
كان من شأن الإضراب السياسي الشامل، وفي الختام الإضراب العام ضد انتهاكات "الجنرال الحديدي" هيندنبورغ Hindenburg للدستور، أن يكون سلاحاً هاماً - وربما الأكثر حسماً - في النضال ضد الفاشية. لكن، من ناحية، ساعد زعماء النقابات العمالية، السائرين على خطى جناح الاشتراكية الديمقراطية اليميني، على تتويج هذا الرئيس، ومن ناحية أخرى، كان أملهم في أن ألمانيا لا يمكن أن تُحكم بدونهم، وبالأحرىضدهم.
كان لهذا الافتراض الأخير أن يصح لو استخدمت النقابات قوة العمال/ات المنظمين/ات للدفاع عن الحقوق الديمقراطية. لكن القيادة لم تكن تعلق آمالها على قوة العمل النقابي، بل على "بصيرة" أكبر من جانب القوى السياسية الممثلة بـ"الجنرال الاجتماعي"شلايشرSchleicher. كان الهدف من هذا "المخرج" هو منع أخطر مظاهر الفاشية وإعادة الهدوء إلى البلد وسد طريق هتلر Hitler إلى منصب مستشارية الرايخ.
على غرار مجلس إدارة الحزب الاشتراكي الديمقراطي، انخدع قادة النقابات العمالية - بمختلف اتجاهاتهم - بإمكان إنقاذ المنظمات بالحفاظ على مسار الشرعية المطلقة والحياد السياسي. لم يتمكنوا من استخلاص الدرس الذي لقنه النظام الفاشي الإيطالي في الفترة 1925-1927 فيما يتعلق بالقضاء على النقابات. وبانتحارهم السياسي، حاولوا يائسين الهروب من إماتة منظماتهم.
لم تهدر النقابات الحرة، أقوى أعمدة الاتحاد النقابي الدولي، بفعل ترددها منذ 30 يناير، مؤهلاتها الخاصة وحسب، بل أيضًا العديد من الإمكانات الأخرى على المستوى الدولي. في 19 أبريل، بعد أن أعلن الاتحاد العام النقابي الألماني ADGB (سلف الاتحاد الألماني للنقابات DGB) على الملأ دعوته إلى التظاهر يوم فاتح مايو، أصبحت القطيعة بين الاتحاد العام النقابي الألماني والاتحاد النقابي الدولي نهائيًا.
قمع موجه بخطة
في نهاية العام 1932، اتفق الجميع في الحزب النازي (NSDAP) على ضرورة زوال النقابات العمالية القائمة باعتبارها "منظمات صراع طبقي"، والاستعاضة عنها بأجهزة دولة تعاونية. لم تتباين الآراء سوى حول كيفية ذلك وتوقيته. هكذا، كانت سياسة هتلر، في مرحلة أولى، تروم تجاوز جسم الشغيلة المنظمين بأكبر قدر ممكن من الحذر، للحفاظ على حوافز للعمل لدى الشغيلة وتجنب إعطاء انطباع بسعي إلى سلبهم شيئًا ما.
بما أن النقابات كانت تستفيد،في الطور الأول من "الثورة الوطنية" الهتلرية، من هوامش مناورة، كان قادة النقابات يميلون أكثر فأكثر إلى اعتقاد بأن تكيفهم بشكل كافٍ مع السلطة الجديدة سيؤدي إلى الاعتراف بهم كأعضاء في "الدولة التعاونية" الجديدة.
كانت النتائج الأولى لانتخابات لجن المقاولة، التي بدأت في مارس، قد أظهرت مرة أخرى لهتلر أنه لن يتمكن أبداً من وضع يده على مجالس المقاولات بواسطة NSBO (المنظمة الوطنية لخلايا المقاولة الاشتراكية- م.و.خ .م.إش). برغم الضغط الأشد على العمال، وبرغم تحالفات القوائم مع جمعيات المستخدمين الوطنيين، وجمعيات محلية هزيلة لشغيلة رجعيين، لم تفز م.و.خ .م.إش NSBOإلا بنسبة 25% من مجموع المنتدبين، ولك فقط حيث كان يشكل العمال ذوو المهارات العالية والمستخدمون معظم القوى العاملة.
وخشية تحول الانتخابات في الشركات الكبيرة إلى مظاهرات ضد حزب العمال الوطني الاشتراكي الألماني NSBO، جرى تأخير الانتخابات فيها بمبررات مختلفة كل مرة، إلى أن أتاح قانون لجن المقاولة، الصادر في 4 أبريل، تأجيل جميع الانتخابات حتى نهاية العام، وبالتالي استبعاد "العمال الذين كان موقفهم معاديًا للدولة" من لجن المقاولة التي كانت لا تزال قائمة، بنحو يمكن دمج النازيين فيها.
كان هذا القانون مرحلة في خطة طويلة الأمد للسيطرة على النقابات العمالية بعمل مفاجئ على مستوى الرايخ. نُفذت، كجزء من خطة العمل هذه، الحيلة الأكثر إتقانًا: رفع يوم فاتح مايو إلى مقام "عطلة رسمية للاحتفال بالعمل الوطني" بموجب قانون 10 أبريل 1933.
كانت "لجنة العمل" من أجل "حماية العمل"، التي ظل وجودها سريًا تمامًا، حتى داخل الحزب، برئاسة ليي Ley ، قد أعدت بالتفصيل إلى غاية 13 أبريل برنامج الاستيلاء، بينما كان غوبلزGoebbels المختص في تنظيم المظاهرات الجماهيرية قد تكرس لإعداد احتفالات فاتح مايو.
كتب غوبلز في مذكراته "سوف نجعل من فاتح مايو مظاهرة كبرى لإرادة الشعب الألماني. في 2 مايو، سيجري احتلال مقرات النقابات العمالية إنه التطويع والاصطفاف في هذا المجال أيضًا.قد يسبب هذا الأمر ضجة لبضعة أيام، ولكن بعد ذلك ستكون لنا. لا حاجة هنا لاستعمال قفازات."
خضوع الاتحاد العام النقابي الألماني (إ.ع.ن.أ ) ADGB
أعلن ليفارت Leiphart رئيس نقابة إ.ع.ن.أ في رسالة "مفتوحة" إلى هتلر، ضرورة إنجاز المهام الاجتماعية للنقابات، " أبانت النقابات، باستقلال عن طبيعة قادة الدولة، عبر طلب الوساطة العامة والاعتراف بها [...] أنها تعترف بحق الدولة في التدخل في النزاعات بين العمال المنظمين وأرباب العمل. و لا تطلب النقابات التدخل في سياسة الدولة".
أعلن سكرتير الاتحاد جون إهرنتايت John Ehrenteitفي اجتماع المسؤولين النقابيين في الاتحاد المحلي في هامبورغ الكبرى Grand Hambourg:" إننا مستعدون وقادرون على مساعدة زعيم الدولة الجديدة على تحقيق رغبات العمال وتطلعاتهم في المجالين الاجتماعي والاقتصادي... حتى في هذه الظروف يجب ألا تهمل المنظمات النقابية مهامها الاقتصادية والاجتماعية. لقد حددت حكومة الرايخ الحالية لنفسها نفس هدفنا. يسهل هذا على النقابات العمالية إيجاد مكانها ضمن برامج الحكومة".
كان قادة النقابات العمالية يظهرون، بهذا الاستسلام المهين، عجزهم في مواجهة النازيين، وبعد أن سيطر روبرت لي Robert Ley ومعاونوه على النقابات، سخر هتلر علنًا من محاولاتهم التوفيقية.
كان تحويل يوم النضال العالمي التقليدي للحركة العمالية الاشتراكية إلى مهرجان وطني كبير بمثابة استفزاز واسع النطاق. كان من المتوقع أن يعارض قادة النقابات العمالية اغتصاب فاتح مايو هذا. بيد أن جريدة الاتحا العام النقابي الألماني نشر مقالاً لوالتر بول Walter Pohl ،عشية فاتح مايو، جاء فيه:"لسنا بلا شك في حاجة إلى إنزال رايتنا للاعتراف بانتصار الاشتراكية الوطنية. برغم أن النصر تحقق بمحاربة حزب اعتبرناه دوما حامل الفكرة الاشتراكية، فإنه نصر لنا أيضا، لأن مهمة بناء الاشتراكية اليوم موضوعة أمام الأمة برمتها".
نقرأ في نداء للاتحاد العام النقابي الألماني، يستعير لغة الاشتراكية-الوطنية، ما يلي: بسعادة غامرة نحيي إعلان حكومة الرايخ يومنا عيدا للعمل الوطني، عيدا شعبيا ألمانيا. في هذا اليوم، كما جاء في الإعلانات الرسمية، يجب أن يكون العامل الألماني في قلب الاحتفال. في الأول من مايو، يجب على العامل الألماني أن يُظهر، وهو مدرك لمكانته الاعتبارية، أنه عضو كامل العضوية في الجماعة الوطنية".
أمام إبراز الخضوع هذا، لم يعد متوقعاً أن تعارض كتلة أعضاء المنظمات العمالية الاستفزازات بشكل عفوي، هي التي أثبتت مرة أخرى رغم إرهاب الفاشيين، ولاءها للحركة العمالية الاشتراكية عبر تصويتها يوم 5 مارس لصالح الأحزاب العمالية (000 776 لصالح الاشتراكيين الديمقراطيين وحوالي 5 ملايين (000 485 4) لصالح الشيوعيين).
احتلال مقرات النقابات
في 2 مايو، جرى احتلال مقرات النقابات في جميع أنحاء ألمانيا من قبل قوات "فيالق الحماية" SS و المنظمة شبه العسكرية للحزب النازي "مفارز الاقتحام" SAوالشرطة. أُعتقل أبرز قادة النقابات العمالية رغم محاولاتهم التوفيقية. أرادوا بمقترحاتهم الاستسلامية المقززة "إنقاذ منظمتهم". لم ينقذ الكثير منهم حتى رؤوسهم.
بيد أنه لم يكن ممكنا تعمية جماهير الشغيلة الذين تربوا على العمل النقابي المستقل. وكانت السلبية تعبيرهم عن معارضتهم. إذ شاركت 30% فقط من شركات برلين في المظاهرة المركزية في مطار تمبلهوف. Tempelhof
سارت المناورات الاشتراكية الوطنية في 2 مايو بدقة متناهية. ففي العاشرة صباحًا، احتلت قوات "فيالق الحمايةّ SS و"مفارز الاقتحام" SAبصفتها"شرطة مساعدة"مقرات النقابات العمالية، وبنك العمال والمستخدمين والموظفين في برلين وفروعه في الرايخ، وجميع مراكز الأداء ومكاتب تحرير الصحافة النقابية.
جرى وضع ليفارتLeiphart، وغراسمان Graßmann، وفيسيل Wissell، وأيضا رؤساء جميع الاتحادات ومدراء بنك العمال، وكبار مسؤولي مجمل البيروقراطية النقابية، ومحرري الصحافة النقابية، في "الحبس الاحتياطي".صودرت جميع ممتلكات النقابات الحرة وجُمدت حساباتها. باستثناء حالات قليلة (أربع حالات قتل في دويسبورغ Duisbourg)، نُفذت هذه الإجراءات في غضون ساعة واحدة دون مواجهة أي مقاومة. في اليوم نفسه، مورس الضغط على الاتحادات النقابية الأخرى (المسيحيون وغيرهم) من أجل "الخضوع طواعية"، وفي 5 مايو استطاع ليLey أن يعلن لهتلر أن جميع اتحادات العمال والموظفين الرئيسة، التي تضم أكثر من 8 ملايين عضو، "خضعت بنفس الطريقة وبدون شروط."
شكل يوم 2 مايو 1933 مظهراً لإفلاس الحركة العمالية الألمانية التي كانت حتئذ أكبر الحركات الجماهيرية المنظمة وأغناها بالتقاليد. وقد جعل عجزها عن الرد انتصار الفاشية ممكنًا. ووضع هذا الانتصار نهاية لمرحلة تاريخية كاملة.
كانت الهزيمة النهائية للاشتراكية الوطنية إيذانًا ببدء مرحلة جديدة في التاريخ الألماني. يبدو، برغم ذلك، أن الغالبية العظمى من قادة اليوم لم يتعلموا حتى الآن شيئًا من مصير الحركة العمالية الألمانية المأساوي في سنوات 1923-1933.
أبريل 1970
https://iso-4-rhein-neckar.de/1-mai-1933