أخذ التمرد في سورية العالم بالمفاجأة، وقام بإسقاط ديكتاتورية عائلة الأسد التي حكمت سورية منذ تولي حافظ، والد بشار الأسد، السلطة في انقلاب قاده قبل 54 عامًا. ولم تتمكن القوات العسكرية للنظام ولا راعيه الإمبريالي، روسيا، وداعمه الإقليمي، إيران، من الدفاع عنه. وتم تحرير المدن الخاضعة لسيطرة النظام، وتحرير آلاف السجناء السياسيين من زنزاناته سيئة السمعة، وفُتحت مساحة لمعركة جديدة من أجل سورية حرة، دامجة وديمقراطية، لأول مرة منذ عقود.
وفي الوقت نفسه، يدرك معظم السوريين أن مثل هذا النضال يواجه تحديات هائلة، بدءًا من بما تمتله قوتي المتمردين الرئيسيتين؛ "هيئة تحرير الشام" و"الجيش الوطني السوري" المدعوم من تركيا. وفي حين أن هؤلاء الناس قادوا النصر العسكري، إلا أنهم استبداديون، ولهم تاريخ من الطائفية الدينية والعرقية. وقد ادعى البعض في اليسار، من دون أساس، أن تمرد هذه القوى كان مدبرًا من الولايات المتحدة وإسرائيل. وأضفى آخرون طابعًا رومانسيًا على هذه القوات المتمردة باعتبار أنها تعيد إحياء الثورة الشعبية الأصلية التي كادت أن تطيح بنظام الأسد في العام 2011. لكن أيًا من المقاربتين لا تجسد الديناميات المعقدة التي تتكشف في سورية اليوم.
في هذه المقابلة التي أجريت في خضم التغير السريع في سورية، تحاور مجلة "ذا تيمبست" The Tempest المناضل الاشتراكي السوري-السويسري جوزيف ضاهر، وتسأله عن العملية التي أدت إلى سقوط حكم الأسد، والآفاق التي ربما تُفتح الآن للقوى التقدمية، والتحديات التي تواجهها في النضال من أجل بلد متحرر حقًا، يخدم مصالح كل شعبه بكل طبقاته الشعبية .
****
ذا تيمبست: كيف يشعر السوريون الآن، بعد سقوط النظام؟
جوزيف ضاهر: الفرح لا يصدق. إنه يوم تاريخي. لقد ولت 54 عامًا من طغيان عائلة الأسد. وقد شاهدنا مقاطع الفيديو التي تعرض الاحتفالات الشعبية في جميع أنحاء البلاد، من دمشق وطرطوس وحمص إلى حماة وحلب والقامشلي والسويداء وغيرها من جميع المناطق والطوائف الدينية والأعراق، حيث تم تدمير تماثيل ورموز عائلة الأسد.
وبالطبع، هناك الفرحة الكبيرة لتحرير السجناء السياسيين من سجون النظام، وخاصة سجن صيدنايا، المعروف باسم "المسلخ البشري" الذي يُحتمل أنه يضم 10 آلاف إلى 20 ألف سجين. وكان بعضهم محتجزًا منذ الثمانينيات. كما تمكن الناس الذين نزحوا في العام 2016 -أو حتى قبل ذلك- من حلب ومدن أخرى، من العودة إلى منازلهم وأحيائهم، ورؤية عائلاتهم لأول مرة منذ سنوات.
في الوقت نفسه، في الأيام الأولى التي أعقبت نجاح هجوم المتمريدين العسكري ، كانت ردود الفعل الشعبية متباينة ومشوشة في البداية، بطريقة تعكس تنوع الرؤى السياسية في المجتمع السوري، داخل البلاد وخارجها. كانت بعض الشرائح سعيدة جدًا بالظفر بهذه الأراضي وإضعاف النظام، والآن سقوطه.
لكنَّ بعض قطاعات السكان كانت -وما تزال- خائفة أيضًا من "هيئة تحرير الشام" و"الجيش الوطني السوري". إنهم قلقون من الطبيعة الاستبدادية والرجعية لهذه القوى ومشروعها السياسي.
والبعض قلقون بشأن ما سيحدث في الوضع الجديد. وعلى وجه الخصوص، أصدرت قطاعات واسعة من الأكراد وغيرهم من السعداء بسقوط ديكتاتورية الأسد، إدانات لعمليات لتهجير القسريو الاغتيال التي يمارسها "الجيش الوطني السوري".
ذا تيمبست: هل يمكنك أن تسرد لنا تسلسل الأحداث، خاصة تقدم المتمردين، الذين هزموا قوات الأسد العسكرية، وأدت إلى سقوطه؟ ما الذي حدث؟
ضاهر: شنت "هيئة تحرير الشام" و"الجيش الوطني السوري" المدعوم من تركيا حملة عسكرية في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2024 ضد قوات النظام السوري، وحققتا انتصارات مذهلة. في أقل من أسبوع، سيطرت "هيئة تحرير الشام" و"الجيش الوطني السوري" على معظم محافظتي حلب وإدلب. ثم سقطت مدينة حماة الواقعة على بعد 210 كيلومترات إلى الشمال من دمشق، في أيدي "هيئة تحرير الشام" و"الجيش الوطني السوري" بعد مواجهات عسكرية عنيفة بينهما وبين قوات النظام المدعومة من سلاح الجو الروسي. وبعد حماة، سيطرت "هيئة تحرير الشام" على حمص.
في البداية أرسل النظام السوري تعزيزات إلى حماة وحمص، ثم قصف -بدعم من سلاح الجو الروسي- مدينتي إدلب وحلب ومحيطهما. وفي 1 و2 كانون الأول (ديسمبر)، شُنت أكثر من 50 غارة جوية على إدلب حيث تضررت أربعة مرافق صحية على الأقل، وأربعة مرافق مدرسية، ومخيمان للنازحين، ومحطة مياه. وأدت الغارات الجوية إلى نزوح أكثر من 48.000 شخص وعطلت بشدة تقديم الخدمات وتسليم المساعدات. وكان الديكتاتور بشار الأسد قد وعد بإلحاق الهزيمة بأعدائه، وصرح بأن "الإرهاب لا يفهم إلا خطاب القوة". لكن نظامه بات ينهار في كل مكان.
وبينما كان النظام يخسر مدينة تلو الأخرى، قامت محافظتا السويداء ودرعا الجنوبيتان بتحرير نفسيهما؛ وتولت السيطرة فيهما قوات المعارضة المسلحة الشعبية والمحلية، المنفصلة والمتميزة عن "هيئة تحرير الشام" و"الجيش الوطني السوري". ثم انسحبت قوات النظام من بلدات تبعد نحو عشرة كيلومترات عن دمشق، وتخلت عن مواقعها في محافظة القنيطرة المتاخمة لهضبة الجولان التي تحتلها إسرائيل.
ومع اقتراب فصائل مسلحة مختلفة من المعارضة –غير منتمية لــ "هيئة تحرير الشام" أو "الجيش الوطني السوري"- من العاصمة دمشق، انهارت قوات النظام وانسحبت، في حين تضاعفت المظاهرات الشعبية وإحراق جميع رموز بشار الأسد ونظامه في مختلف ضواحي دمشق. وفي ليلة 7 على 8 كانون الأول (ديسمبر)، تم الإعلان عن تحرير دمشق. ولم يكن مصير بشار الأسد ومكانه معروفَين في البداية، لكنّ بعض المعلومات أشارت إلى أنه موجود في روسيا تحت حماية موسكو.
أظهر سقوط النظام هشاشته الهيكلية، عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا، وانهار مثل بيت من ورق. وليس هذا مفاجئًا لأنه بدا واضحًا أن الجنود لن يقاتلوا في صفوف نظام الأسد، بالنظر إلى رواتبهم القليلة وظروفهم الهشة. وقد فضلوا الفرار أو عدم القتال بدلاً من الدفاع عن نظام لا يكنون له سوى تعاطفا ضئيلا جدا ، خاصة وأن الكثيرين منهم مجنّدون قسرًا.
إلى جانب هذه الديناميات في الجنوب، عملت ديناميات أخرى في أجزاء مختلفة من البلاد منذ بدء هجوم المتمردين. أولاً، قاد "الجيش الوطني السوري" هجمات على الأراضي التي تسيطر عليها "قوات سورية الديمقراطية" بقيادة الأكراد في شمال حلب، ثم أعلن عن بدء هجوم جديد على مدينة منبج الشمالية، التي تخضع لسيطرة "قوات سورية الديمقراطية". وفي يوم الأحد 8 كانون الأول (ديسمبر)، وبدعم من الجيش والقوات الجوية والمدفعية التركية، دخل "الجيش الوطني السوري" المدينة.
ثانيًا، استولت "قوات سورية الديمقراطية" على معظم محافظة دير الزور التي كانت تسيطر عليها قوات النظام السوري والميليشيات الموالية لإيران، بعد أن انسحبت هذه القوات لإعادة الانتشار في مناطق أخرى والقتال ضد "هيئة تحرير الشام" و"الجيش الوطني السوري". ثم وسعت "قوات سورية الديمقراطية" سيطرتها على مساحات شاسعة من الشمال الشرقي كانت في السابق تحت سيطرة النظام.
ذا تيمبست: من هي قوات المتمردين، وخاصة تشكيلهم الرئيسي المكون من "هيئة تحرير الشام" و"الجيش الوطني السوري"؟ ما هي سياساتهم وبرنامجهم ومشروعهم؟ ما هو الرأي الذي تحمله الطبقات الشعبية عنهم؟
ضاهر: يعكس الاستيلاء الناجح على حلب وحماة وحمص ومناطق أخرى في حملة عسكرية قادتها "هيئة تحرير الشام" من نواح كثيرة تطور هذه الحركة وتحولها على مدى سنوات عدة إلى تنظيم أكثر انضباطًا وتنظيمًا، سياسيًا وعسكريًا. يمكنها الآن إنتاج طائرات من دون طيار وهي تدير أكاديمية عسكرية. وقد تمكنت "هيئة تحرير الشام" من فرض هيمنتها على عدد من الجماعات العسكرية، من خلال القمع والإدماج، في السنوات القليلة الماضية. وبناء على هذه التطورات، وضعت "الهيئة" نفسها في موقف مناسب لشن هذا الهجوم.
أبحت الهيئة لاعبًا شبه دولتي في المناطق التي تسيطر عليها، حيث أنشأت حكومة، "حكومة الإنقاذ السورية"، التي عملت كإدارة مدنية لـ"هيئة تحرير الشام" وتولت مهمة تقديم الخدمات. وكانت هناك رغبة واضحة لدى "هيئة تحرير الشام" بحكومتها، "حكومة الإنقاذ السورية" في السنوات القليلة الماضية لتقديم نفسها للقوى الإقليمية والدولية كقوة عقلانية، من أجل تطبيع حكمها. وأدى ذلك بشكل خاص إلى إتاحة مساحة متزايدة لبعض المنظمات غير الحكومية لكي تعمل في قطاعات رئيسية في مناطق "الهيئة"، مثل التعليم والرعاية الصحية، حيث تفتقر "حكومة الإنقاذ السورية" إلى الموارد المالية والخبرات.
ولا يعني هذا أنه المناطق الخاضعة لحكمها خالية من الفساد. لقد فرضت "الهيئة" حكمها من خلال الإجراءات الاستبدادية والقمعية. وقمعت "هيئة تحرير الشام" -أو حدت بشكل ملحوظ من- الأنشطة التي تعتبرها مخالفة لأيديولوجيتها. على سبيل المثال، أوقفت "هيئة تحرير الشام" العديد من المشاريع الداعمة للنساء، وخاصة بين سكان المخيمات، تحت ذريعة أن هذه المشاريع تزرع أفكارًا عن المساواة بين الجنسين معادية لنهج حكمها. واستهدفت "الهيئة" واحتجزت المعارضين السياسيين، والصحفيين، والمناضلين والأشخاص الذين اعتبرتهم منتقدين أو معارضين.
كما تحاول "هيئة تحرير الشام" -التي ما تزال تُعد منظمة إرهابية لدى العديد من القوى، بمن فيها الولايات المتحدة- إظهار صورة أكثر اعتدالاً عن نفسها، في محاولة لكسب الاعتراف بأنها أصبحت الآن جهة فاعلة عقلانية ومسؤولة. وتعود بدايات هذا التطور وراءً إلى قطع "الهيئة" علاقاتها مع تنظيم القاعدة في العام 2016 وإعادة صياغة أهدافها السياسية في الإطار الوطني السوري. كما عمدت أيضًا إلى قمع الأفراد والجماعات المرتبطين بتنظيمي القاعدة وما يسمى بـ"الدولة الإسلامية" (داعش).
في شباط (فبراير) 2021، في أول مقابلة له مع صحفي أميركي، أعلن زعيم "الهيئة"، أبو محمد الجولاني، أو أحمد الشرع (اسمه الحقيقي)، أن المنطقة التي يسيطر عليها "لا تمثل تهديدًا لأمن أوروبا وأميركا"، مؤكدًا أن المناطق الخاضعة لحكمه لن تصبح قاعدة للعمليات في الخارج.
وفي هذه المحاولة لتعريف نفسه كمحاور شرعي على الساحة الدولية، شدد على دور مجموعته في مكافحة الإرهاب. وكجزء من التحول المفترض، سمحت "هيئة تحرير الشام" بعودة المسيحيين والدروز في بعض المناطق، وأجرت اتصالات مع بعض قادة هذه المجموعات السكانية.
بعد الاستيلاء على حلب، واصلت "هيئة تحرير الشام" تقديم نفسها كجهة فاعلة مسؤولة. على سبيل المثال، نشر مقاتلوها على الفور مقاطع فيديو لهم وهم يقفون أمام المصارف، للتأكيد على أنهم يريدون حماية الممتلكات والأصول الخاصة. كما وعدوا بحماية المدنيين والأقليات الدينية، وخاصة المسيحيين، لأنهم يعرفون أن وضع هذه الطائفة يخضع للمتابعة الدقيقة من الخارج.
وبالمثل، أصدرت "هيئة تحرير الشام" العديد من التصريحات التي وعدت بتقديم حماية مماثلة للأكراد والأقليات الإسلامية الأخرى، مثل الإسماعيليين والدروز. كما أصدرت بيانًا بشأن العلويين دعتهم فيه إلى النأي بأنفسهم عن النظام، من دون الإيحاء بأن "هيئة تحرير الشام" ستحميهم أو الإدلاء بأي شيء واضح عن مستقبلهم. وفي بيانها المعنيّ وصفت "هيئة تحرير الشام" الطائفة العلوية بأنها أداة للنظام ضد الشعب السوري.
وأخيرًا، صرح زعيم "هيئة تحرير الشام"، أبو محمد الجولاني، بأن مدينة حلب ستديرها سلطة محلية، وأن جميع القوات العسكرية، بما فيها قوات "هيئة تحرير الشام"، ستنسحب بالكامل من المدينة في الأسابيع المقبلة. ويظهر من كل هذا أن الجولاني يريد الانخراط بنشاط مع القوى المحلية والإقليمية والدولية.
مع ذلك، ما يزال السؤال مفتوحًا حول ما إذا كانت "هيئة تحرير الشام" ستلتزم بمتابعة ما تقوله في هذه التصريحات. أبانت المنظمة طابعا كمنظمة استبدادية ورجعية ذات أيديولوجية أصولية إسلامية، وما يزال لديها مقاتلون أجانب في صفوفها. وقد شهدت إدلب العديد من المظاهرات الشعبية في السنوات القليلة الماضية ضد حكمها وانتهاكاته للحريات السياسية وحقوق الإنسان، بما في ذلك اغتيال وتعذيب المعارضين.
بالتأكيد لا يكفي مجرد التسامح مع الأقليات الدينية أو العرقية أو السماح لها بالصلاة. القضية الرئيسية هي الاعتراف بحقوق أفرادها كمواطنين متساوين يشاركون في تقرير مستقبل البلاد. وبشكل عام، فإن تصريحات رئيس "هيئة تحرير الشام"، الجولاني، من نوع "الأشخاص الذين يخشون الحكم الإسلامي إما أنهم رأوا تطبيقات غير صحيحة له أو أنهم لم يفهموه بشكل صحيح"، ليست مطمئنة بالتأكيد، بل العكس تمامًا.
أما "الجيش الوطني السوري" المدعوم من تركيا، فتحالف مكوّن من جماعات مسلحة تتبنى في الغالب سياسات إسلامية محافظة. وهو يتميز بسمعة سيئة للغاية ومذنب بارتكاب العديد من انتهاكات حقوق الإنسان، خاصة ضد السكان الأكراد في المناطق الخاضعة لسيطرته. وقد شاركت جماعاته بشكل خاص في الحملة العسكرية التي قادتها تركيا لاحتلال عفرين في العام 2018، والتي أدت إلى التهجير القسري لحوالي 150.000 مدني، غالبيتهم العظمى من الأكراد.
في الحملة العسكرية الحالية، يخدم "الجيش الوطني السوري" مرة أخرى أهدافًا تركية بشكل أساسي من خلال استهداف المناطق التي تسيطر عليها "قوات سورية الديمقراطية" التي يقودها الأكراد، والتي تضم عددًا كبيرًا من السكان الأكراد. وعلى سبيل المثال، استولى "الجيش الوطني السوري" على مدينة تل رفعت ومنطقة الشهباء في شمال حلب، التي كانت في السابق تحت سيطرة "قوات سورية الديمقراطية"، مما أدى إلى التهجير القسري لأكثر من 150.000 مدني وارتكاب العديد من انتهاكات حقوق الإنسان ضد الأكراد، بما فيها عمليات الاغتيال والخطف. ثم أعلن "الجيش الوطني السوري" عن شن هجوم عسكري، بدعم من الجيش التركي، على مدينة منبج التي يقطنها نحو 100.000 مدني وتسيطر عليها "قوات سورية الديمقراطية".
وإذن، هناك اختلافات بين "هيئة تحرير الشام" و"الجيش الوطني السوري". تتمتع "هيئة تحرير الشام" باستقلالية نسبية عن تركيا، على النقيض من "الجيش الوطني السوري" الذي تسيطر عليه تركيا ويخدم مصالحها. ومن المؤكد أن القوتين مختلفتان، تسعيان إلى تحقيق أهداف مختلفة، وهناك صراعات بينهما، حتى مع إبقاء خلافاتهما طي الكتمان في الوقت الحالي. على سبيل المثال، لا تسعى "هيئة تحرير الشام" حاليًا إلى مواجهة "قوات سورية الديمقراطية". وبالإضافة إلى ذلك، نشر "الجيش الوطني السوري" بيانًا انتقاديًا ضد "هيئة تحرير الشام" بسبب "سلوكها العدواني" ضد أعضاء "الجيش الوطني السوري"، في حين ورد أن "هيئة تحرير الشام" اتهمت مقاتلي "الجيش الوطني السوري" باتركاب عمليات نهب.
ذا تيمبست: بالنسبة للكثيرين الذين لم يكونوا يولون اهتمامًا لسورية، جاء هذا الحدَث فجأة وكأنه خرج من العدم. ما هي جذور هذا الوضع في الثورة السورية، والثورة المضادة والحرب الأهلية؟ ما الذي حدث في البلد خلال الفترة الأخيرة وأدى إلى إطلاق الهجوم العسكري؟ ما هي الديناميات الإقليمية والدولية التي مهدت الأرض لتقدم المتمردين؟
ضاهر: في البداية، أطلقت "هيئة تحرير الشام" الحملة العسكرية كرد فعل على تصاعد الهجمات وحملات القصف التي شنها نظام الأسد وروسيا على مناطقها في الشمال الغربي. كما كان يهدف إلى استعادة المناطق التي احتلها النظام في انتهاك لمناطق خفض التصعيد التي تم تحديدها في اتفاق آذار (مارس) 2020 الذي تفاوضت عليه موسكو وطهران. ومع ذلك، مع نجاحها المفاجئ، وسعت "الهيئة" طموحاتها ودعت علنًا إلى الإطاحة بالنظام، وهو ما أنجزته هي وآخرون الآن.
حققت "هيئة تحرير الشام" و"الجيش الوطني السوري" النجاح الكبير بهذا القدر بسبب الإضعاف الذي تعرض له الحلفاء الرئيسيون للنظام. فقد حولت روسيا؛ الراعي الدولي الرئيسي للأسد، قواتها ومواردها إلى حربها الإمبريالية على أوكرانيا. ونتيجة لذلك، كان مشاركتها في سورية محدودة بشكل ملحوظ مقارنة بالعمليات العسكرية المماثلة في السنوات السابقة.
كما أضعفت إسرائيل حليفي النظام الرئيسيين الآخرين، "حزب الله" اللبناني وإيران، بشكل كبير منذ أحداث 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023. فقد نفذت تل أبيب عمليات اغتيال لقيادة "حزب الله"، بمن فيها حسن نصر الله، وأهلكت كوادره بهجمات أجهزة الاستدعاء (البيجرات)، وقصفت قواته في لبنان. ومن المؤكد أن "حزب الله" يواجه الآن أكبر تحدٍّ منذ تأسيسه. كما وجهت إسرائيل سلسلة من الضربات ضد إيران، وكشفت نقاط ضعفها، وصعّدت من وتيرة قصفها للمواقع الإيرانية ومواقع "حزب الله" في سورية في الأشهر القليلة الماضية.
مع انشغال داعميها الرئيسيين في شؤونهم الخاصة وإضعافهم، كانت ديكتاتورية الأسد في وضع ضعيف. وبسبب كل نقاط ضعفها الهيكلية، ونقص الدعم من السكان الذين تحكمهم، وعدم موثوقية قواتها، ومن دون دعم دولي وإقليمي، تبيّن أنها غير قادرة على الصمود أمام تقدم قوات المتمردين، وانهارت بسرعة سيطرتها في المدينة تلو الأخرى كما يتداعى بيت من ورق.
ذا تيمبست: كيف كان رد حلفاء النظام في البداية؟ وما هي مصالحهم في سورية؟
ضاهر: تعهدت كل من روسيا وإيران في البداية بدعم النظام وضغطتا عليه أيضًا لمحاربة "هيئة تحرير الشام" و"الجيش الوطني السوري". وفي الأيام الأولى من الهجوم، دعت روسيا النظام السوري إلى لم شتات نفسه والتماسك و"فرض النظام في حلب"، وهو ما يشير على ما يبدو إلى أنها كانت تأمل أن تقوم قوات دمشق بشن هجوم مضاد.
ومن جهتها، دعت إيران إلى "التنسيق" مع موسكو في مواجهة هذا الهجوم. وزعمت أن الولايات المتحدة وإسرائيل تقفان وراء هجوم المتمردين على النظام السوري في محاولة لزعزعة استقراره وتحويل الانتباه عن الحرب الإسرائيلية في فلسطين ولبنان. وأعلن المسؤولون الإيرانيون دعمهم الكامل للنظام السوري، وأكدوا نيتهم الإبقاء على وجود "مستشاريهم العسكريين" في سورية، بل وحتى زيادتهم لدعم جيشه. كما وعدت طهران بتزويد النظام السوري بالصواريخ والطائرات المسيرة -وحتى بنشر قواتها نفسها.
لكن من الواضح أن هذا لم ينجح. وعلى الرغم من القصف الروسي للمناطق الخارجة عن سيطرة النظام، فإن هذا الجهد لم يردع تقدم المتمردين.
لدى كلتا القوتين الكثير لتخسراه في سورية. بالنسبة لإيران، كانت سورية ضرورية لنقل الأسلحة إلى "حزب الله" والتنسيق اللوجستي معه. وفي الواقع، ترددت إشاعات قببل سقوط النظام عن أن الحزب اللبناني أرسل عددًا صغيرًا من "القوات الرقابية" إلى حمص لمساعدة قوات النظام العسكرية و2.000 جندي إلى مدينة القصير، أحد معاقله في سورية بالقرب من الحدود مع لبنان، للدفاع عنها في حال تعرضت لهجوم من المتمردين. وبعدما اتضح باطراد أن النظام يسقط، قام الحزب بسحب قواته.
من جانبها، شكلت قاعدة حميميم الجوية الروسية في محافظة اللاذقية السورية، والمنشأة الروسية البحرية في طرطوس على الساحل، مواقع مهمة لروسيا تتيح لها تأكيد نفوذها الجيوسياسي في الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط وأفريقيا. وسيكون من شأن فقدان هذه القواعد أن يقوض مكانة روسيا ومنجزها، حيث استخدمت تدخلها في سورية كمثال على كيفية استخدام القوة العسكرية لتشكيل الأحداث والتنافس مع الدول الغربية خارج حدودها.
ذا تيمبست: ما هو الدور الذي لعبته القوى الإقليمية والإمبريالية الأخرى، وخاصة تركيا وإسرائيل والولايات المتحدة في هذا السيناريو؟ ما هي طموحاتهم في هذا الوضع؟
ضاهر: على الرغم من تطبيع تركيا مع سورية، شعرت أنقرة بالإحباط من دمشق. لذلك، شجعت، أو على الأقل أعطت الضوء الأخضر، للهجوم العسكري وساعدته بطريقة أو بأخرى. كان هدف أنقرة في البداية هو تحسين موقفها في المفاوضات المستقبلية مع النظام السوري، ولكن أيضا مع إيران وروسيا.
الآن مع سقوط النظام، أصبح نفوذ تركيا أكثر أهمية في سورية -وربما يجعلها اللاعب الإقليمي الرئيسي في البلد. وتسعى أنقرة أيضًا إلى استخدام "الجيش الوطني السوري" لإضعاف "قوات سورية الديمقراطية"، التي يهيمن عليها الجناح المسلح لـ"حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي"، وهو منظمة شقيقة لـ"حزب العمال الكردستاني التركي"، الذي صنفته أنقرة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على أنه إرهابي.
كما أن لتركيا هدفين رئيسيين آخرين. أولاً، تهدف إلى تنفيذ الإعادة القسرية للاجئين السوريين في تركيا إلى سورية. ثانيًا، يريد الأتراك إحباط التطلعات الكردية إلى الحكم الذاتي، وبشكل أكثر تحديدًا تقويض الإدارة التي يقودها الأكراد في شمال شرق سورية، "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية"، (وتسمى أيضًا روجآفا)، التي ستشكل سابقة لتقرير المصير الكردي في تركيا، وهو ما يشكل تهديدًا للنظام كما هو حاليًا.
لم تكن للولايات المتحدة ولا إسرائيل يد في هذه الأحداث. في الواقع، العكس هو واقع الحال. كانت الولايات المتحدة قلقة من أن الإطاحة بالنظام يمكن أن تخلق المزيد من عدم الاستقرار في المنطقة. وأعلن المسؤولون الأميركيون في البداية أن "رفض نظام الأسد المستمر الانخراط في العملية السياسية الموضحة في قرار مجلس الأمن رقم 2254، واعتماده على روسيا وإيران، خلق الظروف التي تتكشف الآن، بما في ذلك انهيار خطوط دفاع نظام الأسد في شمال غرب سورية".
كما أعلنت أنه "لا علاقة لنا بهذا الهجوم الذي تقوده "هيئة تحرير الشام"، وهي منظمة مصنفة بأنها إرهابية". وبعد زيارة إلى تركيا، دعا وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، إلى خفض التصعيد في سورية. وبعد سقوط النظام، أعلن المسؤولون الأميركيون أنهم سيحافظون على وجودهم في شرق سورية، حوالي 900 جندي، وسيتخذون الإجراءات اللازمة لمنع عودة ظهور تنظيم "داعش".
ومن جهتهم، أعلن المسؤولون الإسرائيليون أن "انهيار نظام الأسد يغلب أن يخلق فوضى تتطور فيها التهديدات العسكرية ضد إسرائيل". وبالإضافة إلى ذلك، لم تدعم إسرائيل أبدًا الإطاحة بالنظام السوري منذ محاولة الثورة في العام 2011. وفي تموز (يوليو) 2018، لم يعترض نتنياهو على استعادة الأسد السيطرة على البلاد واستقرار سلطته.
وقال نتنياهو إن إسرائيل لن تعمل إلا ضد التهديدات المتصورة، مثل نفوذ إيران وقوات حزب الله ، موضحًا: "لم تكن لدينا مشكلة مع نظام الأسد، منذ 40 عامًا لم يتم إطلاق رصاصة واحدة على مرتفعات الجولان". وبعد ساعات قليلة من إعلان سقوط النظام، سيطر جيش الاحتلال الإسرائيلي على الجانب السوري من جبل حرمون في هضبة الجولان لمنع المتمردين من السيطرة على المنطقة يوم الأحد. وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قد أمر جيش الاحتلال الإسرائيلي في وقت سابق بـ"السيطرة" على منطقة الجولان العازلة و"المواقع الاستراتيجية المجاورة".
ذا تيمبست: دافع الكثيرون من الاصطفافيين (1) عن الأسد مرة أخرى، هذه المرة زاعمين أن هزيمة الأسد ستكون انتكاسة للنضال التحرري الفلسطيني. ما رأيك في هذه الحجة؟ ماذا يعني ما حدث بالنسبة لفلسطين؟
ضاهر: نعم، أكد الاصطفافيون بأن هذا الهجوم العسكري تقوده "القاعدة وإرهابيون آخرون"، وأنه مؤامرة إمبريالية غربية ضد النظام السوري تهدف إلى إضعاف ما يسمى بـ"محور المقاومة" الذي تقوده إيران وحزب الله. وبما أن هذا المحور يدّعي أنه يدعم الفلسطينيين، فإن يقول الاصطفافيون إن سقوط الأسد سيضعفه، وبالتالي يقوض النضال من أجل تحرير فلسطين.
إلى جانب تجاهل أي مقدرة فعل لدى الفاعلين السوريين المحليين، فإن المشكلة الرئيسية في الحجة التي يروج لها أنصار ما يسمى بـ"محور المقاومة" هي افتراضهم أن تحرير فلسطين سيأتي من الأعلى، من هذه الدول أو قوى أخرى، بغض النظر عن طبيعتها الرجعية والاستبدادية، وسياساتها الاقتصادية النيوليبرالية. لقد فشلت تلك الاستراتيجية في الماضي وستستمر في الفشل اليوم. في الواقع، بدلاً من دفع النضال من أجل تحرير فلسطين، قامت الدول السلطوية والاستبدادية في الشرق الأوسط، سواء كانت متحالفة مع الغرب أو معارضته، بخيانة الفلسطينيين مرارًا وتكرارًا -بل وقمعتهم.
علاوة على ذلك، يتجاهل الاصطفافيون حقيقة أن الأهداف الرئيسية لإيران وسورية لم تكن تحرير فلسطين بل الحفاظ على دولتيهما ومصالحهما الاقتصادية والجيوسياسية. وسوف يضعون هذه المصالح قبل فلسطين في كل مرة. سورية، على وجه الخصوص، كما قال نتنياهو بوضوح في الاقتباس الذي ذكرته للتو، لم ترفع إصبعًا ضد إسرائيل منذ عقود.
من جانبها، دعمت إيران القضية الفلسطينية وموّلت "حماس". ولكن منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، كان هدفها الرئيسي هو تحسين مكانتها في المنطقة لتكون في أفضل وضع ممكن لخوض المفاوضات السياسية والاقتصادية المستقبلية مع الولايات المتحدة. ترغب إيران في ضمان مصالحها السياسية والأمنية، وبالتالي حرصت على تجنب أي حرب مباشرة مع إسرائيل.
لم يكن هدفها الجيوسياسي الرئيسي في ما يتعلق بالفلسطينيين تحريرهم، بل استخدامهم كوسيلة ضغط، لا سيما في علاقاتها مع الولايات المتحدة. وبالمثل، يدل رد إيران السلبي على اغتيال إسرائيل لنصر الله وإهلاك كوادر حزب الله وحربها الوحشية ضد لبنان، على أن أولويتها الأولى هي حماية نفسها ومصالحها. لم تكن مستعدة للتضحية بهذه الأشياء للدفاع عن حليفها الرئيسي غير الدولتي.
كما أثبتت إيران أنها، في أحسن الأحوال، حليف متقلب لـ"حماس". كانت قد خفضت تمويلها للحركة عندما لم تتطابق مصالحهما. تلك كانت الحالة بعد الثورة السورية في العام 2011، عندما رفضت الحركة الفلسطينية دعم القمع القاتل الذي يمارسه النظام السوري للمتظاهرين السوريين.
في حالة النظام السوري، فإن غياب دعمه المفترض لفلسطين غير قابل للانكار. إنه لم يهب للدفاع عن فلسطين خلال العام الأخير من حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية. وعلى الرغم من القصف الإسرائيلي لسورية، قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر) وبعد، لم يرد النظام. وهذا يتماشى مع سياسة النظام منذ العام 1974 المتمثلة في محاولة تجنب أي مواجهة كبيرة ومباشرة مع إسرائيل.
بالإضافة إلى ذلك، قام النظام بقمع الفلسطينيين مرارًا وتكرارًا في سورية، بما في ذلك قتل آلاف عدة منهم منذ العام 2011، والتصرف بالطريقة التي أدت إلى تدمير "مخيم اليرموك" للاجئين في دمشق. كما هاجم الحركة الوطنية الفلسطينية نفسها. على سبيل المثال، في العام 1976، تدخل حافظ الأسد، والد وريثه الدكتاتور المخلوع للتو، في لبنان ودعم الأحزاب اللبنانية اليمينية المتطرفة ضد المنظمات الفلسطينية واللبنانية اليسارية.
كما نفذ عمليات عسكرية ضد مخيمات فلسطينية في بيروت في العامين 1985 و1986. وفي العام 1990، كان يحتجز حوالي 2.500 سجين سياسي فلسطيني في السجون السورية.
بالنظر إلى هذا التاريخ، من الخطأ أن تدافع حركة التضامن مع فلسطين وتتحالف مع الدول الإمبريالية أو الإمبريالية الفرعية التي تضع مصالحها قبل التضامن مع فلسطين، وتتنافس على تحقيق مكاسب جيوسياسية، وتستغل عمَّال بلدانها ومواردها. بطبيعة الحال، تظل الإمبريالية الأميركية هي العدو الرئيسي للمنطقة بتاريخها الاستثنائي من الحرب والنهب والهيمنة السياسية.
ولكن، ليس من المنطقي اعتبار القوى الإقليمية الرجعية، والدول الإمبريالية الأخرى مثل روسيا أو الصين، حلفاء لفلسطين أو لحركة التضامن معها. ببساطة لا يوجد دليل لإثبات هذا الموقف. إن اختيار إمبريالية على أخرى يعني ضمان استقرار النظام الرأسمالي واستغلال الطبقات الشعبية. وبالمثل، فإن دعم الأنظمة الاستبدادية والقمعية في إطار السعي لتحقيق هدف تحرير فلسطين ليس خطأ أخلاقيا فحسب، بل أثبت أيضًا أنه استراتيجية فاشلة.
بعكس ذلك، يجب على حركة التضامن الفلسطينية أن ترى أن تحرير فلسطين لا يرتبط بدول المنطقة، بل بتحرير طبقاتها الشعبية. إن هذه الطبقات تتعاطف حقًا مع فلسطين وترى أن معاركها من أجل الديمقراطية والمساواة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بنضال الفلسطينيين من أجل التحرر. عندما يقاتل الفلسطينيون، يميل ذلك إلى إطلاق الحركة الإقليمية من أجل التحرير، والحركة الإقليمية تشكل تغذية راجعة للحركة في فلسطين المحتلة.
هذه النضالات مرتبطة جدليًا. إنها نضالات متبادلة من أجل التحرر الجماعي. وقد أدرك الوزير الإسرائيلي اليميني المتطرف، أفيغدور ليبرمان، الخطر الذي تشكله الانتفاضات الشعبية الإقليمية على إسرائيل في العام 2011 عندما قال إن الثورة المصرية التي أطاحت بحسني مبارك وفتحت الباب أمام فترة من الانفتاح الديمقراطي في البلاد كانت تهديدا أكبر لإسرائيل من إيران.
ليس هذا لإنكار حق الفلسطينيين واللبنانيين في مقاومة حروب إسرائيل الوحشية، وإنما لفهم أن الثورة الموحدة للطبقات الشعبية الفلسطينية والإقليمية وحدها لديها القدرة على تحويل الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بأكملها، وإسقاط الأنظمة الاستبدادية، وطرد الولايات المتحدة والقوى الإمبريالية الأخرى. إن التضامن الدولي المناهض للإمبريالية مع فلسطين والطبقات الشعبية في المنطقة هو شأن ضروري، لأنهم لا يواجهون إسرائيل والأنظمة الرجعية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا فحسب، بل يواجهون أيضًا داعميها الإمبرياليين.
تتمثل المهمة الرئيسية لحركة التضامن مع فلسطين، وخاصة في الغرب، في إدانة الدور المتواطئ لطبقاتنا الحاكمة في دعم -ليس دولة الفصل العنصري الاستعمارية الاستيطانية الإسرائيلية وحرب الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين فحسب، ولكن أيضًا هجمات إسرائيل على دول أخرى في المنطقة مثل لبنان. يجب على الحركة الضغط على تلك الطبقات الحاكمة لقطع أي علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية لها مع تل أبيب.
بهذه الطريقة، يمكن لحركة التضامن أن تتحدى وتضعف الدعم الدولي والإقليمي لإسرائيل، وتفتح المجال للفلسطينيين لتحرير أنفسهم إلى جانب الطبقات الشعبية في المنطقة.
ذا تيمبست: هل سيتيح تقدم المتمردين في سورية مجالًا للقوى التقدمية لتجديد النضال الثوري وتوفير بديل لكل من النظام والأصولية الإسلامية؟
ضاهر: لا توجد إجابات واضحة، سوى المزيد من الأسئلة. هل سيكون النضال من الأسفل والتنظيم الذاتي ممكنين في المناطق التي تم فيها طرد النظام؟ هل ستتمكن منظمات المجتمع المدني (ليست بالمعنى الضيق لمنظمات غير حكومية، وإنما بالمعنى الغرامشي للتشكيلات الجماهيرية الشعبية خارج الدولة) والهياكل السياسية البديلة ذات السياسة الديمقراطية والتقدمية من ترسيخ نفسها وتنظيمها وتشكيل بديل سياسي واجتماعي لـ"هيئة تحرير الشام" و"الجيش الوطني السوري"؟ هل سيسمح تمدد قوات "هيئة تحرير الشام" و"الجيش الوطني السوري" بمساحة للتنظيم محليًا؟
هذه هي الأسئلة الرئيسية، في رأيي، والتي ما تزال بلا إجابات واضحة. وبالنظر إلى سياسات "هيئة تحرير الشام" و"الجيش الوطني السوري" في الماضي، فإنها لم تشجع على وجود مساحة ديمقراطية للتطور، بل على العكس تمامًا. كانوا استبداديين. ولا ينبغي منح أي ثقة لمثل هذه القوى. التنظيم الذاتي للطبقات الشعبية التي تناضل من أجل المطالب الديمقراطية والتقدمية وحده هو الذي سيخلق هذا الفضاء ويفتح طريقًا نحو التحرر الفعلي. سيعتمد ذلك على التغلب على العديد من العقبات، من إرهاق الحرب، إلى القمع والفقر والتفكك الاجتماعي.
كانت العقبة الرئيسية هي الجهات الفاعلة الاستبدادية، التي كانت النظام سابقًا، لكنّ هناك الآن العديد من قوى المعارضة، وخاصة "هيئة تحرير الشام" و"الجيش الوطني السوري". وقد خنق حكمهم والاشتباكات العسكرية بينهم مساحة للقوى الديمقراطية والتقدمية لتحديد مستقبلها ديمقراطيًا. حتى في المساحات المحررة من سيطرة النظام لم نشهد بعد حملات شعبية للمقاومة الديمقراطية والتقدمية. وحيث احتل "الجيش الوطني السوري" مناطق كردية، انتهك حقوق الأكراد، وقمعهم بالعنف، وشرد أعدادًا كبيرة منهم بالقوة.
علينا أن نواجه الحقيقة الصعبة المتمثلة في وجود غياب صارخ لكتلة ديمقراطية تقدمية مستقلة قادرة على تنظيم ومعارضة النظام السوري والقوى الأصولية الإسلامية بشكل واضح. وسوف يستغرق بناء هذه الكتلة وقتًا. سيتعين عليها الجمع بين النضال ضد الاستبداد والاستغلال وجميع أشكال الاضطهاد. وسوف تحتاج إلى رفع مطالب الديمقراطية والمساواة وتقرير المصير الكردي وتحرير المرأة من أجل بناء التضامن بين المستغَلين والمضطهَدين في البلاد.
لتعزيز مثل هذه المطالب، سيتعين على هذه الكتلة التقدمية بناء وإعادة بناء المنظمات الشعبية، من النقابات إلى المنظمات النسوية، والمنظمات المجتمعية والهياكل الوطنية لجمعها معًا. وسيتطلب ذلك التعاون بين الجهات الفاعلة الديمقراطية والتقدمية في كل أنحاء المجتمع.
مع ذلك، هناك أمل. في حين أن الديناميات الرئيسية كانت عسكرية في البداية، بقيادة "هيئة تحرير الشام" و"الجيش الوطني السوري"، شهدنا في الأيام القليلة الماضية مظاهرات شعبية متزايدة وخروج الناس إلى الشوارع في جميع أنحاء البلاد. إنهم لا يتبعون أي أوامر من "هيئة تحرير الشام" أو "الجيش الوطني السوري" أو أي جماعات معارضة مسلحة أخرى. هناك الآن مساحة للسوريين، بتناقضاتها وتحدياتها كما ذكرنا أعلاه، لمحاولة إعادة بناء المقاومة الشعبية المدنية وهياكل سلطة بديلة من الأسفل.
بالإضافة إلى ذلك، ستكون إحدى المهام الرئيسية هي معالجة الانقسام العرقي المركزي في البلاد؛ وهو الانقسام بين العرب والأكراد. يجب على القوى التقدمية أن تخوض نضالاً واضحًا ضد الشوفينية العربية للتغلب على هذا الانقسام وتأسيس التضامن بين فئات الشعب. كان هذا تحديًا منذ بداية الثورة السورية في العام 2011 ويجب مواجهته وحله بطريقة تدريجية من أجل تحرير شعب البلد حقًا.
ثمة حاجة ماسة للعودة إلى التطلعات الأصلية للثورة السورية للديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة – مع احترام حق تقرير المصير الكردي. وفي حين يمكن انتقاد "حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي" بسبب أخطائه وشكل حكمه، فإنه ليس العقبة الرئيسية أمام هذا التضامن بين الأكراد والعرب. كانت العقبة هي المواقف والسياسات العدوانية والشوفينية لقوى المعارضة العربية في سورية -بدءًا من "الائتلاف الوطني السوري" الذي يهيمن عليه العرب، يليه "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية"، وهي هيئات المعارضة الرئيسية في المنفى المدعومة من الغرب ودول المنطقة، والتي حاولت قيادة الثورة السورية في سنواتها الأولى -واليوم، لدينا القوتان العسكريتان الرئيسيتان؛ "هيئة تحرير الشام" والجيش الوطني الاشتراكي.
في هذا السياق، يجب على القوى التقدمية أن تسعى إلى التعاون بين العرب السوريين والأكراد، بما في ذلك "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية". ويمثل مشروع "الإدارة الذاتية" ومؤسساته السياسية قطاعات كبيرة من السكان الأكراد، وقد حموه من مختلف التهديدات المحلية والخارجية.
ومع ذلك، ينطوي المشروع أيضًا على أخطاء، ويجب عدم دعمه بلا نقد. لقد استخدم "حزب الاتحاد الديمقراطي" و"الإدارة الذاتية" القوة والقمع ضد النشطاء السياسيين والجماعات التي تتحدى سلطتهما. كما انتهكا حقوق الإنسان للمدنيين. ومع ذلك، حقق المشروع بعض الإنجازات المهمة، ولا سيما زيادة مشاركة المرأة في جميع مستويات المجتمع، فضلاً عن تدوين القوانين العلمانية وإدماج الأقليات الدينية والإثنية. ومع ذلك، في القضايا الاجتماعية والاقتصادية، لم ينفصل هذا المشروع عن الرأسمالية، ولم يعالج بشكل كاف مظالم الطبقات الشعبية.
مهما كانت الانتقادات التي قد يوجهها التقدميون إلى مشروع "حزب الاتحاد الديمقراطي" و"الإدارة الذاتية"، يجب أن نرفض ونعارض الوصف العربي الشوفيني له بأنه "شيطان"، وبأنه مشروع عرقي قومي "انفصالي". ولكن في مواجهة مثل هذا التعصب الأعمى، يجب ألا نضفي طابعًا رومانسيًا على "الإدارة الذاتية" من دون نقد، كما فعل بعض الأناركيين واليساريين الغربيين، وتقديمها بشكل محرَّف على أنها شكل جديد من أشكال السلطة الديمقراطية من الأسفل.
كان هناك بالفعل بعض التعاون بين الديمقراطيين العرب السوريين والتقدميين و"الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية" والمؤسسات المرتبطة بها، ويجب البناء على ذلك وتوسيعه. ولكن، كما هو الحال في أي نوع من التعاون، لا ينبغي أن يتم ذلك من دون نقد.
في حين أنه من المهم تذكير الجميع بأن نظام بشار الأسد وحلفاءه هم أول المسؤولين عن القتل الجماعي لمئات الآلاف من المدنيين والدمار الشامل وتعميق الفقر والوضع الحالي في سورية، إلا أن هدف الثورة السورية يتجاوز ما قاله زعيم "هيئة تحرير الشام"، الجولاني، في مقابلته مع شبكة (سي. إن. إن). إنه ليس فقط إسقاط هذا النظام، بل بناء مجتمع يتسم بالديمقراطية والمساواة والحقوق الكاملة للفئات المضطهدة. وبخلاف ذلك، نحن نستبدل شرًا بآخر.
ذا تيمبست: ما هو تأثير سقوط النظام على المنطقة والقوى الإمبريالية؟ ما هو الموقف الذي يجب أن يتخذه اليسار الدولي في هذا الوضع؟
ضاهر: بعد سقوط النظام، صرح القيادي في "هيئة تحرير الشام"، أبو محمد الجولاني، بأن مؤسسات الدولة السورية سيشرف عليها رئيس الوزراء السابق محمد جلالي إلى أن يتم تسليمها إلى حكومة جديدة ذات صلاحيات تنفيذية كاملة، بعد الانتخابات، في إشارة إلى الجهود المبذولة لضمان انتقال منظم. وقد وافق وزير الاتصالات السوري، إياد الخطيب، على التعاون مع ممثلي "هيئة تحرير الشام" لضمان استمرار عمل الاتصالات والإنترنت.
هذه مؤشرات واضحة على أن "هيئة تحرير الشام" تريد تنفيذ انتقال مسيطر عليه للسلطة من أجل تهدئة المخاوف الأجنبية، وإقامة اتصالات مع القوى الإقليمية والدولية، والحصول على الاعتراف بها كقوة شرعية يمكن التفاوض معها. وتتمثل إحدى العقبات أمام هذا التطبيع في حقيقة أن "هيئة تحرير الشام" ما تزال تعد منظمة إرهابية، في حين أن سورية ما تزال خاضعة للعقوبات.
مع ذلك، من المتوقع أن تكون هناك فترة من عدم الاستقرار في البلد. في دمشق، في اليوم التالي لسقوط النظام، شوهدت بعض الفوضى في الشوارع، وتعرض البنك المركزي، على سبيل المثال، للنهب.
ما يزال من الصعب معرفة تأثير سقوط النظام على القوى الإقليمية والإمبريالية. بالنسبة للولايات المتحدة والولايات الغربية، فإن الهدف الرئيسي الآن هو السيطرة على الأضرار لمنع الفوضى التي قد تمتد إلى بقية المنطقة. من الواضح أن دول المنطقة غير راضية عن الوضع الحالي، لأنها كانت قد دخلت في عملية تطبيع مع النظام في السنوات القليلة الماضية. وفي ما يتعلق بتركيا، سيكون هدفها الرئيسي هو تعزيز قوتها ونفوذها في سورية والتخلص من "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية" التي يقودها الأكراد في الشمال الشرقي. وقال كبير الدبلوماسيين الأتراك يوم الأحد إن الدولة التركية على اتصال مع الثوار في سورية لضمان عدم استفادة تنظيم "داعش"، وبشكل محدد "حزب العمال الكردستاني" من سقوط نظام دمشق لتوسيع نفوذهما.
مع ذلك، فإن القوى المختلفة لديها هدف مشترك: فرض شكل من أشكال الاستقرار الاستبدادي في سورية والمنطقة. ولا يعني هذا، بالطبع، الوحدة بين القوى الإقليمية والإمبريالية. إن لكل منها مصالحه الخاصة، والتي غالبًا ما تكون متعارضة، لكنهم لا يريدون زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وخاصة أي نوع من عدم الاستقرار يكون من شأنه أن يعطل تدفق النفط إلى الرأسمالية العالمية.
يجب على اليسار الأممي ألا يقف إلى جانب بقايا النظام أو القوى المحلية والإقليمية والدولية للثورة المضادة. بدلاً من ذلك، يجب أن تكون البوصلة السياسية للثوريين هي مبدأ التضامن مع النضالات الشعبية والتقدمية من الأسفل. وهذا يعني دعم الجماعات والأفراد الذين تنظموا وناضلوا من أجل سورية تقدمية ودامجة، وبناء التضامن بينهم وبين الطبقات الشعبية في المنطقة.
في خضم لحظة متقلبة تشهدها سورية والشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يجب أن نتجنب الفخ المزدوج من الرومانسية والانهزامية. بدلاً من ذلك، يجب أن نتبع استراتيجية التضامن الدولي النقدي والتقدمي بين القوى الشعبية في المنطقة وفي جميع أنحاء العالم. هذه هي مهمة اليسار ومسؤوليته الحاسمة، خاصة في هذه الأوقات المفرطة في التعقيد.
[*] جرى إبدال كلمة الثورة و الثوار، الذين استعملهما المترجم، بالتمرد والمتمردين، بالنظر إلى أن ما حدث ليس ثورة .