عالمٌ على حافة الانهيار: كيف وقعنا في براثن اليمين المتطرّف؟

Hani Adada بقلم

شبح اليمين المتطرّف يتعدى نطاق أوروبا والأميركيتين، ويمتد أيضاً إلى أماكن مثل الهند، واللائحة تطول في جميع أنحاء الكوكب، وصولاً إلى لبنان الصغير الذي يشهد ظهور مجموعات فاشية صغيرة في بعض المناطق برداءٍ ديني، وكأن تحكم قادة الحرب الأهلية بالسلطة لأكثر من ثلاثين عاماً، وتسبّبهم بأكبر خرابٍ مؤسساتي عرفه البلد لم يكن كافياً.

يثير صعود اليمين المتطرّف مقارنة ضرورية مع الموجة الفاشية والنازية التي اكتسحت أوروبا وأجزاء أخرى من العالم في القرن الفائت، هذا الصعود مدفوعٌ بشكل أساسي بفشل الأنظمة النيوليبرالية في توفير الاستقرار الاقتصادي والرفاهية الاجتماعية.

وكثيراً ما يركّز خطاب التيارات اليمينية المتطرّفة على كون الحكومات عاجزة عن التصدي لقضايا الهجرة والأمن والاقتصاد، وتتخّذ من ذلك هامشاً واسعاً من المناورة لتقديم نفسها كبديل قوي وواضح يمثل “كل الشعب”، في الوقت الذي تتعمّد فيه الهجوم على الفئات الاجتماعية الأكثر هشاشة، مصوّرة أن الحلّ لا يمرّ سوى بمحاربتها.

 وقد شكّل انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية عام 2017، ومن ثم انتخاب جايير بولسونارو رئيساً للبرازيل عام 2019، درعاً واقياً لتيارات اليمين المتطرّف في بلدان الأميركيتين وفي أماكن مختلفة من العالم، وحافزاً لتعزيز نشاطها في البلدان الأوروبية، حيث يطلّ خطاب القومية العنصرية برأسه من جديد، لكن كل هذه التطورات لا يمكن حصرها في صراع الإرادات أو الأفكار أو وضعها في إطار “صراع الخير والشر”، أو اعتبارها مجرد ظواهر عابرة، فهي لا تنفصل عن البنية العميقة والمعقّدة للنظام الرأسمالي العالمي.

في أوروبا، نجد صعوداً لافتاً لأحزاب متطرّفة مثل حزب “البديل” من أجل ألمانيا، وحزب “التجمع الوطني” في فرنسا، وحزبي “إخوة إيطاليا” و”الرابطة” الإيطالي، وغيرها من الأحزاب والتجمعات اليمينية، خاصة في أوروبا الشرقية، حيث افتتح حزب “العدالة والقانون” في بولندا رحلة صعود اليمين الشعبوي بحصده 27% من أصوات الناخبين عام 2005ومشاركته في تشكيل حكومة ائتلافية.

 اللافت كان نجاح حزب “الفجر الذهبي” النيونازي في اليونان عام 2012 بدخول البرلمان، مستغلاً الأزمة المالية، قبل أن يتم إحباط وصوله إلى السلطة وتفكيكه، ويُعزى إلى تلك الأحزاب استغلال مخاوف الجماهير الأوروبية من تدفقات الهجرة الكبيرة، التي شهدتها القارة في السنوات الأخيرة، فيما تحاول إعادة تشكيل الهويات الوطنية فوق القومية الأوروبية المشتركة، وتعزيز النعرات القومية بين دول الاتحاد الأوروبي ومجتمعاته.

شبح اليمين المتطرّف يتعدى نطاق أوروبا والأميركيتين، ويمتد أيضاً إلى أماكن مثل الهند، حيث يعزّز حزب “بهاراتيا جاناتا” بقيادة ناريندرا مودي من خطاب القومية الهندوسية، ويتلقى هذا الحزب الذي يعتبر الأكبر في العالم ويبلغ عدد أعضائه نحو 180 مليون عضو، دعماً شعبياً واسعاً، في ظل الاستياء من الوضع الاقتصادي والاجتماعي.

 اللائحة تطول في جميع أنحاء الكوكب، وصولاً إلى لبنان الصغير الذي يشهد ظهور مجموعات فاشية صغيرة في بعض المناطق برداءٍ ديني، وكأن تحكم قادة الحرب الأهلية بالسلطة لأكثر من ثلاثين عاماً، وتسبّبهم بأكبر خرابٍ مؤسساتي عرفه البلد لم يكن كافياً.

الانتخابات التشريعية الفرنسية: حدثٌ ذو دلالات تاريخية وخطرٌ يلوح في الأفق

رغم “هزيمة” حزب “التجمع الوطني” الفرنسي بقيادة جوردان بارديلا ومارين لوبان في الانتخابات التشريعية الفرنسية منذ أيام، حيث تصدّرت “الجبهة الشعبية” الجديدة لليسار بقيادة جان لوك ميلونشون النتائج (182 مقعداً) فيما احتل تحالف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون “معاً” المرتبة الثانية (168 مقعداً).

حصول “التجمع الوطني” على 143 مقعداً مقارنة بالانتخابات السابقة عام 2022 (89 مقعداً)، أي بزيادة 54 مقعداً (الرسم البياني رقم 1)، هو أمرٌ يدعو للقلق وعدم الإفراط بالتفاؤل، هذه النتائج تعكس تزايد شعبية “التجمع الوطني”، الذي لن يوفر جهداً للتحريض ضد جبهة اليسار واتهامها بالفشل، حيث إن نسبة تمثيل القوى في البرلمان تدل على وجود انسداد سياسي، فلا أحد يملك أغلبية مطلقة (289 نائباً) تخوّله تجاوز القوى الأخرى بسلاسة نحو تنفيذ البرامج وتحويلها إلى سياسات فعلية، وسيبلغ الانسداد ذروته لحظة التصويت على الموازنة.

الرسم البياني رقم 1: الزيادة في عدد مقاعد حزب التجمع الوطني الفرنسي (National Rally).
المصدر: BFM TV

 

هذا الانتصار الموقت والمحدود لجبهة اليسار، يؤجّل خطر اليمين المتطرّف ولا يلغيه، وجود أغلبية غير مطلقة لليسار في الحكم يجعل تشكيل حكومة متجانسة قادرة على القيام بإجراءات اقتصادية واجتماعية حاسمة وسريعة أمراً صعباً، مما يعزّز قدرة اليمين المتطرّف على التحريض وزيادة شعبيته، وهنا سيتحمّل معسكر ماكرون الوسطي، مسؤولية تاريخية في حال لم يتحالف مع جبهة اليسار حول “برنامج حدٍ أدنى” لمعالجة المسائل الملحّة، وانتشال فرنسا من الوضع المتدهور.

وعلى الرغم من انتصارها المفاجئ والثمين، فإن جبهة اليسار ليست متماسكة، وقاعدتها الجماهيرية ليست واسعة بما فيه الكفاية، إذ إن تعويم الجبهة أتى في سياق ردة فعل شعبية عارمة ومزدوجة، أولاً على احتمال فوز “التجمع الوطني” بالسلطة، وثانياً على سوء إدارة ماكرون للحكم، ضعف التماسك الداخلي للجبهة سيتيح لماكرون مجالاً أوسع للمناورة من أجل إقامة تحالف مع الأطراف اليسارية الوسطية لتشكيل حكومة “معتدلة”، مستغلاً التمايزات بين عناصر الجبهة ورفض بعض أطرافها الإجراءات “المتطرّفة” التي ينادي بها راديكاليو الجبهة. 

مناورات ماكرون قد تُضعِف تحالف اليسار غير الناضج كلياً، وتعزز فرص اليمين المتطرّف في البناء على تقدّمه الثابت رغم هزيمته المرحلية، خاصة وأن الأسباب المحلية لاتساع القاعدة الجماهيرية “للتجمع الوطني” لم تُعالَج بعد.

لكن لدى ماكرون خيارات أقل ضرراً بوجه “التجمع الوطني”، إذ يمكن له أن يدعو إلى تشكيل حكومة تكنوقراط، متجنباً بذلك الانقسامات التي قد تترك الساحة في نهاية المطاف لليمين المتطرّف، وتزيد من فرص فوزه في الانتخابات المقبلة، وفي ظل التوازنات الحالية وغياب الأغلبية المطلقة، إذا لم يستجب ماكرون لمطلب ميلونشون بإقالة الحكومة وتشكيل حكومة جديدة من أحزاب اليسار، فإن أخف الضررين بالنسبة لليسار، سيكون القبول بحكومة تكنوقراط، مما سيجنّبه الكثير من المتاعب ويحفظ قدرته على التعبئة أكثر للمرحلة القادمة.

ما علاقة النظام العالمي بصعود اليمين المتطرّف؟

تتعدّد أسباب صعود اليمين المتطرّف هناك وهناك، لكن العامل الثابت دوماً هو بنية النظام العالمي، تتسبّب الأزمات الدورية في النظام الرأسمالي العالمي بفقدان الملايين من الوظائف، وتقليص الخدمات العامة، وزيادة الفقر والتضخّم، ويغيب عن بال الكثيرين أن الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية على فترات طويلة من الزمن تجعل الجزء الأكبر من الجماهير، عرضة لتبني الأفكار والحلول المتطرّفة، حيث يلجأ معظم الناس إلى البحث عن كبش فداء، وليس هناك أسهل من إقناعهم بأن مشكلات الاقتصاد تنبع من “الآخر” الأجنبي أو المهاجر، بدلاً من التركيز على التناقضات الأساسية في النظام الرأسمالي نفسه ومعالجتها.

 هكذا تكسب الأحزاب اليمينية المتطرّفة تأييد جزء كبير من العمال والفقراء وأبناء الطبقة الوسطى، الذين يشعرون بالتهديد والقلق، وليس لأنهم عنصريون بطبعهم، كما تحاول بعض الكتابات أن “تثبت”! فليس من قبيل الصدفة أن يتزامن أكبر صعود تاريخي لقوى اليمين المتطرّف في القرن العشرين مع انهيارات عامي 1921 و1929، ومجدداً في القرن الحالي مع انهيارات عامي 2007 و2020.

تميل الأغلبية المحبطة دوماً نحو التطرّف إلى لوم الفئات الأضعف، بدلاً من الثورة الاجتماعية واستهداف هياكل النظام القائم، لأسباب كثيرة أهمها ضعف التنظيمات الاجتماعية وغياب الخطاب السياسي الثوري، وسط هيمنة الأيديولوجيات الرجعية وعدد من التيارات الفكرية، التي تشكل مظلّة تحتمي تحتها الأنظمة والسلطات، كالعدمية والبراغماتية و”ما بعد الحداثية” على أنواعها.

والأفكار كالبذور، تحتاج إلى قاعدة مادية لتنمو حتى تصير واقعاً جديداً بحد ذاتها، تماماً كما تحتاج البذور إلى تربة مناسبة وماء وهواء وضوء للنمو، لا يكفي الإيمان بأفكار معينة لتتحوّل إلى قوة مادية تؤثر على الواقع بدورها، من دون التعامل الديناميكي الحيّ والواعي مع الظروف الموضوعية التاريخية، يُحسِن اليمين المتطرّف استغلال هذه الظروف، لنشر الأفكار الفاشية والعنصرية وتعميمها، فالقرابين الجاهزة للذبح موجودة بكثرة في عالمٍ تتفاقم فيه حركة الهجرة طردياً مع تفاقم الأزمات الاقتصادية والبيئية والحروب، المهاجرون والأقليات هم الحلقة الأضعف في السلسلة.

 ويلعب نجاح اليمين المتطرّف في شيطنة تلك الفئات دوراً حاسماً في زيادة شعبيته، وذلك من خلال تأجيج النقمة تجاهها، وتصويرها بمثابة تهديد للهوية الوطنية، وتوجيه اللوم لها كمسؤولة رئيسية عن ازدياد معدلات البطالة والجريمة وتراجع الخدمات العامة، فأسلوبه في جذب الجماهير الباحثة عن الحلول السريعة وغير المعقّدة، يعتمد على الكثير من التبسيط في القضايا والتجهيل بأسبابها، أما الحلّ السحريّ الذي يقدّمه فيكمن في الإقصاء والتهميش والترويج لسرديات قومية وعرقية أكثر تشدداً.

يشير ديفيد هارفي الجغرافي الشهير وعضو الأكاديمية البريطانية لتعزيز الدراسات التاريخية والفلسفية واللغوية، إلى أن الرأسمالية صارت أكبر من أن تفشل، لكنها في نفس الوقت أصبحت أكبر من أن تستمر في الحياة، ورغم النقد القاسي الذي واجهه من قبل بعض الماركسيين، بسبب اعتقاده أن الإطاحة بالنظام الرأسمالي ستؤدي إلى توقف الإنتاج وتعرّض 80% من سكان العالملى الجوع، وأن كل ما يمكن عمله حالياً هو محاولة إدارة هذا النظام بأسلوب مختلف.

 هذا النقد يصيب في مكانٍ معيّن يتجاهل فيه هارفي النقاش المفتوح حول ركنٍ أساسي في النظرية الاشتراكية، يتعلق بكيفية تحويل إدارة المنشآت الإنتاجية وتنظيمها عمالياً وإدارتها لامركزياً، بمعنى أن هارفي يغلق أبواب التفكير والنقاش، بل حتى الخيال، ويتجاوز مسألة التنظيم الذاتي للطبقة العاملة بالكامل، مساوياً بين الثورة الاجتماعية والموت جوعاً، وبهذا، يغرق هارفي في حتمياتٍ تاريخية سبق أن وقع في الكثير من أفخاخها شيوعيو الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية ككلّ.

لكن في ذات الوقت، فإن بعض ناقدي هارفي، ومن موقع أيديولوجي ديماغوجي متعصّب، وفي محاولتهم إثبات أنهم “أكثر ماركسية” من ذاك “الأكاديمي التحريفي”، يتعامون عن معضلةٍ مادية ومركزية يطرحها، تتلخّص في أن النظام الرأسمالي القائم، وعلى الرغم من مرونته وقدرته على تجديد نفسه حتى ولو بأشكال بائسة تتسبب بتوسيع التفاوت الاجتماعي والفقر، ومن هيمنته السياسية والأيديولوجية المطلقة، ومن الارتباط المباشر لحركة رأس المال بحيوات المليارات من البشر، إلا أنه يزداد توحشاً ويسير “على طريق الانتحار”. 

يمكن لأصحاب الرؤى الجامدة الذين لا يرهقون أنفسهم في محاولة اختراق ظواهر الإشكاليات نحو بواطنها، أن يروا في تحديد هذه المعضلة مجرّد إعلان حتموي آخر، عن تاريخ صلاحية مفترض للنظام الاجتماعي والسياسي، لكن من منظور أكثر واقعية، يمكن فهم هذا التناقض الكبير في النظام العالمي كتأكيد وجود قوانين تحكم الحركة الاجتماعية، وقواعد عامة تحكم حركة التاريخ، بها تتولَّد الظواهر الاجتماعية والأحداث السياسية الكبرى، حتى لو لم تؤدِّ إلى نهاية حتمية للنظام، ومن هذا المنطلق أيضاً يمكن تفسير ظاهرة صعود اليمين المتطرّف في العالم.

يمينٌ “أممي” ويسارٌ متقوقع

لاستيعاب هذه الظاهرة، سواء في أوروبا التي شهدت صعود الفاشية والنازية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، أو عالمياً، يجب معالجة  الزوايا كلها وتفسير العلاقة بين العوامل المباشرة وغير المباشرة، لكن التحليل الشامل والموضوعي يقتضي النظر أولاً إلى الواقع التاريخي، وما تفرزه التناقضات الداخلية في بنية النظام الرأسمالي العالمي من أزمات مستمرّة ومتفاقمة. 

لا يمكن اختزال الصعود اليميني إلى ردّات فعلٍ ميكانيكية وفقاً للقاعدة النيوتونية “لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه”،  كما لا يمكن الفصل بين المسارات المتصاعدة لتيارات اليمين المتطرّف في كل أنحاء العالم، فهذه التيارات المعادية لكل ما هو أمميّ، أصبحت “تتّحد أممياً” لتحقيق أهدافها القومية الشوفينية.

هذه التيارات تدعم القادة المستبدّين، وتمقت الديمقراطية بجميع أشكالها، وتعتبر المجموعات العرقية والمهاجرين والنقابات العمالية تهديداً لـ “سيادة الأمم”، وترى في مجموع أهدافها العصبوية التي تسعى إلى تحقيقها في كل بلدٍ على حدة، مشروعاً يمينياً وحدوياً عالمياً، يقوم على التعاون المشترك لتعزيز التقسيم الفئوي، ومكافحة “الغرباء” وطردهم، ومحاربة تقاليدهم وأساليب عيشهم المختلفة، لمجرّد وجودها دون حتى أن تُفرَض على أحد، وكأنها “سرطانات” تهدد نمط حياة “الأمم الأرقى”.

 كما تسعى هذه التيارات إلى توحيد العناوين الأساسية في برامجها السياسية دولياً، لتفكيك أو إلغاء أو إضعاف جميع الاتحادات البرلمانية بين الدول، والتحالفات الاقتصادية والنقدية، والمعاهدات التجارية، والهيئات والمنظمات الإقليمية والدولية العابرة للقومية.

يمكننا القول إذاً، إننا أمام تولّد ظاهرة جديدة يمكن تسميتها بـ “اليمين الأممي”، أو “الأممية الرجعية”، ويتمثّل مشروعها في التوحد من أجل إنهاء كل أشكال الوحدة، وإعادة النظر في جميع اتفاقيات التعاون الاقتصادي والتجاري من موقع محافِظ جداً، وزيادة الإنفاق العسكري، وإلغاء السياسات البيئية على قاعدة إنكار التغيّر المناخي، ومناهضة اللقاحات على قاعدة إنكار الأوبئة، وإلغاء سياسات الاندماج بدل تطويرها وإعادة تقييمها، بالإضافة إلى محاولة القضاء على المكتسبات الديمقراطية الليبرالية، وبعض المكتسبات الاجتماعية الاشتراكية، التي لا تزال حيّة في العديد من المجتمعات، مع احتمال إعلان العسكرة الشاملة للدولة والمجتمع في مرحلة متقدّمة.

في المقابل، يشهدُ اليسار العالمي تشرذماً غير مسبوق، لدرجة أنه بدأ بفقدان طابعه الأممي تحت تأثير اختراقات التيارات القومية والليبرالية من جهة (كان آخرها “صرعة” الـ Woke movement وتفشّي سياسات الهوية ذات المنبع اليميني القائمة على تكريس الهويات الجوهرانية، وضرب أساسيات العمل الجماعي في الفضاء العام عبر تحويل الهويات الأضيق إلى مواقف سياسية قائمة بذاتها) وتكاثر التنظيمات الأممية بشكل عشوائي من جهة أخرى.

ما سبق يستدعي الانتباه ويطرح سؤالاً حول قدرة اليسار الأممي في أن يكون ديمقراطياً بجدّ، إذ إن الانشقاقات المستمرة وولادة المزيد من “الأمميات” التي تحمل أفكاراً وتطلّعات لا تختلف بشكل جوهري عن سابقاتها، تدلّ على وجود تمترس جامد خلف هويات قائمة على التماثل المطلق وعلى طهرانية أيديولوجية غير قابلة للنقض أو النقد أو حتى النقاش.

وذلك على عكس الحركة اليمينية المتطرّفة الصاعدة، التي تقيم بالتعاون والتكافل المؤتمرات الدولية رغم التضييق السياسي، وكان آخرها في بروكسل/بلجيكا حيث اجتمع قادة اليمين الشعبوي/المتطرّف الأوروبي بإدارة مؤسسة إدموند بيرك البحثية الأميركية المحافظة تحت شعار: “التيار القومي المحافظ، محافظة على الدولة القومية في أوروبا”.

 لا تكتفي الحركة اليمينية المتطرفة بالتركيز على الجانب السياسي، فهي تعمل على إنشاء شبكات ثقافية عالمية بغطاء “وسطي” وصبغة “ديمقراطية” للترويج لنظرياتها وأفكارها وقيَمها في أوساط الشباب والفئات المختلفة، بمبادرات جماعية لسياسيين وأكاديميين ومستثمِرين يمينيّين، وكان آخرها إعلان تأسيس “التحالف من أجل المواطنة المسؤولة”بمبادرة من جوردن بيترسون وفيليبا سترود وجون أندرسون وبول مارشال في لندن في حزيران/يونيو 2023. 

هذه المبادرات تهدف إلى استمالة الشرائح والفئات الاجتماعية الرافضة لأفكار اليمين المتطرّف، وخلق أرضية مشتركة معها، وهي بالطبع ممارسات حرّة وديمقراطية تكفلها الدساتير، لكن الهدف منها توسيع القاعدة الجماهيرية أو التأييد غير المباشر للقوى المعادية للديمقراطية الليبرالية (أو أي شكلٍ من أشكال الديمقراطية) والتنوّع الثقافي والعرقي والحريات العامة والخاصة، أو على الأقل، التقليل من مستوى معاداة أفكار اليمين المتطرّف بين تلك الشرائح.

السياق التاريخي لصعود اليمين المتطرّف

عند الحديث عن حركة التاريخ، لا يمكن تبسيط صعود أقصى اليمين، بمجرّد رد فعلٍ تلقائي على أزمة اللجوء والهجرة، والربط بين الأمرين وكأنه أمرٌ مسلّم به، هذا الادعاء يمكن دحضه بعملية بسيطة، من خلال التذكير بالأسباب المباشرة لصعود أقصى اليمين، ونموّ النزعة القومية المتطرّفة قبل نحو مئة عام، حيث لم توجد أزمة لجوءٍ وهجرة، بل كانت الأسباب المباشرة أشدّ وضوحاً بكثير، بدءاً بالكساد الذي ساد كبريات الدول الصناعية في أعقاب الحرب العالمية الأولى عام 1921 (أنظر الرسم البياني رقم 2 أعلاه)، وصولاً إلى أزمة “الكساد الكبير” عام 1929 مع انهيار سوق الأسهم الأميركية(أنظر الرسم البياني رقم 3 أدناه) الذي استمر حتى عام 1939.

الرسم البياني رقم 3: مؤشر Dow Jones الصناعي من يناير/كانون الثاني 1920 إلى ديسمبر/كانون الأول 1954. بلغ المؤشر ذروته في 3 سبتمبر/أيلول 1929، وأغلق عند 381.17 دولاراً. انخفض المؤشر حتى 8 يوليو/تموز 1932، عندما أغلق عند 41.22 دولاراً. ولم يتعاف المؤشر ويصل مجدداً إلى مستواه الأعلى قبل الانهيار حتى 23 نوفمبر/تشرين الثاني 1954. 
المصادر: Federal Reserve History / Wikipedia

 

يمكن ملاحظة التشابه، إلى هذه الدرجة أو تلك، في الوضع الاقتصادي العالمي، بين فترة 1921-1939 وفترة 2007-2020، حيث شهد العالم في الفترة الثانية اضطرابين اقتصاديين واسعي النطاق، وذلك في عامي 2007 و2020. 

 

الرسم البياني رقم 2: مؤشر Dow Jones الصناعي من يناير/كانون الثاني 1918 إلى يناير/كانون الثاني 1923. بلغ المؤشر ذروته عند 119.6 دولارات في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 1919، ثم وصل إلى القاع عند 63.9 دولارات في 24 أغسطس/آب 1921، بانخفاض قدره 47 في المئة.  
المصادر: Macrotrends / Wikipedia

كانت الأزمة المالية عام 2007 هي الأضخم منذ عام 1929، إذ شهدت الأسواق المالية العالمية انهياراً كبيراً (أنظر الرسم البياني رقم 4 أدناه) فيما كان أثر جائحة كوفيد- 19 على الاقتصاد العالمي عام 2020 كارثياً، إذ تسببت بركودٍ شامل وتراجع كبير في الأسواق المالية (أنظر الرسم البياني رقم 5 أدناه) وإغلاق هو الأكبر في التاريخ، حيث شمل الركود للمرة الأولى منذ “الكساد الكبير” عام 1929، جميع الاقتصادات المتقدمة والنامية والأسواق الناشئة، ويمكن أيضاً ملاحظة المدة الزمنية المتقاربة بين كل من الأزمتين المتتاليتين، سواء في القرن الماضي أو الحالي، مما يثبت أنها هي التي شكّلت الحافز الأساسي لصعود اليمين المتطرّف. 

دفعت البلدان النامية الثمن الأكبر لأزمتي 2007 و2020، مما ضاعف هجرة اليد العاملة نحو الاقتصادات المتقدمة، وساعد تدفق أعداد كبيرة من المهاجرين، خصوصاً ذوي الاختصاصات المهنية والتقنية وغيرها، الذين يتقاضون أجوراً أقل ويعملون ساعات أطول، في إنقاذ اقتصادات الدول الغنية من انهيارات أكثر حدّة بكثير، لكنه ساعد اليمين المتطرّف أيضاً، على إيجاد أرضية صلبة لنشر خطابه وزيادة نفوذه السياسي.

الرسم البياني رقم 4: مؤشرات S&P500 (نيويورك)، FTSE100 (لندن)، CAC40 (باريس)، DAX (فرانكفورت). من أكتوبر/تشرين الأول 2007 إلى فبراير/شباط 2009. خسر كل من مؤشر S&P500 أكثر من 50 في المئة من قيمته، ومؤشر FTSE100 أكثر من 30 في المئة من قيمته، ومؤشر CAC40 أكثر من 40 في المئة من قيمته، ومؤشر DAX أكثر من 40 في المئة من قيمته.

الرسم البياني رقم 5: مؤشر S&P500 (نيويورك). مقارنة بين أزمتي 2007-2009 و2020. انخفاض المؤشر بلغ أقصاه عام 2009 بنسبة 57 في المئة، فيما سجل انخفاضاً بأكثر من 30 في المئة بين فبراير/شباط ومارس/آذار من العام 2020.
المصدر: Federal Reserve Bank of St. Louis

تشير الأمثلة أعلاه إلى أن العوامل الاقتصادية هي الأساس الموضوعي المشترك، في العالم المادي الحقيقي، الذي انبنى عليه مسار صعود اليمين المتطرّف في القرنين العشرين والحادي والعشرين، مع الأخذ في الاعتبار التغيرات العميقة التي طرأت على البنى والأنظمة السياسية والاقتصادية والتركيبات الاجتماعية خلال مئة عام، وكيف انعكست على التمظهرات السياسية والأيديولوجية لكلٍ من اليسار واليمين حول العالم، بجميع أطيافهما وتلاوينهما ومستوياتهما، خصوصاً بعد مرور زمن طويل من هيمنة التيارات الوسطية والإصلاحية.

أتيح للعديد من التيارات “الأقصويّة” من كلا الجهتين القيام بمراجعات شاملة، تفاوتت حصيلتها بين تغييرات في الأهداف العامة وبين الاكتفاء بتغييرات في التكتيك وأساليب المواجهة، حتى صرنا نرى مثلاً تفاوتاً في مستويات التحريض اليميني العنصري على الفئات المختلفة بين البلد والآخر، بل حتى بين منطقة وأخرى في البلد الواحد، وبين فرعٍ وآخر للتنظيم اليميني الواحد تبعاً للبيئة المحيطة والعوامل السياسية والأمنية، فجميع التيارات اليمينية المتطرّفة ارتضت الديمقراطية البرجوازية البرلمانية، إلى حد معين، وربما موقتاً ريثما تُحكِم السيطرة التامة على المجتمع والدولة من خلال الآليات الديمقراطية إيّاها بالذات، لذا، رغم تشابه الظروف التاريخية بين فترتي 1921-1929 و2007-2020، لا ينبغي اعتبار صعود اليمين المتطرّف مجرد تكرار مملّ للأحداث التاريخية السابقة.

صعود اليمين المتطرّف في القرن العشرين: النازية في ألمانيا

لعلّ المثال الأشهر لاستفادة اليمين المتطرّف من العملية الديمقراطية لاكتساب الشرعية، ثم تفكيك المؤسسات الديمقراطية من الداخل، هو وصول الحزب النازي بقيادة أدولف هتلر إلى السلطة في ألمانيا عبر الانتخابات البرلمانية عام 1932، رغم هزيمة هتلر في الانتخابات الرئاسية، استطاع النازيون من خلال البرلمان (الرايخستاغ) تمرير قانون التمكين (Enabling Act) في 23 مارس/آذار 1933، مانحين بذلك صلاحيات مطلقة لحكومة الرايخ ومستشار الدولة هتلر، الذي تولّى منصب باول فون هيندنبرغ بعد وفاته، رغم عدم حيازة النازيين الأغلبية البرلمانية.

كانت الكتلة النازية قوية بما فيه الكفاية لتعطيل العمل التشريعي، بالتزامن مع عمليات الترهيب والقمع والعنف السياسي، الذي كانت تمارسه المجموعات النازية خارج البرلمان، وقبل التصويت على قانون التمكين، قام النازيون باعتقال وإخفاء نواب الحزب “الشيوعي الألماني” (KPD) البالغ عددهم 81، إضافة إلى عدد من نواب الحزب “الديمقراطي الاجتماعي” (SPD)، في حين تمكّن من الفرار إلى خارج ألمانيا عدد من النواب، ولم يتمكن من التصويت ضد القانون سوى 94 نائباً ديمقراطياً اجتماعياً من أصل 647 نائباً (أنظر الرسم البياني رقم 6 أدناه) الذين كان مصيرهم الملاحقة والاعتقال أيضاً. 

أدّى مناخ الإرهاب السياسي إلى تفضيل أحزاب الوسط التصويت لصالح القانون، رغم أن القانون نفسه أدّى إلى السماح لهتلر بإصدار قانون يقضي بحلّ كل الأحزاب السياسية، ومنع تشكيل أحزاب سياسية جديدة في 14 يوليو/تموز 1933.

الرسم البياني رقم 6: التصويت على قانون التمكين عام 1933. المصدر: Wikipedia

 

 

لكن ما حصل في ألمانيا لم يكن بفعل تصادم الأفكار والأيديولوجيات وتبنّي الجماهير الألمانية للنازية اقتناعاً بها، فلا يمكن إغفال السياق الاقتصادي والاجتماعي الذي عزّز انتشار تلك الأفكار، وجعل الجماهير اليائسة تنتظر بطلاً مخلصاً على شاكلة أدولف هتلر، لو كان الحزب “الشيوعي الألماني” بقيادة إرنست تالمان أكثر تنظيماً وإدراكاً للخطر النازي في حينها، لربما كان مصير ألمانيا والعالم مختلفاً، ولربما تم تجنب الحرب العالمية الثانية ودمارها الكبير. 

هذا الصعود النازي لم يأتِ على غفلةٍ من التاريخ، بل كان نتاج تراكمٍ للخطاب والممارسة النازيين طوال فترة التدهور الاقتصادي الذي أصاب العالم كله، فيما أصاب ألمانيا بشكلٍ مضاعف، ومن الملاحظ أن النازيين التزموا بقواعد الديمقراطية وكانوا يحرزون تقدماً تدريجياً طوال سنوات (أنظر الرسم البياني رقم 7 أدناه) قبل تمكّنهم من السيطرة على الحكم ونسف الديمقراطية البرلمانية من أساسها، وهو ما يعيدنا إلى المثال المذكور أعلاه، حول الصعود المستمر لحزب “التجمع الوطني” الفرنسي رغم هزيمته المرحلية، والخطر الذي تم تأجيله موقتاً ولم يتم إلغاؤه.

الرسم البياني رقم 7: نتائج الانتخابات الفيدرالية الألمانية منذ العام 1919 حتى 1938.  المصدر: Montreal Holocaust Museum

 

شكّلت الطبقة الوسطى، خاصة فئات البرجوازية الصغيرة من التجار الصغار والمتوسطين، إضافة إلى الموظفين الحكوميين والمزارعين، العمود الفقري للحزب النازي، وواجهت ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى أزمة اقتصادية حادّة، مع تضخّم مفرط وانخفاض كبير لقيمة المارك الألماني من جهة، وارتفاع معدلات البطالة من جهة أخرى، بعد فقدان الملايين من الجنود العائدين من الحرب وظائفهم، وفرضت معاهدة فرساي عام 1919 على ألمانيا التنازل عن 68000 كيلومتر مربع من الأراضي (يسكن فيها 8 مليون نسمة، وتحوق مناطق غنية بالموارد الطبيعية) ودفع تعويضات مالية ضخمة للحلفاء المنتصرين، ثم أتت أزمة “الكساد الكبير” عام 1929 لتقضي على آمال التعافي الاقتصادي وتزيد الوضع سوءاً.

نفّذ هتلر بعد وصوله إلى الحكم سلسلة إجراءات جذرية نجحت بخفض معدل البطالة وخلق فرص عمل كثيرة، مستغلاً بذلك حقيقة أن ألمانيا المدمّرة والمنهكة شكّلت بعد الحرب أرضاً خصبة للمشاريع العامة، وبذلك ازدادت شعبيته بشكل كاسح، لكن ذلك تزامن مع إجراءات قمعية بحق تنظيمات الطبقة العاملة الألمانية. 

لقد كان الأساس المادي لصعود اليمين المتطرّف متوافراً في ألمانيا قبل أزمة 1929، وقد أتت الأزمة الكبرى لتضمن صعوده، ولتصير الحركة النازية جارفة، وسرعان ما ألغت الحكومة النازية النقابات العمالية الحرّة، ومنعت الحق في الإضراب، وفرضت قيوداً صارمة على حقوق العمال، وقامت “كتيبة العاصفة” في 2 مايو/أيار 1933، وهي الجناح شبه العسكري للحزب النازي، باحتلال جميع مراكز النقابات العمالية، والقبض على قادتها ووضعهم في السجون وفي معسكرات الاعتقال، حيث تعرض العديد منهم للتعذيب الشديد، إضافة إلى مصادرة أموال النقابات كلها (أي أموال العمال) وإدراج المسؤولين النقابيين السابقين على القوائم السوداء، مما منعهم من العثور على عمل.

تضمنت الإجراءات إطلاق مشاريع بنية تحتية واسعة مثل برنامج “أوتوبان” (Autobahnen)، وتخفيض الضرائب وزيادة الإنفاق الحكومي على المشاريع الضخمة، خاصة في الدفاع والتسليح، مما أوجد العديد من الوظائف الإضافية، إضافة إلى تعبئة نسبة كبيرة من الشباب في الجيش. 

في المقابل، فرضت حكومة هتلر سياسة منع استقبال العمال المهاجرين، وشجعت على اضطهاد اليهود والأقليات الأخرى، حيث تم طردهم من وظائفهم، مما أتاح مزيداً من فرص العمل للألمان “الآريين”، بالإضافة إلى “خفض تكاليف الرعاية” عبر إبادة المصابين بالإعاقات، حتى الأطفال حديثي الولادة منهم، وذلك من خلال “برنامج الموت الرحيم” ـ الذي لم يكن رحيماً بأي شكلٍ من الأشكال ـ بل حتى وصل الأمر إلى تحريض الأطفال عليهم من خلال النظام التعليمي (أنظر الرسم البياني رقم 8 أدناه) كل هذه التحولات الجذرية كانت تهدف إلى تحويل ألمانيا إلى مصنعٍ حربي كبير، تحضيراً للحرب العالمية الثانية، على الرغم من الخسائر المادية والبشرية الهائلة، التي تكبّدتها بسبب انخراطها في الحرب العالمية الأولى.

الرسم البياني رقم 8: تمرين في مادة الرياضيات في أحد المدارس في ألمانيا النازية يحرّض على أصحاب الإعاقات ويصوّرهم بمثابة عبئ مادي على الدولة والمجتمع.
المصدر: The Wiener Holocaust Library

 

 

صعود اليمين المتطرّف في القرن العشرين: الفاشية في إيطاليا

تتشابه الظروف التاريخية لصعود الحزب الوطني الفاشي (PNF) في إيطاليا بقيادة بينيتو موسوليني ونظيره النازي في ألمانيا بقيادة أدولف هتلر، وكان التحالف بينهما في الحرب العالمية الثانية دليلاً على إمكانية توحيد قوى اليمين المتطرّف حول أهداف مشتركة، رغم عصبويتها المتشدّدة، لكن مراحل تطور الحركة الفاشية ونضجها وتحوّلها باتجاه الديكتاتورية ومن ثم الاستعمار في إيطاليا، تختلف بعض الشيء، ويمكن تقسيمها إلى أربع مراحل. 

تقوم الأيديولوجية النازية أساساً على تفوق العرق الآري ومعاداة الديمقراطية، وتنادي بالإقصاء والسيطرة على الشعوب الأخرى، واضطهاد الأقليات التي “لا تستحق الحياة”، حتى لو استخدمت الديمقراطية البرلمانية في مرحلة معينة للوصول إلى أهدافها. 

أما الفاشية فقد كانت أقل تركيزاً على المسألة العرقية، ولم تحتو على القدر نفسه من الكراهية العنصرية، الذي كانت عليه الأيديولوجية النازية منذ بداياتها، بل كانت تركّز أكثر على ضرورة بناء “الدولة القوية”، والسيطرة على المجتمع من خلال الوحدة القومية والحزب الواحد.

تشكّلت الحركة الفاشية مباشرة بعد الحرب العالمية الأولى، وفي سياق اقتصادي مشابه إلى حدٍ ما للسياق الألماني، وكانت معاهدة فرساي عام 1919 التي لم تضمن لإيطاليا الحصول على أراضٍ إضافية، ورقةً بيد موسوليني للتحريض على بريطانيا وفرنسا، حيث لم يتردّد في إعلان الحرب عليهما لاحقاً، بعد إعلان تحالفه مع هتلر خلال الحرب العالمية الثانية. 

كانت الطبقة البرجوازية الصغيرة القاعدة الجماهيرية الأساسية للحزب الوطني الفاشي، لكن سرعان ما قام الحزب بعد استلامه السلطة بإصدار قرارات تقضي بقمع جميع الحريات العامة والسياسية، مما أثار امتعاض معظم الجماهير الإيطالية، لكن ذلك لم يشكل رادعاً لموسوليني، فالدولة الفاشية ديكتاتورية مطلقة فوق كل الطبقات الاجتماعية، وليست دولة تضمن سيطرة طبقة اجتماعية معينة على حساب غيرها، حتى لو كانت سيرورة قيامها مرتبطة بتحالف طبقي معين.

تميزت المرحلة الأولى من صعود الفاشية (1919-1922) بالخطاب الديماغوجي، القائم على الجمع بين العاطفة القومية لعموم الشعب الإيطالي، واستغلال الانقسامات السياسية والاجتماعية والأوضاع الاقتصادية المتدهورة، حيث نادى موسوليني بضرورة استعادة “العظمة الإيطالية”، وتمكّن من إقناع جزء من الجمهور الإيطالي، وبالأخص أوساط البرجوازية الصغيرة، بأن ذلك يحصل عبر مواجهة التيارات اليسارية والاشتراكية والانقضاض على التنظيمات النقابية والعمالية، ومذاك الحين، بدأ الفاشيون بتنظيم الاحتجاجات الحاشدة، التي اتسمت بالعنف أحياناً، ضد الحكومة الإيطالية والقوى اليسارية والعمالية في آنٍ واحد.

في المرحلة الثانية (1922-1925) قاد موسوليني مسيرة حاشدة من نابولي باتجاه روما شارك فيها 40 ألفاً من عناصر ميليشياته، أجبر فيها الملك فيكتور إيمانويل الثالث على تكليفه بتشكيل حكومة جديدة، ومباشرة بعد توليه الحكم، بدأ موسوليني بتعزيز سلطته من خلال تغيير القوانين وتقييد الحريات السياسية والعامة، بدءاً بإصدار قانون انتخاب جديد، وتحوّل الخطاب الفاشي إلى التركيز على ضرورة “استقرار” الدولة، وكان ذلك بهدف تبرير قمع الاحتجاجات الشعبية والإضرابات العمالية، التي كانت الوسيلة الوحيدة المتبقيّة لمواجهة عملية تحويل إيطاليا باتجاه الديكتاتورية الفاشية.

وفي المرحلة الثالثة (1925-1935) وطّد موسوليني الحكم الديكتاتوري ووسّع نظام الرقابة، ليطاول كل جوانب الحياة السياسية والعامة، وألغى جميع الأحزاب السياسية الأخرى، كما فعل حليفه هتلر في ألمانيا مباشرة بعد توليه الحكم، وبذلك تم الدمج النهائي بين الحزب الوطني الفاشي والدولة البوليسية.

بعد فرض “الاستقرار” بقوة القمع الأمني والعنف السياسي، اتجه موسوليني في المرحلة الرابعة (1935-1940) نحو الترويج لضرورة “التوسّع” لتأكيد “عظمة الأمة الإيطالية”، فانضم إلى محور القوى الفاشية وتحالف مع النازيين واليابانيين، وأنشأ شراكات سياسية وعسكرية مع هتلر بشكل أساسي لتعزيز قدراته العسكرية، وكان غزو إثيوبيا عام 1935 الخطوة الأولى، ومع دخول إيطاليا الفاشية في الحرب العالمية الثانية بجانب ألمانيا النازية، أعلن موسوليني عام 1940 الحرب على كل من بريطانيا وفرنسا، ليدخل في حربٍ غير متكافئة ويجلب الموت والخراب للإيطاليين، رغم أن معظمهم لم يكونوا مقتنعين بتوجّهات الزعيم الفاشي وأحلامه القاتلة.

من الجدير بالذكر أن حزب “إخوة إيطاليا” النيوفاشي بقيادة رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني قد نأى بنفسه عن موسوليني، لكنه في الوقت نفسه يستخدم شعارات موروثة من زمنه، ويتبنى العديد من أعضائه أفكاراً ورؤى وتراث الفاشية الموسولينية.

اليمين المتطرّف بين الماضي والحاضر

في القرن العشرين، اتخذ مسار صعود اليمين المتطرّف منحى فاشياً معادياً للشيوعية والليبرالية في آنٍ معاً، كانت أبرز تجليّاته توحيد الطبقات المختلفة تحت راية التفوّق العرقي والسعي لتحقيق “عظمة الأمّة”، واستخدمت حكومات اليمين المتطرّف القمع السياسي والأجهزة الأمنية على أوسع نطاق، للقضاء على كل الأصوات المعارِضة، وقد سهّل ذلك التحالفات العميقة بين تلك الحكومات والطبقات البرجوازية، التي شعرت بالتهديد الوجودي واعتقدت أنه لا سبيل لها للبقاء إلّا بالتعاون مع القوى السياسية الصاعدة.


أما اليوم، وفي ظل العولمة الشاملة للعالم، يعيد اليمين المتطرّف تشكيل نفسه في أطر مختلفة، فعلى عكس الصعود المحدود الذي حفّزته السياقات الاقتصادية المحلية في القرن الماضي، مدفوعةً بالأزمات العالمية بدورها، فإن أزمات الرأسمالية المعولمة تتسم بحدةٍ وعنفٍ وقدرة على بلوغ مديات واسعة جداً، ما ينذر باحتمال صعودٍ متزامنٍ لقوى اليمين المتطرّف في أكثر من قارّة وبمستويات متفاوتة من القوّة، مقابل مستويات متفاوتة من المقاومة،.

تتيح التقنيات الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي لقوى اليمين المتطرّف القدرة على نشر الأفكار الفاشية والعنصرية بشكل غير مسبوق، مستغلة بشكل أساسي تزايد التوترات الاجتماعية والاضطرابات الناتجة عن زيادة معدلات الفقر والبطالة والجريمة، وموجات الهجرة واللجوء، وخفض الضرائب على الأثرياء والشركات الكبيرة، وفرض الضريبة الخضراء (وبشكل عام نهج السياسات البيئية النيوليبرالية) والتمادي في الخصخصة من جهة والتقشف من جهة أخرى.

لا يعزّز اليمين المتطرّف مقبوليته بين الجماهير معتمداً على الإقناع والحوار، بل على استغلال شعور الأغلبية بالظلم الاجتماعي نتيجة الأزمات البنيوية للنظام الرأسمالي العالمي، وتحويل الأحداث الأمنية، من أصغر الجرائم الفردية أو الإرهابية وصولاً إلى أكبر حدثٍ عسكري، إلى فرصٍ للتحريض العنيف على الجاليات المهاجرة والأقليات والفئات الأكثر ضعفاً، ولم يعد صعود اليمين المتطرّف محصوراً في القارة الأوروبية، التي شكلت مركز القوة الأكبر له تاريخياً، رغم النمو الملحوظ لتياراته في أوروبا في العقدين الأخيرين، لكن شعبية ونفوذ هذه التيارات تشهد زيادة كبيرة على مستوى العالم، خاصة بعد فترة رئاسة دونالد ترامب في الولايات المتحدة الأميركية.

صعود اليمين المتطرّف سيشكل خطراً متزايداً على المكاسب الاجتماعية والسياسية التي حققتها الطبقات العاملة والطبقات الوسطى خلال أكثر من مئة عام من النضالات والصراعات، ورغم الأثمان الكبرى التي دفعها الملايين من الناس، هذا الأمر يستوجب مواجهة فعالة وواعية من قبل الجميع، وربما يجب العودة الآن، أكثر من أي وقت مضى، إلى كتابات ليون تروتسكي عام 1930 حول “الجبهة المتحدة” (اقرأ: “كيف نفهم الجبهة المتحدة”؟ بول داماتو، التطرف اليساري – لعنة زمن الثورات) وضرورة إقامة التحالفات الواسعة بوجه الصعود النازي والفاشي، واليوم يجب إقامة التحالفات الواسعة بوجه الصعود النيونازي والنيوفاشي، بقيادات يسارية واضحة المعالم والتوجهات والنيات، إن أمكن.