مجلة وموقع تحت مسؤولية المكتب التنفيذي للأممية الرابعة.

استراتيجية هيئة تحرير الشام لتوطيد سلطتها في سورية

بقلم جوزيف ضاهر
Le conseiller de la sécurité nationale britannique Jonathan Powell (à gauche) rencontrant le président par intérim syrien Ahmad en-Chareh à Damas le 5 août 2025. Sana/Handout / AFP

أثارت إطاحة نظام بشار الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024 وما تلا ذلك من رفع العقوبات الأمريكية آمالاً بشأن مستقبل سورية، لكن بعد مرور ما يفوق عشرة أشهر، أصبح ما يتسم به النظام من طابع غير ديمقراطي ونيوليبرالي ومؤيد للإمبريالية جلياً بشكل مطرد.

يتعلق الأمر خاصة بالتجزؤ الإقليمي والسياسي، والتأثيرات والاحتلالات الأجنبية، والتوترات الطائفية – لا سيما بعد المذابح التي وقعت في آذار/مارس ضد السكان العلويين في المناطق الساحلية، المسفرة عن مقتل ما يفوق 1000 شخص، وبعد التعديات ضد السكان الدروز في نيسان/أبريل، وأيار/مايو، وأيلول/يوليو، وبعد الهجوم الانتحاري الذي استهدف كنيسة في دمشق في حزيران/يونيو.

استمرار حالة انعدام استقرار 

أدت الأحداث المأساوية التي وقعت في محافظة السويداء في منتصف تموز/يوليو إلى تفاقم الوضع: ارتكبت انتهاكات جسيمة ضد حقوق الإنسان، خاصة من قبل مجموعات مسلحة تابعة وداعمة للسلطات المركزية. ومؤخراً، في بداية تشرين الأول/أكتوبر، اندلعت مواجهات في حلب بين حيين تقطنهما أغلبية كردية (حي الشيخ مقصود وحي الأشرفية) والمناطق التي تسيطر عليها القوات الحكومية. أدى وقف إطلاق النار على نطاق محلي إلى إنهاء ذلك في فجر اليوم التالي. منذ إطاحة نظام الأسد، تشهد المناطق الشمالية والشمالية الشرقية في سورية مواجهات منتظمة بين قوات سورية الديمقراطية  – التي تهيمن عليها المجموعة المسلحة الكردية وحدات حماية الشعب– والنظام الجديد بقيادة هيئة تحرير الشام، على الرغم من الاتفاق المبرم في آذار/مارس بين دمشق والسلطات في شمال شرق سورية بشأن دمج المؤسسات المدنية والعسكرية للإدارة الذاتية الكردية في المؤسسات الوطنية، حتى لو كانت مسائل عديدة لا تزال معلقة بشأن تطبيقه الفعلي.

يحدث كل ذلك في ظل استمرار غياب طور انتقال سياسي ذي طابع شامل وديمقراطي. تؤثر هذه التحديات سلبًا على الانتعاش الاقتصادي المحتمل وسيرورة إعادة الإعمار المرتقبة، رغم ما تكتسيه من أهمية بالغة.بالإضافة إلى أن ما يفوق نصف السوريين/ات لا يزالون/ن نازحين/ات داخل البلد أو في الخارج. ويعيش ما يفوق نسبة 90% من السوريين/ات تحت عتبة الفقر، كما أن 16.7 مليون شخص، أي ثلاثة أرباع السكان، كانوا بحاجة إلى مساعدات إنسانية في عام 2024، وفقاً لمنظمة الأمم المتحدة.

تبدو النخبة الحاكمة الجديدة بقيادة هيئة تحرير الشام في هذا السياق الصعب أكثر اهتماماً بتوطيد سلطتها على البلد من إرساء عملية انتقال سياسي تعزز مشاركة المجتمع السوري على نطاق واسع وشامل.ولتحقيق ذلك، طورت السلطات الحاكمة بقيادة هيئة تحرير الشام استراتيجية قائمة على ثلاثة عوامل رئيسية:تحالفات عالمية جديدة، وبسط الهيمنة على المؤسسات الحكومية والمجتمع المدني، واستغلال النزعة الطائفية.

يسعى هذا المقال إلى تحليل الكيفية التي تعزز بها سياسات هيئة تحرير الشام تحكمها بالسكان وهيمنتها عليهم، في تعارض تام مع المطالب الأولية للانتفاضة الشعبية السورية في آذار/مارس 2011، وبالتالي تعمل كعامل مضاد للثورة. تُبين الإجراءات المضادة للثورة التي تتخذها السلطات بقيادة هيئة تحرير الشام أيضًا أنّ «النظام القديم» أو العناصر المرتبطة به، أثناء سيرورة ثورية، لا تشكّل القطب الوحيد المضاد للثورة الذي يهدّد مصالح الطبقات الشعبية.

سورية في تحالف عالمي جديد

تستمد السلطات الحاكمة الجديدة، بقيادة هيئة تحرير الشام في دمشق، جذور قوتها من تحالف ترعاه الولايات المتحدة الأمريكية، ويضم دولاً إقليمية مثل تركيا وقطر والمملكة العربية السعودية. إذا كانت أنقرة والدوحة أبرز المستفيدين من إطاحة نظام الأسد وتربطهما علاقات مع هيئة تحرير الشام منذ سنوات، فإن سلطات سورية حرصت على تنويع علاقاتها مع بلدان أخرى في المنطقة، وبشكل أخص مع المملكة العربية السعودية. تمثل الرياض في الواقع الفاعل الرئيسي في تسريع عملية الاعتراف بالسلطات السورية والقبول بها على الصعيد الإقليمي، خاصة لدى ممالك الخليج الأخرى.

كما تجسد اعتراف القوى العالمية والإقليمية بالسلطات السورية الجديدة رمزياً في مشاركة نظام دمشق في الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في أيلول / سبتمبر 2025. كان الرئيس المؤقت أحمد الشرع أول قائد سوري يشارك في اجتماع رفيع المستوى بمنظمة الأمم المتحدة منذ ما يناهز 60 عامًا، وألقى خطابًا أمام الجمعية العامة. كانت آخر مشاركة لرئيس سوري في هذه الأخيرة تعود إلى عام 1967، قبل 50 عاماً من حكم أسرة الأسد. بالإضافة إلى ذلك، عقد وفد سورية لقاءات عديدة مع قادة بلدان مختلفة، خاصة لقاء ثانٍ بين الشرع والرئيس الأمريكي ترامب بعد اللقاء المنعقد في السعودية في أيار/مايو 2025.

التكيف مع السوق العالمية

أدت هذه السياسة الرامية إلى إضفاء الشرعية على السلطة الجديدة إلى إتاحة إمكانية بداية سيرورة إلغاء العقوبات المفروضة على سورية، مما يمهد الطريق لتسهيل التبادلات المالية وإعادة إدماج اقتصاد سورية في السوق المالية العالمية، ومحاولة إرساء الظروف الملائمة لجذب استثمارات أجنبية مباشرة وشركات تابعة للشتات السوري، وكلها أهداف رئيسية للسلطات الجديدة. في هذا السياق، تسعى دمشق جاهدةً إلى جذب شركات إقليمية وعالمية للاستثمار في البلد، خاصةً لتحديث بنيتها التحتية وتحقيق الإيرادات. بعد الإعلان عن رفع العقوبات وفي الأشهر التي تلت ذلك، كثفت حكومة سورية من عقد بروتوكولات الاتفاق مع شركات إقليمية وعالمية.

يبدو أن التوجه السياسي والاقتصادي للسلطات الجديدة الحاكمة يفضل بشكل مطرد نموذجاً اقتصادياً تجارياً قائماً على الاستثمارات المتمحورة حول الربح قصير الأمد، على حساب قطاعات الاقتصاد الإنتاجية.ينعكس ذلك إلى حد كبير في طبيعة الوعود الاستثمارية المقدمة إلى سورية، حيث تفضل سلطات دمشق جذب الاستثمارات في قطاعات مثل السياحة والعقارات والخدمات المالية، التي عادة ما تكون مربحة على المدى القصير، بدلاً من السعي إلى تشجيع الاستثمارات الأجنبية المباشرة في القطاعات الإنتاجية مثل الصناعة التحويلية والزراعة.

«تطبيع» العلاقات مع إسرائيل

يشمل هذا المسار أيضًا شكلاً من أشكال «التطبيع» مع إسرائيل، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. كرر الرئيس المؤقت أحمد الشرع مرارًا وتكرارًا أن نظامه لم يكن يمثل تهديدًا لإسرائيل، ويبدو أنه أبلغ الرئيس ترامب أيضًا عن استعداده للانضمام إلى اتفاقات أبراهام إذا أتاحت الظروف ذلك. وفي هذا الصدد، أكد أن سورية قد تضطلع «بدور رئيسي في الأمن على الصعيد الإقليمي». وأضاف الشرع أن سورية تشترك مع إسرائيل في مواجهة «عدوين مشتركين» هما إيران وحزب الله. خاصة أن دمشق لم تدن الغارات الإسرائيلية المكثفة على إيران، معتقدة أن أي إضعاف للجمهورية الإسلامية (وحزب الله في لبنان) يشكل عاملاً إيجابياً.لا يرتبط هذا الموقف بدور إيران العنيف في دعم الأسد أثناء الانتفاضة السورية وحسب، بل يعكس أيضًا التوجه السياسي للنخبة الحاكمة الجديدة، المتناغمة مع السياسات الأمريكية. لا يمكن إنكار أن إطاحة نظام الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024 كان لها تأثير كبير على الصعيد الإقليمي في موازين القوى الجيوسياسية على حساب الجمهورية الإسلامية الإيرانية وشبكات نفوذها.

بينما اشتدت التوترات بين دمشق وتل أبيب في منتصف شهر تموز/ يوليو، في أعقاب المجازر التي ارتكبتها الميليشيات المسلحة التابعة أو الداعمة للسلطات في دمشق في محافظة السويداء والغارات الجوية الإسرائيلية التي تلت ذلك ضد سورية، استمرت النقاشات واللقاءات بين مسئولي البلدين. من ناحية أخرى، استمرت المفاوضات بين الطرفين، بوساطة أمريكية، لإبرام اتفاق أمني يرمي إلى تثبيت الاستقرار على الحدود، خاصة عبر تعهد سورية بمنع استخدام أراضيها لشن هجمات ضد إسرائيل وعن طريق اتخاذ تدابير لنزع السلاح على الجانب السوري، وذلك تفادياً لحدوث تصعيد، كمرحلة أولى قبل إقامة علاقات ذات طابع أكثر رسمية.

هيمنة على المؤسسات الحكومية والمجتمع

اتخذت السلطات الجديدة بقيادة هيئة تحرير الشام تدابير لتعزيز قبضتها على الأطراف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، اعتماداً على ما تمنحها القوى الإقليمية والعالمية من شرعية مستمرة لنظام حكمها. تسيطر هيئة تحرير الشام على المناصب الرئيسية في مؤسسات الدولة والجيش وأجهزة الأمن. وعلى النحو ذاته، تشغل شخصيات مقربة من أحمد الشرع مناصب رئيسية في الحكومة الانتقالية. على سبيل المثال، احتفظ أسعد الشيباني وأبو قصرة بمنصبيهما كوزير للخارجية ووزير للدفاع على التوالي، في حين تم تعيين أنس خطاب وزيراً للداخلية. ومن ناحية أخرى، أنشأت السلطات الجديدة مؤسسات موازية لتوطيد نظام حكمها، مثل مجلس الأمن القومي السوري، الذي يرأسه الشرع ويتألف من المقربين إليه (وزير الخارجية، ووزير الدفاع، ووزير الداخلية، ومدير الاستخبارات العامة). وبالمثل، قامت وزارة الخارجية في أواخر آذار/مارس بإنشاء الأمانة العامة للشؤون السياسية، المكلفة بالإشراف على الأنشطة السياسية الداخلية، وبلورة التوجهات العامة في المجال السياسي، وتدبير أصول حزب البعث المنحل.

انعكس غياب السيرورة الديمقراطية الشاملة في السلطة الجديدة على مختلف المبادرات والمؤتمرات واللجان المفترض أن تكون ذات طابع تشاركي وتحدد معالم المراحل المقبلة في البلد. وضمن هذه المبادرات، تعرض مؤتمر الحوار الوطني السوري، المنعقد في 25 شباط/فبراير، لانتقادات واسعة لغياب التحضيرات اللازمة وانعدام التمثيلية والجدية، نظراً لضيق الوقت المخصص للجلسات. كما تعرض الدستور المؤقت، الذي وقعه الرئيس السوري المؤقت، لانتقادات حادة من قبل مختلف الأطراف السياسية والاجتماعية، بسبب انعدام الشفافية في معايير اختيار أعضاء لجنة صياغته وفي محتواه على حد سواء. علاوة على ذلك، على الرغم من أن الدستور المؤقت ينص رسميا على فصل السلطات، فإنّ حجم الصلاحيات الممنوحة للرئاسة يعرقل هذا الفصل. يتمثل آخر مثال على ذلك في ما يسمى بـ«انتخابات» مجلس الشعب التي نظمت في تشرين الأول/أكتوبر، والتي أثارت انتقادات عديدة. افتقر ما اعتمد من منهجية وسيرورة لاختيار أعضاء البرلمان المقبل إلى الشفافية والشمولية، مما أدى إلى تفضيل الجهات الفاعلة المقربة إلى القادة الجدد. بالإضافة إلى ذلك، يعين الرئيس المؤقت أحمد الشرع ثلث أعضاء البرلمان، في حين يتم اختيار الثلثين المتبقيين من قبل «لجان فرعية إقليمية» تعينها بدورها اللجنة العليا لانتخاب مجلس الشعب، التي يتم اختيار أعضائها من قبل الرئاسة...دون تجاهل أن 21 مقعدًا لا تزال شاغرة في هذه اللحظة، وهي المقاعد المرتبطة بمحافظتي الحسكة والرقة في منطقة شمال شرق البلد ذات الأغلبية الكردية، ومحافظة السويداء في الجنوب ذات الأغلبية الدرزية، والتي لا تزال خارج نطاق تحكم الدولة. في انتظار «استيفاء الشروط السياسية والأمنية المناسبة»، كما صرح المتحدث باسم اللجنة الانتخابية...

بشكل عام، نشأت شبكات غير رسمية مؤلفة من «شيوخ إداريين» ولجان سرية أخرى داخل الوزارات والمؤسسات الحكومية لإدارة القطاعات الأساسية، من الأمن والمالية إلى السياسة الخارجية والإدارة الداخلية، دون أية قيود أو بفرض قيود ضئيلة من قبل الجهاز الحكومي. في هذه الظروف، غالبًا ما يتم تجاهل القنوات الرسمية للمؤسسات الحكومية، ويتم ممارسة السلطة الفعلية من قبل شبكة صغيرة غير رسمية مؤلفة من أفراد يتمتعون بقدر كبير من الاستقلالية والسرية.

إدارة عائلية

بالإضافة إلى المؤسسات الحكومية، سعت السلطات الحاكمة بقيادة هيئة تحرير الشام إلى بسط سيطرتها على الأطراف السياسية والاجتماعية الأخرى. قامت على سبيل المثال، بإعادة هيكلة غرف التجارة والصناعة في البلد، حيث أحلّت أشخاصاً تم تعيينهم محلّ غالبية الأعضاء، وخفضت عدد أعضاء مجلس إدارة الغرف الرئيسية، خاصة غرف دمشق وريف دمشق وحلب وحمص. ويُعرف أعضاء جدد عديدون في مجلس الإدارة بعلاقاتهم الوثيقة مع هيئة تحرير الشام. بالإضافة إلى ذلك، استعانت السلطات أيضًا بشخصيات جديدة تابعة لها لقيادة النقابات والجمعيات المهنية، دون إجراء أي انتخابات لاختيار قادتها الجدد. تندرج هذه الممارسات المتمثلة في تعيين الأعضاء بدلاً من تشجيع إجراء انتخابات داخلية في إطار استمرارية النظام القديم للأسد بشكل مباشر.

بالإضافة إلى ذلك، أصبح حازم الشرع، شقيق الرئيس السوري الذي نصب نفسه، شخصية مهمة في الشؤون الاقتصادية وتدبير النخبة التجارية. قام خاصة بمرافقة أحمد الشرع أثناء زياراته الأولى في الخارج إلى السعودية وتركيا. كما كشفت تحقيقات أجرتها وكالة رويترز مؤخراً أن حازم الشرع مكلف بتشكيل لجنة لإعادة هيكلة اقتصاد سورية عبر عمليات استحواذ سرية على شركات مملوكة لرجال أعمال مرتبطين بنظام الأسد سابقاً. وفقًا لهذا التحقيق، استولت هذه اللجنة على أصول تتجاوز قيمتها 1.6 مليار دولار أمريكي يملكها رجال أعمال وشركات كانت تابعة لنظام الأسد سابقًا. بالإضافة إلى ذلك، تتمثل مهمة حازم الشرع الرئيسية في تدبير العلاقات مع رجال الأعمال المحليين واستقطاب رجال أعمال آخرين مقيمين في الخارج، وإدارة الاستثمارات وصناديق التنمية التي أنشأها الرئيس المؤقت الشرع. في الوقت نفسه، تمكنت بعض الشخصيات المقربة إلى قصر الأسد السابق، مثل محمد حمشو - الحليف التاريخي لماهر الأسد - وسليم دعبول، مالك ما يفوق 25 شركة وابن أمين سر طويل الأمد للزعيم السابق حافظ الأسد، من التفاوض بشأن عقد مصالحة مع السلطات الحاكمة. تجلى ذلك بوجه خاص في حضور أبناء محمد حمشو حفل إطلاق صندوق التنمية السوري في دمشق يوم 4 أيلول/ سبتمبر، حيث تبرعوا بمليون دولار. قد يؤدي خطر انفراد هيئة تحرير الشام وحلفائها بالتحكم بالمؤسسات الحكومية وبسط سلطتهم على المجتمع إلى دوامات جديدة من العنف والتوترات الطائفية، وفي الوقت نفسه إلى سيرورة انتقالية وإعادة إعمار تحت قيادة النخبة، ما سيفضي إلى إعادة إنتاج التفاوتات الاجتماعية والفقر وتركيز الثروات في أيدي أقلية وغياب التطور الإنتاجي.

الطائفية، أداة لفرض الهيمنة على المجتمع والتحكم به

وفي آخر المطاف، تستخدم هيئة تحرير الشام النزعة الطائفية كأداة لفرض سيطرتها على السكان والتحكم بهم. إذا كانت أعمال العنف الطائفي التي اندلعت في آذار/مارس ضد المدنيين العلويين بداية من قبل بقايا نظام الأسد، التي نظمت هجمات منسقة ضد أفراد الأجهزة الأمنية والمدنيين، فإن رد الفعل المضاد شمل جميع العلويين، وفقا لمنطق الحقد الطائفي والانتقام. في نيسان/أبريل ونيسان/مايو، قامت جماعات مسلحة مرتبطة بالسلطات أو داعمة لها بشن هجمات على السكان الدروز، قبل المذابح المرتكبة في السويداء في منتصف تموز/يوليو.

تقع مسؤولية ارتكاب المذابح في آذار/مارس وحزيران/يوليو، واستمرار عمليات القتل والاختطاف ضد المدنيين العلويين في المناطق الساحلية، ومواصلة حصار محافظة السويداء، بشكل أساسي على عاتق السلطات السورية الجديدة. لم تتمكن هذه الأخيرة من منع وقوعها، وقامت بعض الميليشيات حتى بالتورط مباشرة في الهجمات. كانت الأوساط العليا في الدولة على علم بالمذابح ووافقت على ارتكابها، كما أفادت بذلك وكالة رويترز للأنباء ومنظمة هيومن رايتس ووتش1. علاوة على ذلك، خلقت السلطات الحاكمة بقيادة هيئة تحرير الشام الظروف السياسية التي أدت إلى إمكانية حدوثها.

وفي الواقع، تصاعدت انتهاكات حقوق الإنسان ضد الأفراد والسكان العلويين، وخاصة عمليات الاختطاف والقتل، منذ بداية العام، وبدا بعضها، مثل مذبحة فحل في نهاية كانون الأول/ديسمبر عام 2024 ومذبحة أرزة في بداية شباط/فبراير عام 2025، أشبه بتمرينات عامة قبل المذابح التي ارتكبت في الساحل. ثم وقعت هجمات طائفية ضد السكان الدروز في دمشق وفي الجنوب، في السويداء، قبل المذابح التي حدثت في منتصف تموز/ يوليو. لم تتخذ مرة أخرى أي إجراءات ضد الميليشيات المتورطة في الهجمات، ولا ضد الأفراد الذين أطلقوا الدعوات وقاموا بأعمال طائفية. واصلت السلطات الحاكمة وصف هذه الأعمال بأنها معزولة، دون اتخاذ إجراءات جادة ضد مرتكبيها.

علاوة على ذلك، دأبت هيئة تحرير الشام ومسؤولي سورية مرارا وتكرارا على إظهار السكان العلويين بشكل خاطئ على أنهم أداة يستخدمها النظام القديم ضد شعب سورية. على سبيل المثال، أثناء كلمته في الدورة التاسعة لمؤتمر المانحين بشأن سورية في بروكسل، في بلجيكا، قال وزير خارجية سورية أسعد الشيباني: «أدت 54 عامًا من حكم الأقلية إلى تهجير 15 مليون سوري...»، ملمحاً ضمناً إلى أن الطائفة العلوية برمتها هي التي كانت حكمت البلد على مدى عقود، بدلاً من ديكتاتورية تتحكم بها عائلة الأسد. إذا صح أن شخصيات علوية كانت تشغل مناصب رئيسية في النظام السابق، خاصة في الجهاز العسكري والأمني، فإن اختزال طبيعة الدولة ومؤسساتها الحاكمة في «هوية طائفة علوية»، أو تقديم النظام على أنه يفضل الأقليات الدينية ويمارس ميزا منهجياً ضد الأغلبية العربية السنية، إنما هو ضرب من الخداع وبعيد عن الواقع على حد سواء.

كما لم تعمل السلطات على تشكيل آلية لإرساء سيرورة شاملة لتحقيق عدالة انتقالية لمعاقبة جميع من تورطوا في جرائم حرب أثناء النزاع السوري أفراداً وجماعات. كان من الممكن أن يقوم ذلك بدور حاسم في الحؤول دون حصول أعمال انتقامية وفي تهدئة تصاعد التوترات الطائفية.

بشكل أعم، تسعى هذه التوترات والتعديات الطائفية إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية. أولاً، استغلال التوترات الطائفية وخطاب «المظلومية السنية» (اضطهاد السنة) في محاولة لحشد الرأي العام وتوحيد قسم كبير من المجتمع العربي السني حولهم، على الرغم من الخلافات السياسية والاجتماعية العديدة التي تشوب هذا الأخير.

تمثل الطائفية أداة أساسية لتعزيز السلطة وتقسيم صفوف المجتمع. حيث يتم استخدامها لصرف انتباه الطبقات الشعبية عن المسائل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية عبر تحديد مجموعة معينة – على أساس طائفتها أو انتمائها العرقي – على أنها مصدر مشاكل البلد وتهديد لأمنه، مما يبرر بالتالي اعتماد السياسات القمعية والتمييزية تجاههاعلاوة على ذلك، تعمل النزعة الطائفية كآلية قوية لفرض تحكم اجتماعي، بحيث ترسم معالم مجرى صراع الطبقات عبر تعزيز تبعية الطبقات الشعبية لقياداتها النخبوية.وبناء على ذلك، تُحرم الطبقات الشعبية من مقدرتها على ممارسة العمل السياسي المستقل، وبالتالي يصبح تعريفها – وانخراطها السياسي – مرتبطاً بهويتها الطائفية. وفي هذا الصدد أيضاً، تسير السلطة الحاكمة الجديدة على خطى النظام القديم بقيادة الأسد، حيث تواصل استخدام السياسات والممارسات الطائفية كوسيلة للحكم والتحكم وزرع التقسيم الاجتماعي.

ثانياً، تسعى هذه التعديات الطائفية وهذه التوترات إلى تدمير الفضاء الديمقراطي أو الدينامية المنبثقة من أسفل. في أعقاب المذابح التي المذكورة أعلاه، ازداد خوف الناس من التنظيم. على سبيل المثال، نظم موظفون مُسرحون من العمل تظاهرات في كانون الثاني/يناير وشباط/فبراير عام 2025 في مختلف المحافظات، وحصلت محاولات لتنظيم نقابات بديلة، أو بالأقل هياكل تنسيقية. مع ذلك، أدت المذابح الطائفية في المناطق الساحلية إلى إضعاف قوة حركة الاحتجاج إلى حد كبير، بسبب الخوف من عمل الجماعات المسلحة المقربة إلى السلطات الجديدة أو المتحدرة منها على ممارسة العنف كرد فعل. لم تؤد المذابح المرتكبة في السويداء إلا إلى ترسيخ هذه الدينامية.

ثالثًا، أتاحت هذه التعديات الطائفية للسلطات الجديدة في دمشق إعادة تقييم سيطرتها في بعض المناطق (المناطق الساحلية) ومحاولة القيام بنفس الشيء في المناطق عالية الكثافة السكانية الدرزية، على الرغم من عدم تمكنها من تحقيق ذلك، خاصة في محافظة السويداء، مما أثار إحباط السلطات المركزية. كانت أهداف السلطات الحاكمة في هذه الأحداث مندرجاً بالتالي في إطار استراتيجية أوسع نطاقاً لمركزة سلطتها وتوطيد سيطرتها على مناطق غير خاضعة لتحكمها بشكل كامل.

خاتمة

إذا كانت أية حكومة بعد الأسد قد ورثت جملة هائلة من المشاكل السياسية والاقتصادية، فإن السلطات الحاكمة الحالية، بقيادة هيئة تحرير الشام تفرض تحدياتها الخاصة. إذ يؤدي توجهها السياسي والاقتصادي إلى زيادة صعوبة إرساء أسس سيرورة ديمقراطية وإعادة إعمار قابلة للاستمرار وشاملة للجميع. علاوة على ذلك، تؤدي سياساتها إلى زيادة فقدان سيادة البلد لصالح جهات أجنبية. على العكس من ذلك، سعت هيئة تحرير الشام إلى تعزيز سلطتها في مؤسسات الدولة والجيش والمجتمع.

لذلك ينبغي عدم النظر إلى سياسات هيئة تحرير الشام على أنها ملفات منفصلة: إذ إنها مترابطة. وفي الواقع، يؤدي ترسيخ سورية جديدة في إطار تحالف شامل مع المحور الغربي وحلفائه الإقليميين، ومحاولة بلورة أشكال تطبيع مع إسرائيل، إلى تعزيز شرعية النخبة الحاكمة الجديدة في الخارج وجذب الاستثمارات الأجنبية، خاصة عبر خصخصة أصول الدولة ولبرلة الاقتصاد. قد يفضي تنفيذ مثل هذه السياسات، والتطبيع مع إسرائيل، والدينامية النيوليبرالية التي تزيد من إفقار المجتمع وتفاقم التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية، إلى إثارة انعدام استقرار البلد، خاصة عبر تصاعد حركة الاحتجاجات والانتقادات.

في ظل هذا السياق، تمثل الطائفية أداةً لمحاولة تشكيل تكتل سني متجانس مزعوم، عبر تجاهل الاختلافات الاجتماعية والاقتصادية والإقليمية وإخفائها، لشل مفعول المعارضة في البلد أو لتعبئة بعض شرائح السكان ضد مجموعات معينة لصرفها عن الديناميات الطبقية وتقسيم صفوف السكان.

لنكن واضحين: لن تغير السلطات الحاكمة سياساتها وممارساتها، ولن تقدم تنازلات حقيقية لصالح المصالح السياسية والاجتماعية والاقتصادية للطبقات الشعبية السورية، دون تغيير ميزان القوى، وبلا بناء وتطوير سلطة مضادة داخل المجتمع، تضم شبكات وفاعلين تقدميين وديمقراطيين.

10 تشرين الأول/أكتوبر عام 2025

 

     

المؤلف - Auteur·es

جوزيف ضاهر

ناشط وباحث يساري سويسري سوري. وهو أستاذ زائر في جامعة لوزان وأستاذ مساعد ما بعد الدكتوراه في كلية العلوم السياسية والاجتماعية في جامعة غنت. أهلته خبرته في سورية ولبنان والشرق الأوسط لكتابة العديد من المقالات للمجلات الأكاديمية، وكذلك لمراكز بحثية مختلفة ومواقع أكاديمية باللغات الإنجليزية والفرنسية والعربية. نشر كتابين رئيسيين: 1) في تشرين الأول (أكتوبر) 2016 - "حزب الله": الاقتصاد السياسي لـ"حزب الله" في لبنان" Hezbollah: The Political Economy of Lebanon's Party of God؛ و، 2) في حزيران (يونيو) 2019 -"سورية بعد الانتفاضات، الاقتصاد السياسي لقدرة الدولة على الصمود" Syria after the uprisings, The Political Economy of State Resilience. بشكل عام، يعتمد إطاره النظري الأساسي على تحليل الاقتصاد السياسي في سورية ولبنان والشرق الأوسط الأوسع.
*نشر هذا الحوار تحت عنوان: Understanding the Rebellion in Syr