعماري للمنطقة وإنشاء حدود مصطنعة. والآن، هناك مؤشرات على تغييرات قد يفرضها انتصار المشروع الاستعماري الصهيوني، وهو سيناريو لم تكن التحليلات السياسية تتوقعه حتى وقت قريب جداً. وسيتعين على الحركة الكردية ايجاد توازن لتحسين مواقفها في تركيا دون التخلي عما حققت في شمال شرق سوريا.

يجب، في السيناريو السوري الجديد، حل مشكلة دمج الواقع السياسي التي أوجدتها الحركة الكردية خارج تركيا: حالة روج آفا والإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا. لقد ساعد نموذج الكونفدرالية الديمقراطية في تنظيم المنطقة الكردية في سوريا، وامتد إلى منطقة جغرافية تتجاوز الأراضي الكردية (روج آفا). ومن المفارقات أن قيادة الحركة توجد في تركيا، لكن بناءها السياسي تطور في الخارج. وقد يؤدي جمع هذين العنصرين إلى توترات. قد يكون لزوال حزب العمال الكردستاني كمرجع سياسي أثر محدود طالما بقي اتحاد مجتمعات كردستان (KCK) بديلاً وفضاءً للوحدة والتقارب بين المنظمات المؤيدة لفكرة الكونفدرالية في أي جزء من أجزاء كردستان المقسمة حالياً. وينبغي الاستفادة من صياغة دستور جديد لسوريا، وضرورة وضع إطار قانوني جديد في تركيا، للبحث عن صيغ تتيح استمرار العلاقات عبر الحدود بين مختلف أجزاء الأراضي الكردية.

ومن العناصر المثيرة قلقاً خاصاً وجود إطار لضمانات تنفيذ الاتفاقات المفترضة الممكن التوصل إليها، والتي ينبغي أن تنص، ضمن أمور أخرى، على الاعتراف الدولي للتحقق منها. كان متداولا في فبراير، بعد إعلان أوجلان، أمر الشروع في فترة جديدة من التفاوض السياسي. وبعد مضي ثلاثة أشهر، لم يتجسد هذا المسار بعد. ولا تزال الحركة الكردية تتحدث عن ضرورة الضغط على مختلف الحكومات الأوروبية لتدفع أردوغان لإعطاء مضمون حقيقي لعملية لم تنطلق بعد على الرغم من خطوات حزب العمال الكردستاني. ومن المهام العاجلة إنشاء مجموعة دولية مكلفة بضمان تنفيذ الاتفاقات التي يمكن إبرامها.

وسيكون لتطور عملية تسريح المقاتلين والتخلي عن الكفاح المسلح أهمية إقليمية خاصة. في الوقت الحالي، وفي غياب اتفاقات ملموسة، يمكننا الحديث عن تعزز اليمين في منطقة الشرق الأوسط بأسرها. حتى الآن، كانت الحركة الكردية تبدو القوة العلمانية الوحيدة الساعية إلى تغيير الواقع السياسي والدولاني في المنطقة. مع وجود حكومة صهيونية متطرفة في إسرائيل، وهيمنة مختلف التيارات الإسلامية في البلدان العربية في المنطقة، كانت الآمال العلمانية والتحررية معلقة على رهان الحركة الكردية والدور البارز المسند للنساء، باعتبارهن ذاتا جماعية مضطهدة من قبل جميع الأطراف السياسية المتنافسة. ويبقى أن نرى تأثير الاتفاقات المحتملة على هذا الواقع.

المشكلة الكردية تتجاوز وجود حزب العمال الكردستاني

مهما يكن من أمر، يتعين أن يُؤخذ بالاعتبار عنصر يتجاوز حزب العمال الكردستاني. فالشعب الكردي موجود، وبات فاعلا سياسياً لا يمكن تجاهله عند تحليل المشكلات التي تؤثر على الدول التي تتقاسم كردستان منذ أكثر من قرن. كان لكل الأزمات التي عصفت بالمنطقة، وهي كثيرة، تأثير على المناطق الكردية. وقد توطدت قوى الفاعلين السياسيين الأكراد، الذين لم تكن العلاقات بينهم دائماً جيدة، وسيستمر وجودهم إلى ما بعد حل حزب العمال الكردستاني. تاريخ الحركة الكردية برمتها مطبوع بحقب مختلفة من الاعتراض والتمرد على الدول التي تدعم التقسيم الذي تم بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. لا يوجد أي تنازل عن الطعن في التقسيم الاستعماري والحدود التي نشأت بموجب معاهدة لوزان، كما لا يوجد أي تنازل فيما يتعلق بالأصل اليساري للحركة التي نشأت في باكور (كردستان التركية) في السبعينيات، والتي تمنحها هوية راديكالية وتغييرية معززة بنصف قرن من النضال والتجارب السياسية.

المصدر