
لا تتوقف الصراعات الأيديولوجية عند الصعود إلى السلطة، بل تتكثّف. ويتوقّف نجاح الحكم على إقامة التوازن بين المستوى الأيديولوجي وإدارة شروط الواقع المادي. في غياب هذه النقطة التوازنية، يتفشّى العنف بشكل أكبر، وتبدو الجماعات الجهادية كما لو أنها تحفر قبورها بنفسها، مخدوعة بأوهام السلطة وبناء الدولة.
كان وجود أحمد الشرع على رأس السلطة الانتقالية في الأسابيع الأولى يحظى بشبه إجماع بين السوريين، وذلك بسبب مخاوفهم من استغلال الفصائل الجهادية ظروف انهيار الدولة بعدما تمكنت من بسط هيمنتها على المعارضة السورية. فقد كان الشرع، في نظر جزء كبير من السوريين، الأكثر قدرةً على ضبط هذه الجماعات ومنعها من القيام بـ”أعمال إرهابية”.
عزز الانطباع السابق سلسلة من خطاباته التي أظهر فيها مرونةً وتفهماً للوضع السياسي منذ اللحظة الأولى لسقوط نظام الأسد، بالإضافة إلى إطلاقه وعوداً عدة أوهمت السوريين والمجتمع الدولي بوجود تغيرات فعلية على مستويَي الفكر والممارسة لدى “هيئة تحرير الشام”.
لكن كل الآمال بدأت بالتلاشي منذ رواج خطاب “من يحرّر يقرّر”، ثم توقيع الشرع على الإعلان الدستوري في آذار/ مارس 2025، الذي حدد المرحلة الانتقالية في سوريا بخمس سنوات ومنح الرئيس الانتقالي صلاحيات واسعة، من ضمنها الحق في إعلان حالة الطوارئ من دون الحصول على موافقة برلمانية، ما يتناقض مع منطق الفصل التام بين السلطات الذي يؤكده الإعلان الدستوري نفسه.
أي أن الشرع نصّب نفسه رئيساً للبلاد لفترة خمس سنوات مع صلاحيات استثنائية. كان ذلك بالتزامن مع تزايد حالات التضييق والقمع ذات الطابع الديني، ومحاولات فرض الانضباط الاجتماعي و”الشرعي” بأساليب قسرية وترهيبية، وتبرير الممارسات العنفية ضد الفئات المختلفة بحجة أنها “أخطاء فردية”، على رغم وجود خيوط تقود إلى وزارتي الداخلية والأوقاف السورية، ما يدل على وجود نية لدى “الجهاديين” لتأسيس نظام حكمٍ ثيوقراطي إسلامي، ممثلين بالشرع نفسه، وما يعنيه ذلك من تبعات سلبية. وكأن السلطة الجديدة تحاول – مجازياً – تطبيق نظرية “الضفدع المغلي” على المجتمع السوري.
تداخلت هذه الاعتداءات في الأشهر الأولى مع محاولات التخريب المتكررة من “فلول نظام الأسد” في مناطق عدة، ما جعل الأمور أكثر تعقيداً. بالإضافة إلى ذلك، كان هناك انفلات أمني كبير وتزايد لعمليات الثأر الفردية والسرقات والإحراق والتخريب من مجموعات “مجهولة”. كما تصاعدت الحساسيات الأمنية بين “قوات سوريا الديمقراطية” وفصائل الجيش الوطني السوري التابع لتركيا من جهة، وبين “هيئة تحرير الشام” من جهة أخرى، وبخاصة في أحياء مدينَتي حلب ومنبج، ما أسفر عن عمليات قنص للمدنيين وتفجير سيارات مفخّخة.
تفجّرت التوترات الخامدة تحت سطح “الاتفاق الضمني” بين السوريين حول قيادة أحمد الشرع للمرحلة الانتقالية في مناطق الساحل وسط سحابة من السعار الطائفي، وبدأت تتضح علامات الاستبداد مصحوبة بصعود حركة “فاشية” جماهيرية تسوّغ لنفسها كل أشكال العنف والاضطهاد الطائفي. أدّى غياب المحاسبة والمعالجة الجادّة لنتائج هجمات التطهير الطائفي التي تعرض لها العلويون في مناطق الساحل، إلى موجة جديدة من هجمات التطهير الطائفي في مناطق السويداء. في حين تستغل إسرائيل، على أحسن وجه، الجرائم ضد الدروز في السويداء لتقدّم نفسها مدافعةً عن حقوق “الأقليات” وتفرض نفوذاً عسكرياً وسياسياً متزايداً في الجنوب السوري.
مجازر الساحل: تكشّف الوجه الحقيقي لـ “الدولة”
بدأت الأوضاع بالتغير بشكل جذري منذ حدوث مجازر الساحل السوري. إذ تُظهِر الأدلة، بعد تقرير رويترز في 30 حزيران/ يونيو الماضي عن أحداث الساحل، حيث قُتل واختُطِف أكثر من 1500 مدني من الطائفة العلوية على يد فصائل مختلفة مرتبطة بالحكومة، من بينها فصائل “العمشات” و”الحمزات” التي انضوت تحت قيادة وزارة الدفاع السورية، بالإضافة إلى مقتل 500 عنصر من جهاز الأمن العام على يد ميليشيات بقيادة ضباط سابقين في نظام الأسد، من أبرزهم غياث دلا ومقداد فتيحة وياسر الحجل، وجود سلسلة قيادة مباشرة تربط مرتكبي المجازر بحق المدنيين بالقيادة السورية في دمشق.
لم تعترف الحكومة حتى اليوم بالنطاق الكامل للمجازر، وتتفادى التواصل مع أهالي الضحايا. فيما أعلنت لجنة تقصي الحقائق خلال مؤتمرها الصحافي في 22 تموز/ يوليو 2025 أن “معظم حوادث القتل وقعت خارج أو بعد انتهاء المعارك العسكرية”، وأن “الانتهاكات لم تكن منظمة، على رغم أنها واسعة ووقعت بدوافع متعددة”، لكنها أصرّت على تبرير المشهد الفوضوي الذي أعقب حملة التحريض والتعبئة الطائفية التي شاهدناها في مقاطع الفيديو المصورة في جميع المناطق السورية.
صرحت اللجنة أن “بعض المتهمين المحتملين من أفراد الفصائل المسلحة، وبعضهم لا مرجعية لهم، تحركوا فرادى، أو تطوعوا مع الفصائل، أو شكلوا مجموعات صغيرة بسبب خوفهم على دولتهم وعائلاتهم من عودة نظام الأسد وتكرار الفظاعات المروعة التي ارتُكبت بحقهم، أو لنجدة أبنائهم المتطوعين في القوات الحكومية أو المحاصرين من فلول الأسد، أو بدوافع الانتقام ممن يظنون أنهم شاركوا في قتل أحبائهم وتعذيبهم واغتصابهم. ومنهم من شكّل عصابات أشرار بقصد القتل أو النهب أو السرقة، ومنهم من انتحل صفات العناصر الحكومية لكسب منافع خاصة غير مشروعة أو للإساءة، ومنهم من ينتمي الى مجموعات الغجر التي تقطن المنطقة والتي انضم كثير منها أو تعاون سابقاً مع شبيحة نظام الأسد ضد معارضيه”.
والأسوأ أن اللجنة لم تفصح عن أسماء المتورطين في المجازر، بل اكتفت بالقول إنها توصلت إلى معرفة 298 شخصاً من المشتبه بهم، مع التأكيد أن هذا الرقم يبقى أولياً. هذا التلميح إلى أن مجازر الساحل لم تكن عملية منظمة يتناقض مع تقرير رويترز، بل مع كل المقاطع المصوّرة التي تثبت وقوع الجرائم على نطاق واسع، منظّم وفردي في آنٍ، إذ لم يشتبك عناصر الأمن العام ” الجيدون” مع المجموعات المسلحة التي مارست القتل الجماعي بحق المدنيين، أو لم يمنعوا عناصر الأمن العام “غير المنضبطين” من ارتكاب الانتهاكات بأنواعها.
ولو حدث ذلك بالفعل، واشتبكت العناصر الأمنية بالسلاح ضد تلك المجموعات والأفراد، لكان المشهد السياسي في الساحل قد اختلف تماماً. بالتالي، فإنه من الأصح القول إن اللجنة، على رغم استنادها إلى عدد كبير من الأدلة والوقائع الدقيقة، تلعب في الوقت نفسه دور طمس الحقائق بدلاً من تقصّيها، بخاصة بعد تحفّظها على أسماء المشتبه بهم، وتبرئتها الأجهزة الأمنية من خلال ألعوبة “الشرطي الجيد والشرطي السيئ”، ونفيها ما طرحه تقرير رويترز المستند أيضاً إلى شهادات حقيقية ويدل على وجود رابط بين القيادة في دمشق وجزء من مرتكبي الانتهاكات.
بالإضافة إلى تقديمها “الطاعة السياسية” للسلطة الجديدة في دمشق عبر عبارات لطالما سمعناها على لسان قضاة النظام السابق، ما ينفي حياديتها. فإذاً، سلطة الشرع هي التي توفر الغطاء السياسي والأمني للمجموعات الجهادية، ما يتيح لها تنفيذ أعمال إرهابية واسعة النطاق، سواء من خارج أجهزة الدولة أو من داخلها.
لكن ضحايا هذه السياسات ليسوا المدنيين وحدهم، بل أيضاً عناصر الأمن العام، الذين يسقط منهم أعداد كبيرة في كمائن مسلحة، وهم يحاولون تنفيذ قرارات مرتجلة تحت وطأة الشعور بفائض القوة الطائفي. يتجلى ذلك بصفة خاصة في التناقضات الكبيرة والواضحة داخل جهاز الأمن العام على مستويات عدة، إذ لا يمثل جهازاً أمنياً مركزياً حقيقياً، بل هو مجرد تجميع عشوائي لفصائل مسلحة وأفراد ومقاتلين أجانب يحملون أفكاراً متباينة، بعضها “داعشي”.
يسعى بعض هؤلاء إلى حفظ الأمن وحماية المدنيين، بينما يسعى آخرون إلى ارتكاب مجازر طائفية بذريعة فرض الأمن. ولا يزال غير محسوم بشكل نهائي ما إذا كانت تلك المجموعات تأتمر بأوامر الشرع، أم تفرض نفسها عليه بقوة الأمر الواقع، وهو ما يشكل الخطر الأعظم، لأن القواعد المتطرفة قادرة على استيلاد ما هو أكثر تطرفاً، بينما العكس ليس صحيحاً بالضرورة.
بينما كان الأمل لدى السوريين في ضبط التجاوزات متمثلاً في بقاء الشرع في السلطة لفترة معينة، باعتباره شخصاً قادراً على التحكم في المشهد الإسلامي الجهادي الذي ينحدر منه، أصبح اليوم المشهد معكوساً تماماً، إذ لم تعد هناك إمكانية لوقف الانتهاكات الجسيمة التي تحدث في ظل بقاء الشرع وقيادات “هيئة تحرير الشام” والفصائل الجهادية الحليفة لها في سدة الحكم السياسي وفي مواقع القرار الأمني. فسوريا تنتقل بخطى ثابتة من مرحلة “الأسد أو نحرق البلد” إلى مرحلة “لعيونك يا جولاني” و”بالذبح جيناكم”.
على رغم انضمام فصائل مسلحة عدة إلى وزارة الدفاع السورية، إلا أن نفوذها العسكري المستقل لا يزال قائماً، فيما تستمر في تعزيز حضورها داخل المناطق التي تسيطر عليها عسكرياً. والأخطر من ذلك أن هذه المجموعات تتمتع بحرية الحركة تحت غطاء السلطة المركزية، ما يسمح لها بارتكاب كل أنواع الانتهاكات، في ظل عدم وجود رقابة فعالة أو محاسبة جدية من الدولة.
مجازر السويداء: فائض القوة الذي يقود إلى الغباء
حتى خلال “فزعة العشائر” وهجمات التطهير الطائفي ضد دروز محافظة السويداء، تشير المعلومات إلى تسهيل عناصر الجيش والأمن انتقال عشرات الآلاف من مسلّحي العشائر عبر الأراضي السورية كافة باتجاه السويداء، بل وحتى تزويدهم بالذخائر، ما يتناقض فعلياً مع سردية السلطة حول نيّتها نزع السلاح غير الشرعي وفض الاشتباك بين المتقاتلين.
تُرِك مقاتلو العشائر على سجيّتهم ليمارسوا القتل الجماعي وحرق المنازل وتدمير الممتلكات انتقاماً لقتلاهم في الجولة الأولى من الاشتباكات، بالإضافة إلى القيام بعمليات “تعفيش” كبيرة شملت كل شيء، حتى حيوانات المزارع، قبل أن تُعلِن وزارة الداخلية إخلاء المنطقة وبدء انتشار عناصر وزارتي الداخلية والدفاع. الأمر الذي رفضته الفصائل الدرزية التابعة للشيخ حكمت الهجري، التي واصلت مهاجمة قوات الشرع حتى آثرت الأخيرة الانسحاب مجدداً وترك الساحة لمقاتلي العشائر. وهكذا، استمر تبادل الأدوار بين قوات الشرع ومقاتلي العشائر لأيام.
وفي الوقت نفسه، ظهرت بوادر شرخٍ بين العشائر في ريف السويداء والشرع، بعدما تعرضت العشائر لمجازر انتقامية كبيرة في أعقاب الانسحاب الأول لقوات الشرع من المحافظة. وهذه ثغرة يمكن أن يستغلها تنظيم “داعش”، فلا يجب أن ننسى أن للتنظيم امتداده بين صفوف العشائر العربية، التي لعب بعضها في سوريا والعراق دوراً محورياً في صعوده عام 2013.
الواضح أنه عندما عجز الشرع عن فرض سلطته على السويداء بقوة السلاح في المرة الأولى، بسبب التدخل الإسرائيلي الحاسم والمقاومة الدرزية الشديدة، لجأ إلى استخدام العشائر العربية، تماماً كما استخدمها في كل مرة لتبرير الدخول الأرعن لقواته إلى المحافظة. وفي كل مرة، تسبب ذلك في تعميق المشاعر الانتقامية وأطال زمن دوامة الثأر بين العشائر والدروز، كما كرّس التوجهات الانفصالية لدى غالبية دروز السويداء.
ربما يكون أسوأ ما قام به الشرع، تجسيداً لشعوره بفائض القوة، هو اعتبار نفوذ الشيخ الهجري عائقاً يمكن إزالته بالقوة العسكرية. فالهجوم المباغت على السويداء بذريعة “فض الاشتباك”، نتج منه تعزيز دور الهجري، عوضاً عن تهميشه، وبالتالي إنعاش الحراك الانفصالي الدرزي ومدّه بكل أسباب الوجود. بل أكثر من ذلك، جعل هذا الهجوم دروز السويداء أقرب إلى تل أبيب منه إلى دمشق.
فحين هبّ القادة الأمنيون والسياسيون الإسرائيليون للتحذير من الهجوم على دروز السويداء، تلبيةً لمطالب الرئيس الروحي للطائفة الدرزية في إسرائيل، الشيخ موفق طريف، وتحت ضغط الكتلة الدرزية في المجتمع الإسرائيلي، كان عناصر الأمن التابعون لسلطة الشرع يحملون المقصات ويلتقطون مقاطع الفيديو والصور مهدّدين بـ “حلاقة شوارب” المشايخ والشباب الدروز تمهيداً لغزوتهم بحجة “فرض الأمن” و”ضبط العناصر الخارجة عن القانون”.
بل وأكثر، لقد أدى الهجوم على السويداء إلى تمدد نفوذ الهجري إلى درجة محاصرة نفوذ الفصائل الدرزية الأخرى التي أبدت مواقف أكثر اعتدالاً في السابق، ورفضت نداءات اللجوء إلى الحماية الدولية أو الإسرائيلية، مثل “حركة رجال الكرامة” بقيادة الشيخ ليث البلعوس. هكذا، انقلب الامتداد السياسي والعسكري لدمشق في السويداء إلى امتداد إسرائيلي مباشر، بعدما صارت السلطة في دمشق هي العدو الرئيسي، وتحولت إسرائيل إلى مدافعٍ عن صمود الدروز في أرضهم.
أحرق الشرع جميع أوراقه الرابحة التي كانت تضمن له بعض التوازن السياسي في السويداء، بما في ذلك ورقته الدرزية الأكبر المتمثلة في الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي في لبنان، وليد جنبلاط، الذي ساهم بشكل حاسم في خلق الأرضية له للانطلاق في حكمه منذ اللحظة الأولى في 22 كانون الأول/ ديسمبر 2024، فكان أول الزائرين له.
ومع ذلك كله، يجب أن نطرح التساؤلات حول ما اتُّفِق عليه حقاً خلال المحادثات غير المعلنة التي أُجريت على هامش زيارة أحمد الشرع إلى باكو في أذربيجان في 12 تموز/ يوليو لتوقيع اتفاق لاستيراد الغاز بين مسؤولين سوريين وإسرائيليين، حول “تدابير أمنية” في جنوب سوريا، كما كشفت قناة “كان” الإسرائيلية، أي قبل ساعات من بدء الأحداث الدامية في السويداء، على رغم أن كل ما يمكن التشكيك فيه لا يمكن تأكيده أو نفيه، ويبقى، حتى ظهور معطيات مادية فعلية، في موقع الافتراض لا أكثر.
الدور الإسرائيلي المتعاظم من بوابة “الدفاع عن الأقليات”
أوجدت جرائم القتل الجماعي ضد العلويين والدروز مبررات للقوى الخارجية للتدخل بشكل مباشر. ومن ضمن تلك القوى تأتي إسرائيل و”حزب الله”، إذ يقدم كلاهما نفسه كجهة تحمي “الأقليات” في المنطقة. لكن، بعد نجاح إسرائيل في إنهاء نفوذ “حزب الله” في جنوب سوريا، حتى قبل سقوط نظام الأسد، وبالتعاون مع الفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد، التي نفذت الأوامر الإسرائيلية في مناطق درعا والقنيطرة بحذافيرها عبر منع عناصر “حزب الله” من التواجد ونقل السلاح، في محاولة لوقف القصف الإسرائيلي، وبعدما تمكنت إسرائيل أيضاً من تقليص نفوذ الحزب في لبنان بعد الحرب الأخيرة وفرض شروط قاسية عدة، أصبحت هي الآن الطرف الوحيد الذي يدّعي رفع راية “حماية الأقليات”.
تبدو هذه المواجهة الإسرائيلية ناجحة على مستوى الخطاب السياسي، بخاصة مع النفوذين التركي والخليجي اللذين يدعمان الحركات الإسلامية السنية، من أكثرها اعتدالاً إلى أكثرها تطرفاً. ولا يضع البلدان خطوطاً حمراء في ما يخص منع التعرض لـ “الأقليات”، سواء في الساحل السوري كما حصل سابقًا، بمشاركة ميليشيات مرتبطة مباشرة بأنقرة وتعمل كمرتزقة لديها وتدين بالولاء لتركيا على رغم انضمامها إلى وزارة الدفاع السورية، مثل “العمشات” و”الحمزات”، أو في جنوب سوريا ومحافظة السويداء، بمشاركة مقاتلي العشائر.
بعد هجمات السويداء، أصبح لإسرائيل دور بارز في الشأن الداخلي السوري لم يعد من الممكن تجاهله. فقد استغلت إسرائيل الظروف الراهنة لتعزيز نفوذها السياسي والعسكري. المقلق أنه لولا العامل الإسرائيلي، لكانت المجازر المرتكبة في السويداء تجاوزت كل ما يمكن للعقل أن يتخيله في اليوم الأول، ليس فقط على يد مقاتلي العشائر، بل أيضاً على يد المقاتلين الأجانب والسوريين المتطرفين الذين ينخرون في جسد الأجهزة الأمنية، ولا يقيمون وزناً لدم أي بريء، سواء كان سورياً أم غير سوري. بالتالي انقلبت سردية “تحرير السويداء من المتعاملين مع إسرائيل” على أصحابها في دمشق، وأصبحت في السويداء “تحرير السويداء من الدولة المجرمة، حتى لو كان ذلك يتطلب حماية إسرائيلية”. وفي هذا الانقلاب في السردية يكمن الانتصار الإسرائيلي بالذات.
خيار التعاون مع إسرائيل كوسيلة للبقاء ومواجهة الخطر الوجودي، فرضته الدولة السورية على جزء كبير من دروز السويداء، إما نتيجة فشلها في حمايتهم من عمليات القتل الجماعي، أو نتيجة مشاركتها في تلك العمليات، أو الاثنين معاً، بما أن الأجهزة الأمنية تبدو حتى الآن فاقدة للمشروعية المؤسساتية ومخترقة من المجموعات الجهادية التي اعتاشت تاريخياً على الفوضى والقتل، ولا تزال غير متصالحة مع واقعها الجديد الذي يفرض عليها الاقتناع بمنطق الدولة والدستور والمؤسسات.
لكن المخطط الإسرائيلي الذي نفترض أنه يقوم على ضم السويداء لا يزال غير قابل للتحقيق بشكل فعلي، وربما يؤجَّل إلى زمنٍ غير معروف، وذلك لأسباب داخلية تتعلق بأزمة الحكم التي يواجهها الرئيس الإسرائيلي بنيامين نتانياهو بعد الانسحابات التي شهدتها حكومته، والتي تهدد بتفكك الائتلاف الحاكم. الأمر الذي يجب على دروز السويداء أخذه بالاعتبار وعدم التعويل على إسرائيل لحمايتهم حتى النهاية، فربما لن يكون الضغط الذي يمارسه الدروز الإسرائيليون بقيادة الشيخ موفق طريف كافياً لتأمين الحماية لهم في المستقبل.
تناقضات المشهدين السياسي والأمني بين الإسلام الجهادي والدولة الحديثة
تستند الجماعات الجهادية، ومن بينها الجماعة الحاكمة اليوم في دمشق، إلى تفسير متشدد للدين الإسلامي، يركز على أن النظام السياسي يجب أن يخضع بالكامل للشريعة الإسلامية، وبالتالي فعلى الدولة أن تكون مسلمة. وكأن الدولة ليست مجرد جهازٍ إداري (وفي سياقات محددة أداة هيمنة طبقية)، بل لها دين خاص بها، بالمعنى الثابت للكلمة ومن خارج كل السياقات الاجتماعية والتاريخية، حيث يكون الإسلام العنصر الأساسي فيها بدلاً من البنى الاقتصادية والاجتماعية.
في المقابل، تقوم الدولة الحديثة على مفاهيم الشرعية البرلمانية والفصل بين السلطات والمواطنة، وتلتزم بالقوانين والمواثيق الدولية، وعلى هذا الأساس تكتسب الاعتراف الدولي بها. تضبط الدولة الحديثة العلاقة بين الأفراد والمؤسسات على أساس سيادة القانون الذي يطبَّق بالتساوي على الجميع بغض النظر عن ديانتهم أو طائفتهم أو عرقهم، فيما تحتكر السلاح واستخدام العنف.
التناقض الأول في الحالة السورية يتمثل في استحضار الدولة الأموية التي تأسست منذ 1364 عاماً، وإحياء السردية التاريخية المتعلقة بتلك الحقبة، وأسطرة أحداثها وتظهيرها كنموذج مثالي خالٍ من الشوائب، ثم إسقاطها على الحاضر. يتتبع الفكر الأصولي روايات الماضي لتعزيز سلطته من دون النظر إلى ظروف الواقع المادي في الحاضر. وكأننا أمام مقارنة حقيقية بين الدولة الأموية التوسعية وشديدة المركزية، وبين الدولة السورية المتقهقرة التي تفتقر إلى شروط أن تصبح مركزية.
كانت هذه السردية سلاحاً في مواجهة نظام البعث السابق، استخدمته الجماعات الجهادية للدلالة على وجود عصرٍ ذهبي لـ “الحكم الإسلامي” يتوجب على “الجماهير المسلمة” إعلان الجهاد لاستعادته. لكن بعد وصول بعض تلك الجماعات إلى السلطة، تحولت هذه السردية نفسها إلى سلاحٍ يُستخدم ضدها وحدها. فشرط أن تكون الدولة أموية، كما تشير وقائع التاريخ، هو أن تكون توسعية، لا تعترف بالسيادة الوطنية للدول الأخرى، على غرار الدول والإمبراطوريات التوسعية، مثل الدولة الرومانية والعثمانية والمغولية، التي لا يمكن التفكير في استعادتها ما لم تكن قائمة على التوسع كخاصية جوهرية تنتفي بانتفائها. ومنطق تفكير الجماعات الجهادية يرتكز على التوسع في شتى الأحوال. أما على أرض الواقع، فتبدو الدولة السورية بقيادة تلك الجماعات عاجزة عن الحفاظ على حدود سيادتها الوطنية، وتحاول استرضاء كل العالم، ربما باستثناء لبنان، لبسط سلطتها على أراضيها ذاتها، ما يجعل استحضار الماضي عملية تبطل نفسها بنفسها.
التناقض الثاني يكمن في فشل الفكر الجهادي في الانتقال من مرحلة الجهاد إلى مرحلة الحكم، والتوقف عن الخلط بين المرحلتين، ما يتطلب القيام بمراجعات أيديولوجية وسياسية جذرية، لم تحصل ويبدو أنها لن تحصل أبداً. فالمجموعات الجهادية في سوريا بنت كل شرعيتها على قاعدة معارضة نظام الأسد، وتمكين أنفسها عسكرياً لإسقاطه، وتنمية المفاهيم الجهادية لدى أعضائها ومقاتليها، وتهيئتهم لإقامة “دولة الخلافة”، من دون مراعاة التحديات السياسية التي واجهتها تيارات إسلامية أخرى في أكثر من مكان حول العالم، والتي تسببت في فشل تجاربها من دون أن تقدّم أي إنجازات تترك أثراً ملموساً في حياة المجتمع في نهاية المطاف.
تتعارض فكرة “الحكم الجهادي” أو حتى “دولة الخلافة” جوهرياً مع مفهوم الدولة الحديثة. وغالباً ما تستند أطروحات الجماعات الجهادية إلى سردية تقويض أسس تلك الدولة ومقوماتها، وتضعها في موقع العداء الأيديولوجي من دون تقديم بديلٍ معاصر، بل عبر استعادة مفاهيم بائدة لم تعد تصلح في التاريخ المعاصر. حصلت حكومة الشرع على اعترافات دولية، هذا أمر صحيح، لكن هذه الاعترافات لم تكن ناتجة من التزام الشرع بقواعد اللعبة السياسية القائمة على القوانين الدولية وشرعة حقوق الإنسان، بل من اتباعه قواعد لعبة سياسية مختلفة قائمة على تقديم التنازلات للقوى الدولية والإقليمية مقابل الاعتراف بحكمه. وكأن حافظ الأسد بُعِث حياً، والجولان أصبح على يد الجولاني جولانين.
التناقض الثالث يتمثل في عجز الجماعات الجهادية عن تحويل نفسها من قوات مسلحة غير نظامية إلى جيش نظامي، الأمر الذي يبدو واضحاً ولا يحتاج إلى دليل. وربما يكون العامل الأساسي في هذا العجز هو التباينات الأيديولوجية والسياسية داخل هذه الجماعات نفسها. يصبّ في هذا الإطار تعيين الشرع المقربين له في “هيئة تحرير الشام”، بالإضافة إلى القيادات العسكرية والأمنية للفصائل الجهادية الأخرى، في مراكز أمنية وعسكرية حساسة بغية استرضائها. كما يصبّ في الإطار نفسه تجنيس ودمج المقاتلين الأجانب الذين قدموا إلى سوريا أساساً لتنفيذ أجندات جهادية وليس لبناء دولة تضم جميع السوريين. فكيف يمكن في ظل هذه التناقضات الأمنية أن تُخلَق هوية عسكرية سورية، لجيشٍ موحد، مستقرٍّ ومنضبط، ويأتمر بأوامر القيادة المركزية؟
الجماعات الجهادية غير جاهزة ولا مجهزة لتوفير الأمن. بل إن سلوكياتها غير المنضبطة والانتهاكات التي تمارسها تحت مظلة الجيش والأجهزة الأمنية، تتسبب في تنامي الأنشطة المسلحة خارج إطار الدولة، تماماً على عكس الخطاب السائد الذي يتوهّمه السوريون، بل والجهاديون أنفسهم. لا تتوقف الصراعات الأيديولوجية عند الصعود إلى السلطة، بل تتكثّف. ويتوقّف نجاح الحكم على إقامة التوازن بين المستوى الأيديولوجي وإدارة شروط الواقع المادي. في غياب هذه النقطة التوازنية، يتفشّى العنف بشكل أكبر، وتبدو الجماعات الجهادية كما لو أنها تحفر قبورها بنفسها، مخدوعة بأوهام السلطة وبناء الدولة. فلو استحضرنا ابن خلدون في القرن الحادي والعشرين ليعالج ظاهرة هيمنة الفكر الجهادي في الدولة السورية الجديدة، بما هي دولة تقوم على العنف الطائفي في مراحلها الأولى بدلاً من الاستقرار الأمني والسياسي والازدهار الاقتصادي، لأضاف مرحلةً صفرية وأطلق عليها تسمية “الدولة المجهضة ذاتياً”.
بالطبع، تختلف تجارب الاندماج السياسي للتيارات الجهادية حول العالم، فلكل مجتمع خصوصيات معينة تلقي بظلالها أيضاً على تلك التيارات، على رغم التقاطعات الكبيرة التي تتجاوز الجغرافيا في ما بينها. لكن تجارب التاريخ توحي بأن هذا الاندماج ليس أمراً سهلاً، بل شبه مستحيل غالباً.
انتخابات ديمقراطية عاجلة تفادياً لحربٍ أهلية جديدة
المخرج الوحيد من هذا المشهد المعقّد والقابل للتحول إلى حربٍ أهلية جديدة هو إقامة انتخابات ديمقراطية في أسرع وقتٍ ممكن، وعدم الانتظار لمدة خمس سنوات، وكأن البلاد في حالة طوارئ غير معلنة. فإما أن تؤكد الانتخابات شرعية حكم الشرع، وإما أن تسحب منه الشرعية وتتيح للسوريين الحصول على تمثيلٍ أكثر عقلانية وقدرة على العبور بسوريا نحو بر الأمان.
هذا الوضع الشاذ سببه الرئيسي غياب الشرعية الشعبية التي توفرها الانتخابات، وفترة الرئاسة غير الدستورية التي منحها الشرع لنفسه، والمحاولات المتكررة لفرض شروط قاسية على السوريين الذين دافعوا عن وجودهم وحريتهم لسنوات طويلة ضد قمع نظام الأسد وإرهابه، عبر إخضاعهم عسكرياً بدل التفاوض معهم لإيجاد صيغة حكمٍ ديمقراطية وقابلة للحياة، تنفي صيغة الحكم الأسدية التي تحكمت برقاب السوريين لخمسين عاماً.
بالإضافة إلى أسباب أخرى تتعلق بمماطلة السلطة الانتقالية في معالجة الملفات الشائكة المرتبطة بالمقاتلين الأجانب والتحقيق في مجازر الساحل، ومؤخراً الغرق في وحل صراعٍ طائفي جديد في محافظة السويداء واستجلاب التدخل الإسرائيلي المباشر.
كل تلك الممارسات تحدث تحت شعاري “توحيد سوريا” و”مركزية الدولة”، فيما تثبت الأحداث أن هذه الممارسات، التعسفية أحياناً والإرهابية أحياناً أخرى، هي التي تعرّض سوريا للتقسيم الحقيقي. واليوم، المناخ الشعبي في محافظة السويداء هو الأقرب للانفصال سواء وجدت إسرائيل أم لم توجد.