
شنت حركة حماس، يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، هجومًا مباغتًا على إسرائيل، أدى إلى مقتل زهاء 1200 شخص. وطالبت الحركة إسرائيل بإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين من سجونها، وسحب مستوطنيها من الأراضي الفلسطينية. يندرج تفجر العنف هذا في سلسلة صراعات مستمرة منذ عقود، أدت إلى جملة أخرى من ردود الفعل، حيث أودت حرب إسرائيل الشاملة على غزة بحياة أكثر من 000 50 فلسطيني، معظمهم مدنيون، بنسبة من النساء والأطفال ساحقة، بين أكتوبر 2023 وديسمبر 2024.
تجاوز الصراع حدود البلدين، وباتت صرخة أهل غزة أكبر علامة استفهام تلوح في أفق المجتمع الدولي وما يسمى بالضمير الحضاري.
جلبير الأشقر، أستاذ لبناني في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن، معروف بإلمامه العميق بالجغرافيا السياسية لغرب آسيا وما تنطوي عليه غالبا من تداخلات دولية.
يتناول الأشقر في مقابلة مع سنيغدندو بهاتاشاريا، حالة الاضطراب واللايقين الحالية في المنطقة، بدءاً من سقوط نظام آل الأسد في سوريا ومستتبعاته على النضال الفلسطيني، وصولاً إلى نفاق القوى الغربية المتجلي في دورها المفارق في الحرب الروسية الأوكرانية.
- كيف ترى مستتبعات تغيير النظام في سوريا؟
لن أسميه تغير نظام، لأن هذا التعبير اتخذ معنى خاصا جدا، لاسيما منذ الغزو الأمريكي للعراق. فقد بات يدل على قوة خارجية تسعى إلى تغيير نظام. سأتحدث بالأحرى، في حالة سوريا، عن انهيار حقيقي للنظام، على غرار انهيار النظام في كابول عام 2021، عندما بدأت القوات الأمريكية تغادر البلد.
إنه بالطبع حدث بالغ الأهمية بسبب ما كان لسوريا من دور منصة رئيسية لإيران بوجه خاص، ولكن أيضًا لبلدان أخرى. كانت هناك خمس قوات أجنبية على الأراضي السورية. أولها إسرائيل التي تحتل مرتفعات الجولان جنوب البلد منذ عام 1967. وتدخلت القوات الإيرانية والروسية تباعا في عامي 2013 و2015. واجتاحت القوات التركية أجزاء من الشمال في عام 2016. وتوجد القوات الأمريكية في الشمال الشرقي، لا سيما في المنطقة الكردية.
جلي والحالة هذه أن لانهيار نظام الأسد، المدعوم من روسيا وإيران، أهمية استراتيجية كبرى. ولهذا السبب يمثل ما جرى حدثا مذهلا.
- بُعيد رحيل الأسد، احتفل السوريون، بمن فيهم اللاجئون، بانتصارهم في كل مدن البلد. لكن هذا الحدث غمر الفلسطينيين بقلق أكبر، إذ كانوا يخشون أن يعزز سقوطُ الأسد إسرائيل. ثم أوقفت إسرائيل الاحتفال السوري. وطبعا، قصفت تركيا والولايات المتحدة هما أيضًا سوريا، لكن العامل الإسرائيلي هو الذي أفسد بوجه خاص احتفال السوريين. هل يمكنك أن تحدثنا أكثر عن تعقيدات هذا الوضع الجيوسياسي؟
باتت الأزمة الإنسانية قائمة. إذ شهدت سوريا، في السنوات القليلة الماضية، انهياراً اقتصادياً قبل انهيارها السياسي. فقد تطور اقتصاد عصابة مخدرات يتحكم به النظام. وكان وضع سائر السكان الاقتصادي كارثة قصوى. انهارت العملة المحلية، ومعها قوة الناس الشرائية. وكان متوسط دخل الموظف الحكومي حوالي 25 أو 30 دولارًا شهريًا. وهذا مبلغ ضئيل جدا حتى في أفقر البلدان. لذلك كان وضع أزمة إنسانية ينشأ بالفعل.
أطلق انهيار النظام السوري إحساسا عارما بالفرج. فقد سُجن مئات آلاف الأشخاص، واختفى عشرات آلاف آخرين وقُتلوا في السجون في ظل نظام عائلة الأسد الوحشي والمستبد. ولكن ثمة، كما يحدث غالبًا في مثل هذه الحالات، عندما ينهار نظام شبه توتاليتاري، مع غياب بديل ملموس، قلق كبير بشأن ما ستؤول إليه الأحداث. لا تزال قوى عديدة نشطة في سوريا، منها قوى محلية وأجنبية. مشاريع كل واحد منها معروفة إلى حد ما، لكن لا أحد يعرف لمن ستكون الغلبة. ولكن بوسع الناس بالأقل أن يتنفسوا بحرية في الوقت الراهن. إنهم يحاولون تنظيم أنفسهم. ويحاول المجتمع المدني الانبعاث، وهذا أكثر العناصر إيجابية في الوضع الراهن.
اغتنمت إسرائيل هذه الفرصة للاستيلاء على مزيد من الأراضي السورية في مرتفعات الجولان. لكن الأهم شنُّ إسرائيل مئات الغارات الجوية في بضعة أيام، مدمرةً بحسب المصادر الإسرائيلية ذاتها 80% من مقدرات سوريا العسكرية. يتعلق الأمر بمقدرة عسكرية رسمية أو نظامية للبلد، وليس بجماعات متمردة هامشية. لقد دمرت إسرائيل القوة البحرية السورية، وسلاح الجو، والمعدات المضادة للطائرات، الخ. إنه تدمير تام لمقدرات بلد العسكرية من قبل بلد آخر، في ظل لامبالاة عالمية شبه كاملة. ومن المدهش أن الأمر لم يثر سوى القليل من الاعتراضات أو الاحتجاجات.
تواصل إسرائيل سياستها العدوانية، لا سيما منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، بدايةً بالحرب على غزة ثم بالهجمات على لبنان وسوريا. وباتت القوات المسلحة الإسرائيلية تعمل لتدمير ثلاث أراضٍ، منها دولتان يُفرض أنهما ذواتا سيادة: لبنان وسوريا.
وفي ما يخص فلسطين، كانت حركة حماس تعتبر النظام السوري جزءًا مما يسمى محور المقاومة الذي تهيمن عليه إيران. وبرغم أن حركة حماس كانت على خلاف مع نظام الأسد منذ عدة سنوات، لأنها دعمت الانتفاضة ضد الأسد في عام 2011، تصالحت في الأخير مع النظام. وكان ذلك أيضًا جزءًا من سعيها لإعادة إرساء التحالف مع إيران. ودعت، لمَّا أطلقت عمليتها ضد إسرائيل في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، كلا من إيران وما يسمى بمحور المقاومة للانضمام إليها في معركة تحرير فلسطين.
واليوم، مع انهيار نظام الأسد، نرى حركة حماس تهنئ شعب سوريا. إنها تغير إذن الوجهة. وباتت تراهن على القوى الإسلامية ذات الدور الرئيس في سقوط الأسد. وترتبط بعض هذه المجموعات بجماعة الإخوان المسلمين. وحركة حماس ذاتها فرع فلسطيني لجماعة الإخوان المسلمين، وهي منظمة إقليمية. ولا ندري على هذا الصعيد، ما نوع السلطة السياسية التي ستظهر في سوريا وما سيكون موقفها من فلسطين. ولكن الأمر المؤكد هو أن تدمير مقدرات دولة سوريا العسكرية يضعف إلى حد كبير أي معارضة لدولة إسرائيل.
- ماذا عن حزب الله في لبنان؟
حزب الله ضحية كبرى. فقد وجهت له إسرائيل ضربات قاسية جدا منذ إطلاق هجومها في سبتمبر/أيلول 2024. وشنت القوات الإسرائيلية، حتى نهاية شهر نوفمبر/تشرين الثاني، ولمدة شهرين تقريبًا، هجمات مكثفة ضد حزب الله فاقت بكثير كل ما شهدنا في لبنان من قبل، متجاوزة جدا الهجوم الإسرائيلي على حزب الله في عام 2006. ونجح الهجوم الإسرائيلي هذه المرة، خلافًا لعام 2006، في تسديد ضربة شديدة جدًا لحزب الله. فقد قُطع رأس المنظمة بالكامل. وأغتيل الأمين العام.
وعملياً، قُتل معظم قادة المنظمة الرئيسيين، ودُمرت مقدرتها العسكرية إلى حد كبير. واليوم، مع سقوط النظام السوري، أي القناة المتيحة لإيران إرسال أسلحة إلى حزب الله، بات احتمال إعادة تسليح حزب الله، كما جرى عام 2006، ضئيلا عملياً، إن لم يكن مستحيلاً. لا أرى ولا أتصور كيف تمكن لإيران إعادة تسليح حزب الله. لقد خسرت إيران الكثير في كل هذا.
- ما تأثير ما جرى على إيران؟
حدث هذا بالضبط لحظة انتخاب دونالد ترامب لولاية ثانية. نعرف درجة عداء ترامب لإيران إبان ولايته الأولى. ونعلم أنه محاط بأشخاص يعارضون إيران بشدة. لذا ثمة دواع وجيهة عديدة لخوف إيران من هجوم، قد يكون مشتركا من الولايات المتحدة وإسرائيل، أو هجوما من الولايات المتحدة وحدها في ظل ترامب، يستهدف بوجه خاص منشآتها النووية. وقد أصبح ذلك ممكنًا جدًا، بل مرجحًا جدًا. وسيضغط بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، بكل ما أوتي من أجل شن هجوم على إيران. فذلك أمر طالما تمناه. لا يمكنه فعله بمفرده. تحتاج إسرائيل إلى الولايات المتحدة للقيام بذلك. إنها اللحظة المناسبة لنتنياهو لضرب إيران، مع عودة صديقه دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
- هل ترى إمكان نشوء محور مقاومة آخر، أو أيًا كان اسمه، ضد التحالف الأمريكي الإسرائيلي؟
لم يتبق من حلفاء إيران سوى اثنين لديهما بعض القدرات. أولهما الميليشيات الشيعية الموالية لإيران في العراق. بيد أن فعاليتها ضد إسرائيل أو الولايات المتحدة محدودة جدا. وكلما حاولت ضرب القوات الأمريكية، جرى التصدي لها بعمليات انتقامية قوية. ثم هناك الحوثيون في اليمن. فقد أطلقوا صواريخ في البحر الأحمر وعلى إسرائيل أيضاً. واليوم، يتم اعتراض معظم هذه الصواريخ، خاصة الموجهة إلى إسرائيل. ولكن من وقت لآخر، يحدث شيء ما. وقد شددت إسرائيل مؤخراً ردها الانتقامي على الحوثيين في اليمن. وربما ستذهب أبعد من ذلك إذا استمر هذا الأمر. أعني أن الميليشيات في العراق أو منطقة الحوثيين في اليمن، أو حزب الله الذي أصبح ضعيفًا جدًا، لا يمثل أي منها رادعًا قويًا لإسرائيل أو الولايات المتحدة. إيران ضعفت استراتيجيًا. منيت بهزيمة استراتيجية. وتوجد الآن في موقف أشد ضعفا لحظة تعاظم الخطر المحدق.
لذا أصبح الفلسطينيون الآن أكثر ضعفًا مما كانوا. برغم إيران، أمكن لإسرائيل شن حرب إبادة جماعية في غزة لأكثر من عام، مع الإفلات من العقاب. دمرت غزة. واقترفت إبادة جماعية، تندد بها اليوم جميع منظمات حقوق الإنسان مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية ومنظمة أطباء بلا حدود، وكذلك محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية. ومع ذلك فهي مستمرة منذ 14 شهرًا. وتستأنف السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية دورها كوكيل للاحتلال الاسرائيلي. وهذا أمر خطير للغاية على لمستقبل الشعب الفلسطيني.
- ذكرت احتمال أن تحاول الولايات المتحدة في عهد دونالد ترامب تدمير منشآت إيران النووية. يذكّرني هذا بالغزو الأمريكي للعراق باتهامه الزائف بامتلاك أسلحة دمار شامل. ويرى العديد من المراقبين أن هذا ما أغرق غرب آسيا في الفوضى. من سيحمّل أمريكا مسؤولية ما فعلت بالعراق؟
ثمة فرق كبير بين العراق وإيران. لم يكن لدى العراق أي سلاح دمار شامل لمّا غزته الولايات المتحدة في العام 2003. جرى تفتيش كل مكان دون العثور على أي أثر لهذه الأسلحة. لقد كذبت إدارة بوش بلا خجل. ولكن في حالة إيران، هناك أولاً منشآت نووية. ويمتلك البلد مقدرات إنتاج نووي كبيرة. وتم إبرام اتفاقات مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية لمراقبة محددة لهذه المنشآت. وكان ذلك مندرجا في الاتفاق النووي بين الولايات المتحدة و إيران في العام 2015 في ظل إدارة باراك أوباما.
لكن ترامب فسخ، إبان فترة ولايته الأولى، هذا الاتفاق. ومن ثم شعرت إيران بأنها في حل من التزامها بعدم تخصيب اليورانيوم بما يتجاوز حدًا معينًا. وأنتجت إيران اليورانيوم عالي التخصيب، الذي لا يمكن بالطبع استعماله سوى لغاية وحيدة: إنتاج أسلحة نووية. وحتى الوكالة الدولية للطاقة الذرية أشارت إلى هذا الأمر وحذرت إيران. لذا قد نشهد نوعًا من سباق مع الزمن في إيران، تكون فيه مدفوعة إلى إنتاج أسلحة نووية ردعا لأي هجوم. وليس الهجوم الذي نتحدث عنه مسألة سنوات بل ربما أشهر. فإما أن يستسلم قادة إيران تماماً، ويسمحوا بتفتيش حقيقي لمنشآتهم، أو يغدو هجوم أمريكي على هذه المنشآت واردا تماما.
الأمر، من وجهة النظر هذه، أخطر بكثير من غزو العراق. لن يكون هناك غزو لإيران. ستكون مجرد ضربة جوية. ولكن من شأنها إشعال المنطقة برمتها، التي هي بالفعل برميل بارود، ثم برميل نفط. الأمر أشبه باستهداف برميل نفط ضخم بصاروخ. وهذا ما يمكن بلوغه.
- كيف ترى دور القوى الغربية؟
القوى الغربية جزء لا يتجزأ من هجوم إسرائيل على غزة. إنها أول حرب أمريكية إسرائيلية مشتركة في التاريخ. إذا اعتبرنا كل الحروب في تاريخ دولة إسرائيل منذ عام 1948، سنة تأسيسها، نجد هذه هي أول حرب يمكن وصفها بأنها مشتركة بالكامل بين الولايات المتحدة وإسرائيل. لا ينقص سوى القوات على الأرض.
لا تشارك الولايات المتحدة في الهجوم على غزة، ولكنها سلّحت إسرائيل، لا سيما بتزويدها بالقنابل التي دمرت قطاع غزة. وقد مولت إسرائيل، ودعمتها، ودافعت عنها سياسيًا. وذادت عن إسرائيل على صعيد عسكري بنشر قواتها في المنطقة ضد أي عمل محتمل من قبل أي من أعداء إسرائيل. وعرقلت أي دعوة لوقف إطلاق النار. إنه دعم كامل، مع مشاركة مادية تامة في الحرب.
اتخذت دول أوروبية، في الآونة الأخيرة، مواقف يمكن نعتها بالصائبة نسبيًا - ولكنها محض مواقف. ذهبت أيرلندا إلى حد قطع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل. وكانت لبلدان مثل إسبانيا وبلجيكا مواقف أقرب إلى قواعد القانون الدولي. أما معظم الدول الأخرى، ولا سيما ألمانيا، فكان الموقف انضماما تاما غير مشروط. وقد حطم موقف الولايات المتحدة كليا إدعاء الغرب قواعد قائمة على نظام دولي ليبرالي، كما يقولون. عند مقارنة ردهم على غزو روسيا لأوكرانيا بردهم على غزو إسرائيل لغزة، ينسف الفارق الهائل كل ادعاء باحترام القانون الدولي والإنصاف وحقوق الإنسان وكل ذلك.
وبهذا المعنى، أعتقد أن ما رأينا هو آخر إسفين في نعش مزاعم الغرب الليبرالية. لا يعني هذا أن البديل أفضل. إنما يعني ببساطة أن العالم الذي نعيش فيه هو عالم يحكمه بنحو متزايد، للأسف، قانون الغاب، أي قانون الأقوى.
- هل لديك رسالة لعامة الناس؟
لقد بدأت كارثة عالمية. تعيد إلى أذهاننا ما حدث قبل قرن مع النازية والفاشية. إننا اليوم نواجه كارثة مناخية تهدد بالانتشار. سيكون كوكبنا عرضة لمصير رهيب للغاية ما لم تنتفض الشعوب، وتناضل من أجل الدفاع عن الديمقراطية ضد ميول أقصى اليمين التي نرى بكل مكان في العالم، ومن أجل السلام، ومن أجل إحياء عالم قائم على ميثاق الأمم المتحدة، عالم حيث يمكن عوض إنفاق ملايير الدولار في الأسلحة، تخصيصها للتصدي لتغير المناخ والفقر.
العالم على شفا كارثة عظيمة. الرحلة ابتدأت. نسمع حديثا عن استعمال الأسلحة النووية أكثر مما كان إبان الحرب الباردة، ما خلا أزمة الصواريخ في كوبا في العام 1962. ونسمع الأمر عينه بصدد الصراع الروسي الأوكراني والصراع المحتمل بين الولايات المتحدة وإيران. إننا نواجه كارثة، بلا أدنى مبالغة.
مصدر: https://links.org.au/node/7140
ترجمة : موقع https://alomamia.org/