
اليوم، تقف إفريقيا عند مفترق طرق، عالقة بين أزمات داخلية، وتغير في ديناميات القوة العالمية، والتفكك البطيء للنظام السياسي الذي نشأ عن حركات التحرير. في جميع أنحاء القارة، تفقد الأحزاب الحاكمة، التي استمدت في السابق شرعيتها من دورها في التحرير الوطني، قبضتها على السلطة، في حين تظل قوى المعارضة مجزأة إلى حد كبير، دون أن تقدم بديل حكم حقيقياً.
قدمت الانتخابات التي جرت في موزمبيق سنة 2025 أمثلة صارخة على هذا التراجع، حيث أعلن حزب "فريليمو" الحاكم، نفسه فائزًا في ختام عملية انتخابية اعتُبرت على نطاق واسع مزورة. وكان زعيم المعارضة، فينانسيو موندلان، قد ترشح تحت راية حزب جديد يُدعى "بوديموس" ("نقدر"). وبعد إجراء عمليات فرز موازية للتي أجراها النظام الذي أعلن نفسه منتصرًا، اتهم فينانسيو موندلان الحكومة بتدبير عملية تزوير انتخابي واسعة النطاق. وردّ الحزب الحاكم على الاحتجاجات الجماهيرية بحملة قمع عنيفة. وقد شكل ذلك استمرارًا لاتجاه يهدف إلى القضاء على أي معارضة سياسية وتعزيز السيطرة بوسائل استبداد متزايدة الشدة.
مثال جنوب إفريقيا
لا يقتصر تزايد انعدام شرعية هذه الحكومات المنبثقة عن حقبة حركات التحرير الوطني على موزمبيق. ففي جنوب إفريقيا، خسر حزب المؤتمر الوطني الإفريقي (ANC) أغلبيته المطلقة لأول مرة منذ عام 1994، حيث حصل على حوالي 40% فقط من الأصوات في انتخابات 2024. وبعد عقود من الهيمنة السياسية، يجد الحزب نفسه الآن في تحالف هش للغاية مع "التحالف الديمقراطي" (AD)، خصمه التقليدي منذ زمن بعيد. وقد أجبر ذلك حزب المؤتمر الوطني الإفريقي على تبني موقف حكومي أكثر اعتدالاً، ما حدّ من قدرته على تنفيذ السياسات التي تنتظرها قاعدته الشعبية التقليدية.
بينما يرى بعض أعضاء حزب المؤتمر الوطني الإفريقي (ANC) أن هذا التحالف مساومة ضرورية للحفاظ على الاستقرار، يعتقد آخرون أنه خيانة لمهمة الحزب التاريخية، خاصة بالنظر إلى التوجه النيوليبرالي لتحالف الديمقراطي (AD). وتبقى تبعات هذه التسوية غير مؤكدة: هل سيستمر هذا التحالف؟ هل سيؤدي إلى انقسام أعمق داخل المؤتمر الوطني الإفريقي؟ أم أنه سيؤدي إلى نشوء حركات معارضة أقوى تقع خارج إطار العملية الانتخابية التقليدية؟
يُعد تراجع حزب المؤتمر الوطني الإفريقي (ANC) امتدادًا لعملية أوسع نطاقًا في منطقة إفريقيا الجنوبية. ففي زيمبابوي، لجأ حزب زانو-الجبهة الوطنية ( Zimbabwe's African National Union - Popular Front ZANU-PF) إلى القمع بدلًا من الاعتماد على الدعم الشعبي، مستخدمًا اللجنة القضائية والانتخابية لعرقلة التحديات الجادة التي تطرحها المعارضة. وفي الأثناء، واجه كل من حزب "سوابو" ( South West Africa People's Organisation SWAPO) في ناميبيا، وحزب "الديمقراطية البوتسواني" (BDP) في بوتسوانا، تحديات انتخابية غير مسبوقة — حيث خسر الحزب الديمقراطي البوتسواني انتخابات للمرة الأولى منذ الاستقلال — ما يبرز أن حتى الأحزاب المهيمنة التي كانت تبدو مستقرة لم تعد تضمن الفوز بسهولة. ويُشير تآكل هذه الحركات إلى أن الرصيد القوي الذي حصلت عليه سابقًا من خلال مشاركتها في حركات التحرير لم يعد يمنحها تفويضًا كافيًا للحكم.
صراع
يحدث ضعف هذه الحكومات في ظل تفاقم الصراعات وعدم الاستقرار في سائر أنحاء القارة.
يظل السودان محاصرًا في حرب مدمرة بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع شبه العسكرية. هذا صراع أدى إلى نزوح ملايين الأشخاص، كما أصبح يتخذ طابعًا دوليًا متزايدًا، مع دعم كل من مصر والإمارات العربية المتحدة لأطراف متعارضة. لم تؤدِ الحرب إلى تفاقم الانهيار الاقتصادي في السودان وحسب، بل تهدد أيضًا الاستقرار الإقليمي مع تأثيرات جاذبة على تشاد، وجنوب السودان، وإثيوبيا.
تواصل جمهورية الكونغو الديمقراطية مواجهة تمردات مسلحة، لا سيما عودة نشاط حركة M23 التي أدى دعم رواندا لها إلى تفاقم التوترات الإقليمية. وتزيد اتهامات التدخلات العابرة للحدود من تعقيد العلاقات الدبلوماسية.
ليست هذه الأزمات معزولة؛ بل تعبر عن فشل أعمق في الحوكمة في إفريقيا، حيث غالبًا ما تكون الدولة عاجزة عن حل الصراعات الاجتماعية والاقتصادية دون اللجوء إلى العنف.
تأثير ترامب
في خضم هذه الأزمات، تواجه إفريقيا أيضًا نظامًا دوليًا في حالة تغير مستمر. لقد بدأت عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في إعادة تشكيل العلاقات بين الولايات المتحدة وإفريقيا. وقد شهدنا تحوّلًا نحو تعامل مبني أكثر على المعاملات و المقايضة وتجديد التركيز على الأمن عِوضَ التنمية.
كانت إحدى أولى وأبرز سياسات ترامب الخارجية تقليصُ المساعدات التنموية، وتفكيكُ وكالة الولايات المتحدة للتنمية الدولية(USAID)، وقطع التمويل عن برامج الصحة، بما في ذلك برنامج محاربة الأيدز الاستعجالي. وقد تركت هذه القرارات ملايين الأشخاص بدون إمكانية الوصول إلى علاجات فيروس نقص المناعة البشرية وخدمات أخرى حيوية.
وقد كان وقع ذلك أشد قسوة في البلدان التي تعاني أنظمتها الصحية بالفعل من ضغوط كبيرة، ما زاد تفاقم أزمات الصحة العامة التي قد تكون لها آثار مزعزعة للاستقرار على المدى الطويل.
ويستند المنطق الذي تتبناه الإدارة الأمريكية بشأن هذه التخفيضات في الميزانية إلى أيديولوجيا أوسع تُعرف بـ"أمريكا أولاً"، وهي أيديولوجيا ترى أن المساعدات المقدمة للدول الأجنبية تُعد إنفاقًا غير ضروري، بدلاً من اعتبارها استثمارًا استراتيجيًا من أجل الاستقرار.
وقد تزامن ذلك مع تشديد السياسة الأمريكية في مجال الهجرة. إذ تدرس الإدارة حاليًا فرض حظر شامل على منح التأشيرات، وهو ما قد يؤثر على عشرات الدول الإفريقية، ويقيّد كذلك السفر بالنسبة للطلاب، والعمال، والسياح.
ويعيد هذا إلى الأذهان قرارات حظر السفر التي ميزت ولاية ترامب الأولى، ويعبر عن تعمق في التوجه الولايات المتحدة الانعزالي في علاقاتها مع إفريقيا، حيث باتت تنظر إلى القارة أكثر باعتبارها تهديدًا أمنيًا ومصدرًا للهجرة، بدلاً من كونها شريكًا دبلوماسيًا واقتصاديًا.
ترامب وجنوب إفريقيا
إن عداء الإدارة الأمريكية تجاه جنوب إفريقيا لافت بشكل خاص. فقد قام ترامب بطرد سفير جنوب إفريقيا وفرض عقوبات على البلد.كان ذلك ردًا على سياسة مصادرة الأراضي التي تبنتها بريتوريا (العاصمة الإدارية لجنوب إفريقيا)، وكذلك على مواقفها في السياسة الخارجية، وخاصة جهودها لمحاسبة إسرائيل على الإبادة الجماعية في غزة.وتعتبر الإدارة الأمريكية هذه المواقف تعبيرًا عن تعاطف مع حركة حماس ومع إيران.
تعبر هذه الإجراءات العقابية عن شعور أوسع بالانزعاج تجاه الحكومات التي تتحدى الهيمنة الأمريكية، خصوصًا تلك المنضوية ضمن مجموعة البريكس (BRICS).
قطع ترامب فعليًا، بنعته مواقف جنوب إفريقيا السياسية بأنها "معادية لأمريكا"، واحدة من أهم العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة وقوة إفريقية كبرى.ويندرج ذلك أيضًا في إطار إصرار أوسع من إدارته على تفضيل العلاقات مع الدول اليمينية المتحالفة مع الاستبداد، وعزل الحكومات التي تُعتبر ذات ميول يسارية أو ذات توجهات مستقلة.
الولايات المتحدة والصين وموارد أفريقيا
تسعى إدارة ترامب، في الآن ذاته، إلى إقامة علاقات مختلفة مع دول أفريقية أخرى، لا سيما في مجال الموارد. تجري الإدارة الأمريكية حاليًا مفاوضات مع جمهورية الكونغو الديمقراطية (الكونغو كينشاسا) للتوصل إلى اتفاقية "المعادن مقابل الأمن". تقدم الولايات المتحدة مساعدة عسكرية مقابل الحصول على وصول حصري إلى المعادن الحيوية، الضرورية لصناعاتها المتقدمة، وخاصة في مجالات التكنولوجيا والدفاع. ومن شأن هذه الاتفاقية أن تمنح الشركات الأمريكية سيطرة واسعة على الكوبالت وغيره من المعادن الأساسية. ويعبر هذا عن تحول في الاستراتيجية الأمريكية من تقديم المساعدات التنموية إلى سياسات استخراج اقتصادي مباشرة.
تدعي الإدارة أن هذا الشراكة ستساعد جمهورية الكونغو الديمقراطية على الاستقرار بمدها بدعم في مجال الأمن.لكن أصواتًا ناقدة تحذر من أن يؤدي هذا إلى تعميق الديناميات التي تفضل استخراج الموارد على حساب التنمية الاقتصادية الحقيقية.
في الوقت نفسه، تتغير أيضًا مقاربة الصين تجاه إفريقيا. فقد كانت بكين، على مدى عقدين من الزمن، الشريك الاقتصادي المهيمن في القارة، ممولة للبنى التحتية والتجارة على نطاق لا تنافسها فيه أي قوة خارجية أخرى.لكن مع تباطؤ الاقتصاد الصيني الداخلي، انخفضت رغبتها في منح قروض واسعة النطاق. وقد باتت دول مثل زامبيا وكينيا، اللتين تعانيان من ديون ثقيلة إزاء الصين، تستشعران ضغط إعادة تعديل إستراتيجية الإقراض التي تتبعها بكين.ربما تقترب الأيام التي كانت فيها الصين تقدم تسهيلات ائتمانية لمشاريع البنية التحتية الكبرى من نهايتها، ما يترك الدول الإفريقية في وضع هش.
وتجد الكثير من الحكومات، التي أعادت هيكلة اقتصاداتها اعتمادًا على الاستثمارات الصينية، نفسها الآن في صراع للتكيف مع هذا الواقع الجديد.
ويقلص هذا التطور خيارات التمويل الخارجي المتاحة لأفريقيا، في الوقت الذي تشدد فيه المؤسسات المالية الغربية شروط الإقراض، خصوصًا للدول المثقلة بالديون.
سياسة جديدة ممكنة؟
تثير هذه التطورات، بالنسبة للحكومات الأفريقية، تساؤلات صعبة حول الإستراتيجية السياسية والاقتصادية. لم ينجم بعدُ عن تراجع حركات التحرير الوطنية ظهور بدائل سياسية قابلة للحياة. فقد تبنت الأحزاب المعارضة في المنطقة، إلى حد كبير نماذج حكم نيوليبرالية، بدلاً من صياغة رؤى جديدة للتحول الاقتصادي. وبدلاً من تحقيق تقدم حاسم نحو التجديد الديمقراطي، يبدو أن معظم القارة ينجرف بين تصاعد القمع الحكومي و معارضة متشظية. فشل كثير من الأحزاب المعارضة، رغم أنها تعبر عن انتقادات قوية للحكومات القائمة، في تقديم برامج اقتصادية تخرج عن النموذج النيوليبرالي السائد. ويشير هذا كله إلى أنه ثمة، حتى في الأماكن حيث تواجه الأحزاب الحاكمة تراجعًا انتخابيًا، فرص ضئيلة جدًا لتغيير المشهد السياسي أو الاقتصادي في حال حدوث انتقال السلطة.
في الوقت الذي تواصل فيه الحركات الجذرية المرتبطة بالنضالات الاجتماعية من القاعدة الضغط من أجل التغيير، تظل قدرتها على تحدي البُنى الراسخة للسلطة غير أكيدة. اليوم في إفريقيا، تعبر هشاشة البدائل اليسارية عن ميول إجمالية أوسع، حيث تجد القوى الاشتراكية أو الاجتماعية الديمقراطية صعوبة في إعادة فرض نفسها في عالم يهيمن عليه رأس المال المالي وسلطة الشركات متعددة الجنسيات.
ومع ذلك، ثمة دلائل على إمكانية التغيير، حيث تتزايد ففي جميع أنحاء القارة الدعوات إلى السيادة الاقتصادية، والمطالبة ببرامج حماية اجتماعية أقوى، ومقاومة متزايدة للإملاءات المالية الخارجية. إذا اندمجت هذه النضالات في تشكيلات سياسية أكثر تماسكًا، فقد تُشكّل أساسًا لنوع جديد من السياسة، يمثل قطعا مع كل من إفلاس أحزاب ما بعد التحرير وقيود قوى المعارضة الليبرالية.
في إفريقيا، يتصدع النظام السياسي الذي أعقب حركات التحرير، لكن ما يبرز من هذا التصدع لا يزال غير واضح المعالم. لم يتحول بعد تآكل شرعية الأحزاب المهيمنة إلى تغيير جذري في النظام. وفي كثير من الحالات، لم يؤدِ هذا التآكل إلا إلى فتح الباب أمام مناورات جديدة من قبل النخب.
وفي هذا الظرف الانتقالي، لا يتعلق الصراع الحقيقي فقط بالانتخابات، بل يمتد ليشمل الطبيعة العميقة للدولة، ونمط الحوكمة الاقتصادية، ومكانة إفريقيا داخل نظام عالمي يشهد تحولات سريعة.
ستظل أفريقيا، ما لم تظهر بدائل تتحدى تبعية القارة للتمويل العالمي، وللاستخراج المفرط للموارد، ولنمو اقتصادي قائم على الديون، حبيسة دوامات من عدم الاستقرار، سواء بقيت الحركات القديمة للتحرير في الحكم أم لا.
2 أبريل 2025