قبيل سقوط نظام بشار الأسد في سوريا في نهاية هذا الأسبوع، بدأت تبرز انقسامات داخل حركة التضامن الدولية مع فلسطين مع انتشار أنباء سيطرة هيئة تحرير الشام والجيش الوطني السوري الموالي لتركيا على حلب ومناطق أخرى. واعتبر البعض أن هذا الهجوم العسكري من قبل ”القاعدة وإرهابيين آخرين“مؤامرة إمبريالية غربية ضد النظام السوري، تهدف إلى إضعاف ما يسمى ”محور المقاومة“ بقيادة إيران وحزب الله.
واعتبروا أن هاتين الدولتين حليفتان للفلسطينيين، وأن زعزعة استقرارهما من شأنه أن يضعف النضال من أجل تحرير فلسطين. وقد اعتُبر وقوع هذا الهجوم العسكري الذي نذته هيئة تحرير الشام والجيش الوطني السوري بعد يوم واحد فقط من إبرام وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل أمرًا مثيرا للشبهة.
بيد أن إن هذا الوصف للسياق الاجمالي ينطوي على ثغرات عديدة، ويدل إنان ثمة حاجة إلى دليل، على عدم فهم الدينامية السورية والإقليمية.
السياق الحقيقي
جرى هجوم هيئة تحرير الشام والجيش الوطني السوري في وقت كان فيه حلفاء النظام السوري الرئيسيون في حالة ضعف. إذ كانت القوات العسكرية الروسية تركز على حربها الإمبريالية ضد أوكرانيا، في حين تلقت إيران وحزب الله ضربة قوية بسبب الحرب الإسرائيلية في لبنان. كل هذا عكس الضعف الهيكلي العام للنظام السوري، عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، ما أدى إلى انهياره كبيت من ورق.
و لا شك أن حكومة تركيا ساهمت بطريقة أو بأخرى في الهجوم العسكري على النظام. طبعا، كان هدف أنقرة في البداية تحسين موقفها في المفاوضات المستقبلية مع النظام السوري، ولا سيما مع إيران وروسيا. لكن مع سقوط النظام، كانت تستعد للعب دور أكثر أهمية. كما سعت من خلال الأراضي التي احتلها الجيش الوطني السوري إلى إضعاف قوات سوريا الديمقراطية، التي يهيمن عليها الجناح المسلح للحزب الكردي، حزب الاتحاد الديمقراطي، وهو منظمة شقيقة لحزب العمال الكردستاني.
وقد أدى استيلاء الجيش الوطني السوري على منطقتي تل رفعت والشهباء في شمال حلب وبلدة منبج، التي كانت خاضعة سابقًا لحكم قوات سوريا الديمقراطية، إلى نزوح أكثر من 150 ألف مدني وإلى العديد من انتهاكات حقوق الإنسان ضد الأكراد، بما في ذلك الاغتيالات.
وقبل سقوط الأسد، كانت هيئة تحرير الشام مستقلة نسبيا عن تركيا. وقد أظهر الاستيلاء على حلب تطورها إلى منظمة أكثر انضباطاً وتنظيماً، حيث جمعت، على مر السنين، عدداً من المجموعات العسكرية تحت لوائها. وفيما كانت الأمم المتحدة والولايات المتحدة وتركيا ودول أخرى تعتبرها منظمة إرهابية، حاولت منذ انفصالها عن تنظيم القاعدة في عام 2016 إبراز صورة أكثر اعتدالاً كطرف عقلاني ومسؤول.
بيد أن هيئة تحرير الشام تظل منظمة استبدادية ذات أيديولوجية إسلامية أصولية، وتضم في صفوفها مقاتلين أجانب. وقد خرجت العديد من المظاهرات في إدلب للتنديد بنظام هيئة تحرير الشام وانتهاكاته للحريات السياسية وحقوق الإنسان. وتمثل كل من وهيئة تحرير الشام والجيش الوطني السوري تهديدًا لسوريا ديمقراطية.
ولم يكن للولايات المتحدة أو إسرائيل أي دور في هذه الأحداث. بل كانتا في الواقع قلقتين إزاء ما حدث حتى الآن. فقد قال مسؤولون إسرائيليون، على سبيل المثال، أن ”انهيار نظام الأسد من المحتمل أن يخلق فوضى قد تتطور فيها التهديدات العسكرية ضد إسرائيل“. والأكثر من ذلك، لم تكن إسرائيل منذ عام 2011 تؤيد إسقاط النظام السوري.
وفي يوليو 2018، لم يكن لدى نتنياهو أي اعتراض على استعادة الأسد السيطرة على البلد وتثبيت حكمه. وصرّح بأن إسرائيل لن تتحرك إلا ضد التهديدات المرصودة، مثل إيران وقوات/ نفوذ حزب الله، موضحًا: ”لم تكن لدينا مشكلة مع نظام الأسد، فمنذ 40 عامًا لم تُطلق رصاصة واحدة في مرتفعات الجولان“.
ومع انتفاء هذا الفاعل المستقر، أخذت إسرائيل زمام الأمور بيدها. اجتاح جيش الاحتلال الإسرائيلي، في الأيام التي أعقبت سقوط النظام السوري، الجزء السوري من جبل الشيخ في مرتفعات الجولان. وسعت إلى منع المتمردين من الاستيلاء على المنطقة، ونفذت أكثر من 350 غارة ضد بطاريات مضادة للطائرات، ومطارات عسكرية، ومواقع إنتاج أسلحة، وطائرات مقاتلة وصواريخ. وقصفت زوارق الصواريخ منشآت بحرية سورية في ميناء البيضاء وميناء اللاذقية، حيث كانت ترسو 15 قطعة بحرية سورية.
وتهدف هذه الغارات إلى تدمير قدرات سوريا العسكرية لمنع استخدامها ضد إسرائيل. كما أنها تنقل رسالة مفادها أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يمكن أن يثير زعزعة الاستقرار السياسي في أي وقت إذا ما تبنت الحكومة المقبلة موقفًا عدائيًا لا يخدم مصالح إسرائيل.
”محور المقاومة“ مقابل النضال من الأسفل
فضلا عن حقيقة أنهم يتجاهلون عمل الفاعلين المحليين السوريين، تكمن المشكلة الرئيسية في حجج أنصار ”محور المقاومة“ داخل حركة التضامن مع فلسطين فيما توحي به من أن تحرير فلسطين سيأتي من الأعلى. فبحسبهم سوف تنجح هذه الدول بنحو ما، على الرغم من طبيعتها الرجعية والاستبدادية وتوجهها الاقتصادي النيوليبرالي، في تأمين الحرية.
وهذا يتجاهل حقيقة أن سياستها الخارجية مكيفة بالحاجة إلى حماية مصالحها السياسية الخاصة، وأن الدول الاستبدادية في المنطقة قد خانت الفلسطينيين وقمعتهم مرارًا وتكرارًا.
وفي الوقت الذي تدعم فيه إيران القضية الفلسطينية خطابيًا وتمول حركة حماس، تسعى منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 إلى تحسين موقعها في المنطقة لتكون في أفضل وضع للمفاوضات المستقبلية مع الولايات المتحدة. كما أنها تريد تجنب أي حرب مباشرة مع إسرائيل. وهدفها الجيوسياسي الرئيسي تجاه الفلسطينيين هو استخدامهم كوسيلة ضغط.
وبالمثل، برهنت سلبية إيران في مواجهة الهجمات الإسرائيلية على لبنان - ولا سيما بعد اغتيال كوادر حزب الله الرئيسية - أن أولويتها هي حماية مصالحها الجيوسياسية الخاصة. ولا ننسى أن إيران لم تتردد في الماضي في خفض تمويلها لحركة حماس عندما لم تتطابق مصالحهما: كما حدث خلال الانتفاضات في سوريا في عام 2011 وعندما رفضت الحركة الفلسطينية دعم القمع القاتل الذي مارسه نظام الأسد ضد المتظاهرين.
وبالمثل، لم يتفاعل النظام السوري مع الحرب الإسرائيلية على غزة، مع أنه كان هو الآخر هدفًا للهجمات. بل إنه في الواقع تجنب أي مواجهة مباشرة مع إسرائيل منذ عام 1974.
وقد قمع النظام تاريخيًا الفلسطينيين في سوريا، وقتل العديد منهم منذ عام 2011. كما قام بتدمير مخيم اليرموك في دمشق الذي كان يضم عددًا كبيرًا من اللاجئين الفلسطينيين. وفي الأيام الأخيرة، تم إطلاق سراح 630 سجينًا سياسيًا فلسطينيًا من سجن صيدنايا وحده.
وفضلا عن ذلك تدخل نظام حافظ الأسد ، في عام 1976،ضد الحركة الوطنية الفلسطينية والمنظمات اليسارية اللبنانية دعماً للأحزاب السياسية اليمينية المتطرفة في لبنان. كما قام بعمليات عسكرية ضد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في بيروت في عامي 1985 و 1986. وفي عام 1990، كان هناك حوالي 2500 سجين سياسي فلسطيني في السجون السورية.
يتجاهل أنصار ”محور المقاومة“ أيضًا بيان حركة حماس الذي هنَّأ الشعب السوري على تحقيق ”تطلعاته في الحرية والعدالة“ بعد الإطاحة بالأسد “.
التحرير للجميع
إن قائمة الجرائم التاريخية التي ارتكبها نظام الأسد في حق الفلسطينيين لا تستدعي بالطبع التشكيك في حقيقة أن الإمبريالية الأمريكية لا تزال مدمرة وقاتلة بشكل استثنائي. ومع ذلك، فإن دعم الأنظمة السلطوية والاستبدادية يضر بهدف تحرير فلسطين. فهو يعني القبول باستمرار القمع في أجزاء أخرى من المنطقة باسم تحرير شعب، وهذا ليس ما يدعو إليه النضال الفلسطيني ولا ما يمكن أن يحقق هذا الهدف حقًا.
فما يحدث في المنطقة يرتبط في نهاية المطاف ارتباطًا مباشرًا بمستقبل فلسطين.
تتماهى غالبية كبيرة من الطبقات الشعبية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مع النضال الفلسطيني، وترى أنه مرتبط بنضالاتها المحلية من أجل الديمقراطية والمساواة. ومن الأهمية بمكان أن يفهم أولئك الذين ينظمون تضامنا مع فلسطين أن الطبقات الشعبية الفلسطينية والإقليمية هي قوى اجتماعية مركزية قادرة على خلق الظروف اللازمة لتحقيق التحرر بدعمها.
فعندما يناضل الفلسطينيون، فإن ذلك يطلق حركة تحرر إقليمية، والحركة الإقليمية بدورها تغذي الحركة في فلسطين المحتلة.
وقد اعترف الوزير اليميني المتطرف أفيغدور ليبرمان بالخطر الذي تمثله الانتفاضات الشعبية في منطقة الشرق الأوسط على إسرائيل في 2011، عندما قال إن الثورة المصرية التي أطاحت بحسني مبارك كانت تهديدًا لإسرائيل أكبر من إيران.
ليس المقصود إنكار حق الفلسطينيين واللبنانيين في مقاومة إسرائيل، بل توضيح أن الثورة الموحدة للطبقات الشعبية قادرةٌ على تغيير المنطقة بأسرها وإسقاط الأنظمة الاستبدادية وطرد الولايات المتحدة والقوى الإمبريالية الأخرى.
إن المهمة الرئيسية لحركة التضامن الدولية مع فلسطين، ولا سيما في الغرب، هي فضح الدور المتواطئ لطبقاتنا الحاكمة في دعم دولة الفصل العنصري الاستعماري الإسرائيلي. يجب أن نضغط عليها لقطع جميع العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية مع تل أبيب. هذا هو السبيل الوحيد لإضعاف إسرائيل وتمهيد الطريق لتحرير فلسطين والمنطقة ككل.
وكما كتب ثوري سوري من هضبة الجولان السورية المحتلة من قبل إسرائيل، في صيف 2014: ”الحرية مصير مشترك لغزة واليرموك والجولان.“ يحمل هذا الشعار الأمل في تحول ثوري إقليمي، وهو استراتيجية التحرير الواقعية الوحيدة
.
- جوزيف ضاهر أستاذ في جامعة لوزان في سويسرا وجامعة غنت في بلجيكا. وهو مؤلف كتاب ”سوريا بعد الانتفاضات، الاقتصاد السياسي لصمود الدولة“ ، و ”حزب الله: الاقتصاد السياسي لحزب الله في لبنان“، و ”الماركسية وفلسطين“ .
المصدر:
https://www.gaucheanticapitaliste
نُشر لأول مرة في The New Arab.