
الوضع في محافظة السويداء، جنوب سوريا، لم يكن قد استقر تماماً حتى كتابة هذا المقال، على الرغم من وصول أول قافلة مساعدات إنسانية في 20 تموز/يوليو إلى عاصمة المحافظة، مدينة السويداء، التي يبلغ عدد سكانها حوالي 150 ألف نسمة. عانت المدينة من حصار دام أيام عدّة من قبل القوات المسلحة التابعة للحكومة المركزية في دمشق والجماعات المسلحة الموالية لها، ما أدى إلى حرمان سكانها من الماء والكهرباء ونقص الإمدادات الغذائية الأساسية.
جاءت هذه القافلة الإنسانية عقب التوصل إلى وقف إطلاق نار وانسحاب مقاتلي البدو والعشائر من جزء من مدينة السويداء. استعادت الفصائل الدرزية المسلحة المحلية السيطرة. وفي الوقت نفسه، زعم مسؤولون أميركيون أنهم تفاوضوا على هدنة بين دمشق وتل أبيب. سمح هذا الاتفاق بنشر قوات الحكومة السورية في محافظة السويداء، باستثناء مدينة السويداء، بعدما رفضت إسرائيل في البداية نشر هذه القوّات.
بعد أكثر من أسبوع من القتال، سُجِّل أكثر من ألف قتيل، من المدنيين والمقاتلين، ووفقاً لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، نزح أكثر من 145 ألف شخص.
سبقت الأحداث الأخيرة هجمات شنتها جماعات مسلحة مرتبطة بحكومة دمشق أو داعمة لها في محافظة السويداء وقرب دمشق في نيسان/أبريل وأيار/مايو، التي أسفرت عن مقتل أكثر من 100 شخص.
تسعى دمشق إلى تحقيق أهداف سياسية من خلال هذه الإجراءات: ترسيخ سلطتها على سوريا مجزأة، وتقويض استقلالية السويداء، وإضعاف الديناميات الديمقراطية من الأسفل في المجتمع السوري.
السويداء تحت الحصار
اكتسبت محافظة السويداء، ذات الأغلبية الدرزية، قدراً من الاستقلال السياسي في خلال الثورة الشعبية السورية. بعد سقوط نظام الأسد، حافظت معظم القوات المسلحة المحلية والقيادات الدينية الدرزية على تواصل مع السلطات الجديدة في دمشق، لكنهم رفضوا تسليم أسلحتهم لعدم وجود انتقال سياسي ديمقراطي وشامل وضمانات لمحافظة السويداء. ومع ذلك، أصبحت المنطقة ساحة حرب منذ 13 تموز/يوليو، عقب اعتقال وتعذيب تاجر درزي على حاجز تفتيش من قبل فصائل بدوية مسلحة. أُقيم هذا الحاجز على طريق دمشق-السويداء، عقب أحداث العنف التي وقعت في شهري نيسان/أبريل وأيار/مايو ضد الدروز في دمشق والسويداء. وهو تابع لعشائر المطلّة البدوية، من منطقة الكسوة بريف دمشق، والتابعة للأمن العام بوزارة الداخلية. وإلى جانب الانتهاكات المتكررة بحق الدروز بين السويداء والعاصمة دمشق، استخدمته السلطات المركزية كأداة ضغط سياسي على السويداء.
يمثل السكان البدو ما بين 5% و10% من سكان منطقة السويداء، من إجمالي عدد سكان المحافظة البالغ 700 ألف نسمة. يتمركزون بشكل رئيس في المناطق الريفية، بينما يتسم تنظيمهم العسكري بالمركزية بالمقارنة مع الفصائل الدرزية المحلية. وتوجد قبائل بدوية عدّة في الجنوب.
أما الفصائل الدرزية المسلحة فتنقسم إلى ثلاثة كيانات عسكرية رئيسة (المجلس العسكري للسويداء، ورجال الكرامة، وقوات الكرامة)، ولا تتبنى هذه الفصائل بالضرورة الموقف نفسه تجاه الحكومة الجديدة في دمشق. على سبيل المثال، يتبنى المجلس العسكري للسويداء موقفاً أكثر عدائية تجاه السلطة المركزية، بينما تتعاون قوات الكرامة بشكل أوثق مع رئاسة أحمد الشرع.
في أعقاب الاشتباكات بين الفصائل المسلحة البدوية والدرزية، أرسلت الحكومة السورية المؤقتة أرتالاً من العربات المدرعة من دمشق إلى السويداء في محاولة لفرض سيطرتها على المحافظة، مدعية رغبتها في إنهاء العنف، لكنها في الواقع كانت تقاتل إلى جانب القوات المسلحة البدوية.
العمليات العسكرية في محافظة السويداء، التي شنتها قوات مسلحة تابعة أو داعمة لحكومة دمشق، أعادت إلى الأذهان صور المجزرة التي ارتُكبت في آذار/مارس الماضي بحق السكان العلويين في المناطق الساحلية، والتي أسفرت عن مقتل أكثر من ألف مدني. وتنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي صورٌ للقتلى المدنيين، وخطابات وسلوكيات طائفية وكراهية، مثل مشاهد إذلال السكان المحليين، وقص أو حلق الشوارب على يد المقاتلين، بالإضافة إلى مشاهد تدمير ونهب للبنية التحتية ومنازل المدنيين... في الوقت نفسه، غادر الكثير من المدنيين في السويداء منازلهم القريبة من الاشتباكات العسكرية، خوفاً من تصرفات المقاتلين الموالين للحكومة، بحثاً عن ملاذ آمن في المحافظة.
على الرغم من التفوق العسكري، اضطرت القوات المسلحة الحكومية والميليشيات الموالية لها إلى الانسحاب من المناطق التي سيطرت عليها في مواجهة مقاومة الفصائل المسلحة المحلية في السويداء، وخصوصاً بسبب الغارات الجوية الإسرائيلية على مقرات القوات المهاجمة في دمشق.
في أعقاب الانتهاكات التي ارتكبتها القوات المسلحة الموالية للحكومة، وإعلان الرئيس السوري أحمد الشرع في 17 تموز/يوليو نقل مسؤولية حفظ الأمن في السويداء إلى الفصائل المسلحة المحلية والزعماء الدينيين الدروز، شنّ مقاتلون دروز هجمات على المدنيين البدو في محافظة السويداء.
بعد هذه الإجراءات، نشر عدد من العشائر العربية السنية، المرتبطة غالباً بمسؤولين في الحكومة المركزية، من مناطق مختلفة من البلاد، نداءات وبيانات على وسائل التواصل الاجتماعي لمساعدة «إخوانهم» البدو في السويداء. وتعزز هذا الحشد بالدعاية الإعلامية التي شجعتها الحكومة وحلفاؤها، ما فاقم العنف ضد المدنيين البدو. ثم شنت جماعات مسلحة قبلية مساء الخميس 17 تموز/يوليو هجوماً جديداً في محافظة السويداء، بينما تكاثرت الدعوات الكراهية والطائفية ضد السكان الدروز عبر وسائل التواصل الاجتماعي في مناطق مختلفة من البلاد. ثم بدأت تظهر على مواقع التواصل الاجتماعي صورٌ لمركبات ومسلحين من قبائل مختلفة يحتشدون ويتجهون نحو محافظة السويداء. دخلت بعض الجماعات القبلية المسلحة الجزء الغربي من مدينة السويداء، ونهبت وأحرقت عشرات المنازل والمحلات التجارية والسيارات. وبعد مرورهم، كانت جدران هذه الأحياء مغطاة بعبارات مثل «يا خنازير، يا كفار» و«جيناكم بالذبح».
أدان أحمد الشرع مرتكبي الانتهاكات ضد السكان الدروز في السويداء، مؤكداً أنهم «سيُحاسبون». إلا أنه قطع وعداً مماثلاً بعد مجزرة المدنيين العلويين على الساحل السوري، والتي لم تُسجل أي عواقب على الجناة حتى الآن. كان من المفترض في البداية أن تُقدم لجنة التحقيق المُشكّلة للتحقيق في هذه المجازر تقريرها في خلال 30 يوماً من إنشائها؛ ثم مُدّدت ولايتها لثلاثة أشهر في 10 نيسان/أبريل. ولم يُقدّم التقرير أخيراً إلى الرئيس الشرع إلا بعد أكثر من 90 يوماً، في 20 تموز/يوليو، ولكنه لم يُنشر بعد. وأكدت اللجنة في مؤتمرها الصحافي أن كبار قادة الدولة والجيش لا يتحملون أي مسؤولية عن مجازر آذار/مارس، خلافاً للتحقيق الذي أجرته وكالة رويترز للأنباء. وعلى نحو مماثل، أعلنت اللجنة أنها لا تملك معلومات عن الحالات الكثيرة من عمليات الاختطاف المستهدفة والاختفاء والعنف القائم على النوع الاجتماعي ضد النساء والفتيات، التي وقعت أثناء المجازر، والتي استمرت منذ شباط/فبراير 2025، وخصوصاً ضد النساء العلويات.
علاوة على ذلك، اتهم أحمد الشرع «المجموعات خارج القانون» - وهو المصطلح الذي تستخدمه السلطة الحاكمة للإشارة إلى الفصائل المسلحة الدرزية المحلية في السويداء - بالمسؤولية الرئيسة عن أعمال العنف في محافظة السويداء، وبانتهاك اتفاق وقف إطلاق النار من خلال ممارستهم «عنفاً مروعاً» ضد المدنيين، وتهديدهم السلم الأهلي بدفع البلاد نحو الفوضى وانهيار الأمن. في الوقت نفسه، أشاد أحمد الشرع بتحركات العشائر العربية، المتورطة في الكثير من انتهاكات حقوق الإنسان ضد المدنيين في السويداء، والتي تعمل رسمياً خارج أي إطار مؤسساتي للدولة، داعيةً إياها إلى احترام وقف إطلاق النار… وهذه رسالة متناقضة، على أقل تقدير. في الواقع، في الاستراتيجية السياسية للسلطات المركزية لهيئة تحرير الشام، ظهر حشد العشائر العربية السنية كأداة مفيدة للتعويض عن الضعف العسكري للقوات المسلحة الحكومية في هجومها على السويداء، وللحصول على تنازلات سياسية؟
في الوقت نفسه، اعتمدت التغطية الإعلامية السائدة في البلاد، وخصوصاً على التلفزيون السوري الرسمي، الدعاية الرسمية للدولة، مشجعة على قراءة الأحداث على أنها تُحمّل الشيخ الهجري، أحد كبار رجال الدين الدروز، والفصائل الدرزية المسلحة المسؤولية الرئيسة عن العنف، متهمةً إياهم بـ«الانفصاليين» و«العصابات المسلحة» و«حلفاء الصهاينة»، وما إلى ذلك.
أدت هذه الهجمات، العسكرية والإعلامية على حد سواء، على محافظة السويداء إلى تقليص الخلافات القائمة بين مختلف الجماعات الدرزية المسلحة، بما في ذلك السكان الدروز المحليين. في مواجهة هذه التهديدات القاتلة، التي تُعتبر هجوماً على السكان الدروز ككل، تشعر جميع الأطراف بالحاجة إلى الوحدة.
فشلت الحكومة المركزية في دمشق في تحقيق أي من أهدافها المعلنة. فقد فقدت قنوات التواصل في السويداء مع الفاعلين السياسيين القليلين الذين كانت على تواصل معهم، وأبعدت شرائح كبيرة من الدروز.
من نواحٍ عدّة، أعادت تصرفات القوات المسلحة التابعة لحكومة دمشق أو الداعمة لها، وسلوكها تجاه السكان المحليين في السويداء، إلى الأذهان الذكريات المظلمة لدخول نظام الأسد السابق إلى شرق حلب أواخر عام 2016، وإلى الغوطة بريف دمشق ربيع عام 2018، أو دخول الجيش التركي وحلفائه السوريين إلى عفرين شمال غرب البلاد في العام نفسه. أي شكل من أشكال الاحتلال المسلح الذي يرفضه السكان المحليون.
الطائفية: أداة سياسية للهيمنة والسيطرة
تُعدّ هذه العمليات المسلحة ضد محافظة السويداء جزءاً من استراتيجية أوسع نطاقاً تنتهجها السلطات السورية الجديدة بقيادة هيئة تحرير الشام، بهدف ترسيخ سلطتها على بلد مُجزّأ.
ولتحقيق ذلك، اعتمدت في المقام الأول استراتيجية قائمة على الاعتراف الخارجي والشرعية لترسيخ هيمنتها داخل البلاد. ويُظهر الرئيس السوري وحلفاؤه رغبة واضحة في ترسيخ بلدهم ضمن محور إقليمي تقوده الولايات المتحدة وحلفاؤها الإقليميون، كتركيا وقطر والسعودية، بهدف ترسيخ قبضتهم على سوريا. وفي هذا السياق، تسعى السلطة الحاكمة الجديدة أيضاً إلى شكل من أشكال التطبيع مع إسرائيل.
بناءً على هذا الزخم الأولي، عززت الحكومة الجديدة بقيادة هيئة تحرير الشام هيمنتها على مؤسسات الدولة والجيش والأجهزة الأمنية والجهات الفاعلة الاجتماعية في البلاد. على سبيل المثال، عيّن الشرع وزراء ومسؤولين أمنيين ومحافظين تابعين لهيئة تحرير الشام أو من الجيش الوطني السوري، وهو تحالف من جماعات المعارضة المسلحة السورية عمل كوكيل للحكومة التركية لسنوات. على سبيل المثال، عيّنت السلطة الجديدة بعضاً من أعلى قادة هيئة تحرير الشام رتبة في الجيش السوري الجديد، بمن فيهم وزير الدفاع الجديد وقائد الهيئة المخضرم، مرهف أبو قصرة، الذي رُقّي إلى رتبة لواء. من خلال إعادة تنظيم الجيش السوري عبر دمج الجماعات المسلحة الموالية للسلطة الجديدة في دمشق فقط (هيئة تحرير الشام والجيش الوطني السوري) وتجنيد جنود جدد بديناميات مماثلة قائمة على الولاء، تسعى دمشق أيضاً إلى تعزيز سيطرتها وتفوقها على الجماعات المسلحة المتفرقة في البلاد من خلال تبرير تدابيرها ومنع أي كيان آخر من حمل الأسلحة خارج سيطرة الدولة، حيث أن وزارتي الدفاع والداخلية السوريتين هما الوحيدتان المخولتان بحمل الأسلحة. في حين أن توحيد جميع الجماعات المسلحة داخل جيش سوري جديد لا يثير المعارضة في حد ذاته، إلا أن قطاعات كبيرة من السكان الدروز في السويداء أو الأكراد في الشمال الشرقي ما زالوا يعارضونه، في غياب ضمانات معينة، مثل اللامركزية وعملية انتقال ديمقراطي وشامل وحقيقي. لم تساهم تصرفات وعنف الجماعات المسلحة الموالية للحكومة بتهدئة المخاوف، بل على العكس تماماً. في الوقت نفسه، تتهم السلطات الجديدة في دمشق الجماعات المسلحة المعارضة للحكومة المركزية بأنها «جماعات خارجة عن القانون»، مثل الفصائل المسلحة الدرزية المحلية، في حين أن الجماعات المسلحة الأخرى المؤيدة للحكومة لا تشعر بالقلق من هذه الاتهامات، مثل العشائر العربية السنية التي تقاتل في السويداء؛ بل على العكس من ذلك، يتم تعبئتها.
وبالمثل، تشغل شخصيات مقربة من الشرع مناصب رئيسة في الحكومة الانتقالية. بالإضافة إلى ذلك، أُنشئت مؤسسات موازية تتألف من الرئاسة السورية وشخصيات تابعة لهيئة تحرير الشام، مثل مجلس الأمن الوطني السوري، برئاسة الشرع، ويضم مساعديه المقربين (وزير الخارجية، ووزير الدفاع، ووزير الداخلية، ومدير المخابرات العامة)، والذي أُنشئ بالتزامن مع الحكومة المؤقتة لإدارة الشؤون الأمنية والسياسية. كما اتخذت السلطات السورية الجديدة خطوات لتعزيز سلطتها على الجهات الفاعلة الاقتصادية والاجتماعية. على سبيل المثال، أعادت هيكلة غرف التجارة والصناعة في البلاد باستبدال غالبية أعضائها بأشخاص معينين. علاوةً على ذلك، عُيّن ماهر الشرع، شقيق أحمد الشرع، أميناً عاماً لرئاسة الجمهورية في منتصف نيسان/أبريل، مسؤولاً عن إدارة شؤون الرئاسة والتنسيق بين الرئاسة وأجهزة الدولة. وبالإضافة إلى ذلك، كشف تحقيق أجرته وكالة رويترز مؤخراً أن حازم الشرع، إلى جانب آخرين، مسؤول عن إعادة تشكيل الاقتصاد السوري من خلال عمليات استحواذ سرية على شركات تعود إلى عهد الأسد. كما استدعت السلطات شخصيات جديدة مقربة من النظام لقيادة النقابات والروابط المهنية
وأخيراً، استخدمت الطائفية كأداة للهيمنة والسيطرة على الطبقات العاملة. وللتوضيح، فإن التوترات الطائفية والكراهية لا تنبع من انقسامات دينية قديمة، وليست «متجذرة جوهرياً» في الطبقات العاملة في المنطقة. فالطائفية والتوترات الطائفية نتاج الحداثة، ولها جذور وديناميات سياسية.
3 أهداف رئيسة
بشكل أعم، إن تصاعد الخطاب الطائفي والتوترات والهجمات التي تشنها السلطات الحاكمة، بقيادة هيئة تحرير الشام والقوات المسلحة الداعمة لها، أولاً ضد السكان العلويين، كما يتضح من مجازر الساحل، ثم ضد الطوائف الدرزية، يهدف إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسة:
أولاً، استغلال التوترات الطائفية وخطاب «المظلومية السنية»، سعياً لبناء شعور بالانتماء الشعبي وتوحيد شرائح واسعة من العرب السنة، على الرغم من الاختلافات السياسية والاجتماعية والجهوية وغيرها الكثير داخل هذه الشريحة.
الطائفية في جوهرها أداةٌ لترسيخ السلطة وتقسيم المجتمع. فهي تعمل على صرف انتباه الطبقات الشعبية عن القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من خلال جعل فئةٍ معينة (تُعرّف بالطائفة أو العرق) كبش فداء، كسببٍ لمشاكل البلاد وتهديدٍ أمني، ما يُبرّر السياسات القمعية والتمييزية ضدها. علاوةً على ذلك، تعمل الطائفية كآليةٍ قوية للسيطرة الاجتماعية، حيث تُشكّل مسار الصراع الطبقي من خلال تعزيز التبعية بين الطبقات الشعبية وقياداتها النخبوية. ونتيجة لذلك، تُجرّد الطبقات الشعبية من قدرتها السياسية المستقلة، وتُعرّف (وتُشارك سياسياً) من خلال هُويّتها الطائفية.
ثانياً، تهدف هذه الهجمات والتوترات الطائفية إلى تعطيل الفضاء أو الديناميات الديمقراطية من أسفل. من هذا المنظور، لطالما كانت السويداء رمزاً للمقاومة الشعبية، بما في ذلك ضد نظام الأسد السابق، من خلال العمل الديمقراطي المستمر، ومجتمع مدني محلي نابض بالحياة، ومحاولات إنشاء نقابات ونقابات مهنية بديلة. على سبيل المثال، شهدت محافظة السويداء مظاهرات وإضرابات شعبية متواصلة، لا سيما بعد اندلاع حركة احتجاجية واسعة نسبياً منذ منتصف آب/أغسطس 2023، والتي أكدت على أهمية الوحدة السورية، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وتحقيق العدالة الاجتماعية. ولا ننسى أن فصائل درزية مسلحة محلية شاركت في الهجوم العسكري، إلى جانب مجموعات عسكرية أخرى في جنوب سوريا، ضد نظام الأسد السوري في أيامه الأخيرة قبل سقوطه. وهذا من دون أن ننسى دعم الفصائل المسلحة الدرزية المحلية لعشرات الآلاف من شباب السويداء الذين يرفضون الانضمام إلى الجيش السوري التابع لنظام الأسد للقتال في صفوفه.
في آذار/مارس، أنهت المجازر الطائفية في المناطق الساحلية الاحتجاجات التي نظمها موظفو الخدمة المدنية المفصولون من الحكومة الجديدة في مختلف المحافظات خلال شهري كانون الثاني/يناير وشباط/فبراير 2025. فمنذ كانون الأول/ديسمبر 2024، فصلت السلطة السورية عشرات الآلاف، إن لم يكن أكثر، من موظفي القطاع العام. وفي أعقاب هذا القرار، اندلعت مظاهرات لموظفي الخدمة المدنية المفصولين أو الموقوفين عن العمل في جميع أنحاء البلاد. وكانت هذه الاحتجاجات واعدة، وكذلك محاولات إنشاء نقابات بديلة أو هياكل تنسيقية على الأقل. وطالبت هذه الكيانات الجديدة، بالإضافة إلى معارضة التسريح الجماعي للعمال، بزيادة الأجور ورفضت خطط الحكومة لخصخصة الأصول العامة. ومع ذلك، فقد ضعفت قوة حركة الاحتجاج بشكل كبير، بسبب المخاوف من رد الجماعات المسلحة المقربة من السلطة الحاكمة الجديدة بالعنف.
ثالثاً، سمح الخطاب الطائفي والهجمات العنيفة للسلطة الجديدة في دمشق بمحاولة إعادة تأكيد هيمنتها على المناطق الخارجة عن سيطرتها، كما هو الحال في السويداء في نيسان/أبريل وأيار/مايو الماضيين، أو كما حدث في المناطق الساحلية في آذار/مارس.
في هذا السياق، فإن الانتهاكات المسلحة التي ارتكبتها القوات المسلحة للحكومة أو الموالية لها ليست «ببساطة» نتيجة «ممارسات فردية» أو «انعدام احترافية» من جانب الجيش، سواء خلال مجازر آذار/مارس ضد السكان العلويين أو اليوم في السويداء. في الواقع، أظهر تحقيق «رويترز» أن الجماعات المسلحة للحكومة أو الموالية لها كانت متورطة بشكل مباشر في أعمال العنف التي ارتُكبت ضد المدنيين العلويين في آذار/مارس، بعلم وموافقة أعلى مستويات الدولة.
علاوة على ذلك، خلقت السلطة الحاكمة الجديدة الظروف السياسية التي جعلت هذا العنف ممكناً. في الواقع، ازدادت انتهاكات حقوق الإنسان ضد العلويين، بما في ذلك عمليات الاختطاف والاغتيال في الأشهر الأخيرة، وبعضها - مثل مجزرة الفحيل في أواخر كانون الأول/ديسمبر 2024 ومجزرة أرزه في أوائل شباط/فبراير 2025 - كان بمثابة بروفات لمجازر الساحل في آذار/مارس. علاوة على ذلك، دأب المسؤولون السوريون على تصوير الطائفة العلوية على أنها أداة للنظام القديم ضد الشعب السوري. على سبيل المثال، في خلال خطابه في المؤتمر التاسع للمانحين لسوريا في بروكسل، بلجيكا، صرّح وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني قائلاً: «54 عاماً من حكم الأقلية أدت إلى نزوح 15 مليون سوري...» - ما يُشير ضمنياً إلى أن الطائفة العلوية ككل حكمت البلاد لعقود، وليس نظاماً ديكتاتورياً تسيطر عليه عائلة الأسد. وفي حين أنه لا يمكن إنكار أن شخصيات علوية شغلت مناصب رئيسة داخل النظام السابق، وخصوصاً داخل أجهزته العسكرية والأمنية، فإن تقليص طبيعة الدولة ومؤسساتها المهيمنة إلى «هوية علوية» أو تصوير النظام على أنه يفضل الأقليات الدينية في حين يمارس التمييز المنهجي ضد الأغلبية العربية السنية هو أمر مضلل وبعيد كل البعد عن الواقع.
كما فشلت السلطة في إنشاء آلية لتعزيز عملية العدالة الانتقالية الشاملة التي تهدف إلى معاقبة جميع الأفراد والجماعات المتورطة في جرائم الحرب في خلال النزاع السوري. وكان من الممكن أن تؤدي هذه العملية دوراً حاسماً في منع أعمال الانتقام وتخفيف التوترات الطائفية المتزايدة. ومع ذلك، فإن أحمد الشرع وحلفائه ليس لديهم أي اهتمام بالعدالة الانتقالية، على الأرجح خوفاً من محاكمتهم على جرائمهم وانتهاكاتهم التي ارتكبوها ضد المدنيين. علاوة على ذلك، أعلنت السلطات الانتقالية السورية في 17 أيار/مايو عن مراسيم رئاسية لإنشاء هيئتين حكوميتين جديدتين: هيئة العدالة الانتقالية والهيئة الوطنية للمختفين قسرياً. ومع ذلك، فإن ولاية هيئة العدالة الانتقالية، كما هو محدد في المرسوم، ضيقة وتستبعد الكثير من الضحايا، بمن فيهم ضحايا هيئة تحرير الشام والجماعات المسلحة المتحالفة معها مثل الجيش الوطني السوري. وبالتالي، فإن هذه العدالة الانتقائية إشكالية للغاية وتخاطر بإثارة توترات سياسية وطائفية جديدة في البلاد. هذا من دون أن ننسى أن بعض الشخصيات المرتبطة بنظام الأسد والمذنبة بارتكاب جرائم، أو المساهمة فيها، قد مُنحت حصانة فعلية من قبل السلطة الجديدة، مثل فادي صقر، القائد السابق لقوات الدفاع الوطني التابعة لنظام الأسد السابق، أو محمد حمشو، رجل الأعمال المعروف المقرب من ماهر الأسد.
ونتيجة لذلك، فإن استراتيجية وأفعال قوات الحكومة السورية أو الموالية لها في محافظة السويداء هي جزء من الدينامية المتمثلة في تركيز السلطة في أيدي السلطة الحاكمة الجديدة وترسيخ هيمنتها على المجتمع.
إن خطر السلطة الحصرية مع سلطة مركزية ذات قدرات محدودة لا يمكن أن يؤدي إلا إلى مزيد من التوترات السياسية في البلاد. كما أن هذا الوضع يُضعف السيادة الشعبية على البلاد أكثر فأكثر.
استغلال إسرائيل للتوترات الطائفية
في الوقت نفسه، سعت الحكومة الإسرائيلية إلى استغلال انتهاكات حقوق الإنسان الأخيرة التي ارتكبتها القوات المسلحة الموالية لدمشق ضد الدروز لتأجيج التوترات الطائفية في البلاد، مُقدمةً نفسها على أنها المدافع عن الدروز في جنوب سوريا، ومهددةً بالتدخل العسكري «لحمايتهم». وعلى الرغم من مناشدات الشيخ حكمت الهجري، رجل الدين الدرزي، للحكومة الإسرائيلية، إلا أن هناك رفضاً واسع النطاق لأي تدخل إسرائيلي من شرائح واسعة من الدروز في السويداء ومناطق أخرى. كما أكدوا مراراً وتكراراً انتمائهم لسوريا ودعمهم لوحدة البلاد.
لكن الدفاع عن الدروز ليس، ولم يكن يوماً، من أولويات دولة إسرائيل. بل على العكس، تُرسل تل أبيب رسالة واضحة إلى دمشق: إنها لن تتسامح مع أي وجود عسكري في جنوب سوريا، بما في ذلك في محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء، وتهدف إلى نزع السلاح من هذه المناطق.
وفي هذا السياق، شن جيش الاحتلال الإسرائيلي ضربات جديدة في دمشق، بالقرب من مقر الجيش السوري ووزارة الدفاع، وكذلك في مناطق أخرى من البلاد يومي 16 و17 تموز/يوليو، في أعقاب هجمات سابقة.
وبذلك، تسعى دولة إسرائيل الاستعمارية والعنصرية إلى إضعاف الدولة السورية أكثر، والحصول على مزيد من التنازلات السياسية من دمشق، التي أعربت عن استعدادها لتطبيع علاقاتها مع تل أبيب، بشكل مباشر أو غير مباشر. وقد أكدت الحكومة السورية المؤقتة، بقيادة هيئة تحرير الشام، وجود مفاوضات ومباحثات مع مسؤولين إسرائيليين تهدف إلى تخفيف حدة التوتر بين الطرفين وإيجاد سبل للتفاهم. يأتي ذلك على الرغم من هجمات جيش الاحتلال الإسرائيلي المتواصلة على الأراضي السورية، وخصوصاً تلك التي احتلها عقب سقوط نظام الأسد في كانون الأول/ديسمبر، وما نتج عن ذلك من تدمير للأراضي الزراعية والبنية التحتية المدنية. وقد أكد الشرع مراراً وتكراراً أن نظامه لا يشكل تهديداً لإسرائيل، كما أعلن، على ما يبدو، للرئيس ترامب، استعداده للانضمام مجدداً إلى اتفاقيات إبراهيم إذا توافرت "الشروط المناسبة".
وهذا هو أيضاً سبب عدم إدانة دمشق للضربات الإسرائيلية المكثفة ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية. بل إنه ينظر بإيجابية إلى إضعاف إيران، كما هو الحال مع حزب الله في لبنان. ولا يرتبط هذا الموقف فقط بدور إيران في خلال الانتفاضة الشعبية السورية وعداء قطاعات واسعة من السكان لها، بل يعكس أيضاً، كما شرحنا آنفاً، التوجه السياسي للنخبة الحاكمة الجديدة في سوريا، والتي تسعى إلى ربط البلاد بمحور تقوده الولايات المتحدة لتعزيز سلطتها داخلياً
لم يتغير هذا التوجه على الرغم من الأحداث الأخيرة، والولايات المتحدة تُدرك ذلك جيداً. لا تريد واشنطن أن تشهد مزيداً من الضعف لهذه القوة الجديدة في دمشق، التي تسعى إلى تلبية هذه المصالح السياسية الإقليمية وضمان قدر من الاستقرار السلطوي. في هذا السياق، طلب القادة الأمريكيون من تل أبيب وقف قصفها لأهداف الحكومة السورية وإبرام هدنة مع دمشق. كما سمح اتفاق الهدنة بنشر قوات الحكومة السورية في محافظة السويداء، باستثناء مدينة السويداء التي رفضتها إسرائيل في البداية.
وبحسب مصادر مختلفة، من المنتظر أن يجتمع مسؤولون كبار من الولايات المتحدة وإسرائيل وسوريا، الخميس 24 تموز/يوليو، بهدف التوصل إلى اتفاق أمني في جنوب سوريا ومنع المزيد من الأزمات.
وفقاً لمصادر مختلفة، جاء القصف الإسرائيلي الأخير على سوريا نتيجة سوء تفاهم مع السلطات السورية عقب مناقشات في باكو، أذربيجان، بين ممثلين سوريين وإسرائيليين. وفي خلال المحادثات، زُعم أن سوريا طلبت موافقة إسرائيل على إعادة دمج السويداء. وبينما أبدت إسرائيل انفتاحها على إعادة دمج محدودة - أي استعادة خدمات الدولة ونشر قوة أمنية محلية محدودة - أساءت دمشق تفسير ذلك على أنه إذن بعملية عسكرية شاملة. وبغض النظر عن سوء الفهم، يكشف قرار السلطة السورية عن ميل دائم للاعتماد على المصادقة الخارجية لتبرير بعض السياسات، بما في ذلك الإجراءات القسرية ضد المجتمعات المحلية، بدلاً من إشراكها سياسياً.
بعبارة أخرى، فإن الاعتراف الدولي، والسعي إلى علاقات جيدة مع الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين، والترويج لعملية تطبيع محتملة مع إسرائيل، كلها تهدف إلى ترسيخ سلطة هيئة تحرير الشام على البلاد. يتم تجاهل مصالح الطبقات العاملة السورية وتطلعاتها الديمقراطية في هذه العملية.
في هذا السياق، تُظهر الأحداث الأخيرة في السويداء، مرة أخرى، أن سوريا لا تشهد انتقالاً سياسياً ديمقراطياً وشاملاً. بل إنها عملية إنشاء نظام استبدادي جديد، منظم وتقوده هيئة تحرير الشام، تحت غطاء الشرعية المؤسسية والدولية
ومع ذلك، لا تزال هذه العملية ناقصة بسبب ضعف القدرات السياسية والاقتصادية والعسكرية للسلطة الحاكمة الجديدة بقيادة هيئة تحرير الشام، كما يتضح من فشلها في السيطرة الكاملة على السويداء. وعلى الرغم من هذا الفشل، فمن غير المرجح أن تغير السلطة الحاكمة سياساتها أو تقدم تنازلات حقيقية لصالح المصالح السياسية والاجتماعية والاقتصادية للطبقات العاملة السورية على اختلافها من دون تغيير في ميزان القوى، والأهم من ذلك، من دون إعادة بناء وتطوير قوة موازية داخل المجتمع، تجمع بين الشبكات والجهات الفاعلة السياسية والاجتماعية الديمقراطية والتقدمية. ومع ذلك، فقد ظهرت جماعات ومنظمات سياسية واجتماعية ومجتمعية جديدة، وهي تُنظم صفوفها، لكنها لم تتطور بعد إلى قوى اجتماعية متجذرة في المجتمع. في الوقت نفسه، يجب تكثيف التعاون بين مختلف مناطق سوريا، بما في ذلك مع المنظمات الكردية الموجودة في شمال شرق سوريا
وقد نُظمت مظاهرة متواضعة في دمشق للتنديد بالمواجهات العسكرية، لكنها تعرضت لهجوم من قبل أفراد موالين للحكومة. لو وُجد مجتمع مدني وديمقراطي وتقدمي أقوى، لربما شهدنا احتجاجات حاشدة أكبر للضغط على الحكومة لوقف هجمات القوات الحكومية والموالية لها على السويداء. وعلى نحو مماثل، تشجع التعبئة الأوسع قطاعات أوسع من المجتمع التي تتقاسم القيم نفسها على المشاركة.
وإلا فإن حادثة السويداء لن تكون استثناءً، بل ستصبح بشكل متزايد مثالاً للمستقبل.
الديمقراطية نضال يومي... يجب كسبه…