في الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية الفرنسية في 7 تموز/يوليو 2024، تعرّض التجمع الوطني لهزيمة سياسية على الرغم من زيادة عدد نوابه. كان الحزب اليميني المتطرّف يراهن على الفوز بالغالبية في البرلمان (إلى جانب حلفائه المطرودين من حزب الجمهوريين اليميني)، الأمر الذي كان ليمكّن جوردان بارديلا، زعيم الحزب إلى جانب مارين لوبان، من أن يصبح رئيساً للوزراء. وقد بدا هذا الاحتمال وارداً بعد الانتخابات الأوروبية في 9 حزيران/يونيو 2024 والجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية في 30 حزيران/يونيو حين حقّق اليمين المتطرّف نتائج ممتازة وكان التحالف السياسي خلف الرئيس ماكرون في حالة من الفوضى التامة.
لم يتحقق هذا الهدف لأنّ الناخبين اليساريين حشدوا أصواتهم في 7 تموز/يوليو لصالح مرشحي الجبهة الشعبية الجديدة التي تشكّلت في غضون أربعة أيام بعد 9 حزيران/يونيو، حينما حلّ إيمانويل ماكرون البرلمان في أعقاب هزيمته في الانتخابات الأوروبية. في الواقع، حصل تحالف ماكرون على نصف الأصوات التي حصل عليها التجمّع الوطني ونصف الأصوات التي ذهبت إلى مختلف أحزاب اليسار التي تنافست بطريقة مشتتة.
كيف يمكن تفسير نكسة التجمّع الوطني وحلفائه؟
يمكن الوقوف على السبب الرئيس لنكسة اليمين المتطرّف في اتفاق القوى اليسارية بعد انتخابات 9 حزيران/يونيو الأوروبية على تشكيل تحالف موحّد تحت اسم «الجبهة الشعبية الجديدة». جمع التحالف اليساري الجديد حزب فرنسا الأبية والحزب الاشتراكي والخضر والحزب الشيوعي والحزب الجديد المناهض للرأسمالية، وكان حزب فرنسا الأبية صاحب المبادرة ومحرّكها. أيقن الحزب الاشتراكي والأحزاب الأخرى على الفور وجوب الانضمام حتى لو تردّد بعض كبار المسؤولين أو رفض البعض الآخر الانضمام. وكانت وحدة اليسار أمراً أساسياً لأن الانتخابات البرلمانية الفرنسية تعتمد نظام الغالبية من جولتين. وخلافاً للانتخابات وفق النظام النسبي، التي يمكن التفاوض فيها على التحالفات لاحقاً، كان من المهم أن يقترح اليسار مرشحاً وحيداً في كل دائرة انتخابية لضمان أفضل فرصة للوصول إلى الجولة الثانية والفوز.
وجّه اليمين ووسائل الإعلام الكبرى، بما فيها وسائل الإعلام العام الخاضعة لمراقبة الحكومة وتؤيد رأس المال الكبير، انتقادات شديدة للجبهة الشعبية الجديدة، مدعياً أنّ بها أحزاباً تدعم «الإرهاب»، وبالتحديد حزب فرنسا الأبية والحزب الجديد المناهض للرأسمالية. بل وأشار العديد من المعلّقين إلى معاداة السامية المزعومة لحزب فرنسا الأبية والحزب الجديد المناهض للرأسمالية. وكانت الاتهامات عنيفة للغاية وكاذبة تماماً. وعلى الرغم من هذه الحملة المغرضة، تمكّنت الجبهة الشعبية الجديدة من الاتفاق على برنامج وتقديم مرشحين في كل مكان. ولم يقتصر العنف على العنف اللفظي، بل شمل أيضاً هجمات جسدية شنّها اليمين المتطرف.
كان العديد من ناخبي اليسار مقتنعين بأنّه في هذه المناسبة كان من الضروري التكاتف والنزول إلى الأحياء والساحات العامة والأسواق الأسبوعية وجميع أماكن النقاش. وكان الوعي بالخطر المحتمل من انتصار اليمين المتطرف قد مكَّن اليسار من الحشد بأعداد كبيرة.
ماذا يمكن القول عن برنامج الجبهة الشعبية الجديدة؟
البرنامج الذي خاضت على أساسه الجبهة الشعبية الجديدة الانتخابات ليس مناهضاً للرأسمالية، ولكنه حازم في معارضته للنيوليبرالية وموالاته للطبقة العاملة. وهو يعارض بوضوح سياسات ماكرون ويتعارض مباشرةً مع آمال الشركات وأغنى 10% من السكان. وفيما يلي بعض نقاطه الأساسية: حد أدنى للأجور بصافي 1600 يورو، وإعادة ضريبة الثروة التي ألغاها ماكرون في العام 2018، وفرض ضرائب على الأرباح الفاحشة، وإلغاء إصلاح نظام المعاشات التقاعدية لماكرون مع خفض سن التقاعد إلى 60 عاماً، وإلغاء إصلاحات التأمين ضد البطالة، والربط التلقائي للأجور بالتضخم، وإلغاء الزيادة الأخيرة في أسعار الغاز الصادرة في 1 تموز/يوليو، وتجميد بعض الأسعار، واعتماد أسبوع عمل مدته 32 ساعة «في الوظائف الشاقة أو الليلية»، واعتماد جدول ضريبي أكثر تدرجاً على الدخل (يعني ذلك عملياً العودة إلى جدول بـ14 شريحة بدلاً من جدول بـ5 شرائح المعمول به حالياً)، وفرض وقف اختياري للمشروعات الكبرى غير الضرورية، والتوجّه نحو مجانية التعليم المدرسي الكامل، والاعتراف بدولة فلسطين.
يمثل برنامج الجبهة الشعبية الجديدة تراجعاً عن برنامج اتحاد اليسار في فرنسا في أوائل الثمانينيات، ولكن 40 عاماً من الهجوم النيوليبرالي كان لها تأثير سلبي عميق.
ماذا كانت نتائج الانتخابات الأوروبية في 9 حزيران/يونيو 2024؟
حصل التجمّع الوطني على نسبة أصوات أعلى بكثير من أي حزب آخر، إذ حصل على 31.4% من الأصوات (أكثر من 7.7 مليون صوت)، أي أكثر من ضعف الأصوات التي حصل عليها حزب إيمانويل ماكرون، والتي بلغت 14.6% فحسب (3.6 مليون صوت). بالإضافة إلى ذلك، كان هناك قائمة أخرى من اليمين المتطرف تضمّ ماريون ماريشال لوبان، ابنة أخت مارين لوبان، وإريك زمور. وحصلت قائمتهما على 5.5% من الأصوات. وكان هناك أيضاً قائمة من اليمين التقليدي، «اليمين لجعل صوت فرنسا مسموعاً في أوروبا»، حصلت على 7.25% من الأصوات.
كان اليسار مشتتاً في خلال انتخابات البرلمان الأوروبي. حصلت القائمة المدعومة من الحزب الاشتراكي على 13.8% من الأصوات، بينما حصلت قائمة حزب فرنسا الأبية على 9.9% وقائمة الخضر على 5.5%. وفي المجموع، حصل اليسار على أقل من 30% من الأصوات. وكان إقبال الناخبين منخفضاً عند 51.5%.
في ضوء الهزيمة الساحقة لقائمة معسكر الرئيس، قام ماكرون بحل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة. يسمح الدستور للرئيس بمواصلة مهامه حتى نهاية ولايته في العام 2027، حتى لو اضطر إلى التعايش مع حكومة تعارضه.
ماذا كانت نتائج الجولة الأولى من الانتخابات المبكرة في 30 حزيران/يونيو 2024؟
نجح التجمّع الوطني بعد انتخابات الاتحاد الأوروبي في شق صفوف الحزب الجمهوري اليميني التقليدي من خلال تشكيل تحالف مع رئيسه إريك سيوتي، وحصل على 33.22% من الأصوات، وكان أداؤه أفضل مما كان في 9 حزيران/يونيو. وفاز بـ 10.6 مليون صوت. أما معسكر الرئيس فحصل على 23% من الأصوات. وحصلت الجبهة الشعبية الجديدة، التي تشكّلت مباشرة بعد الانتخابات الأوروبية، على 28% من الأصوات بعد توحيد أغلبية اليسار، من دون حساب الأصوات التي حصل عليها مختلف المرشحين اليساريين ممن استبعدهم قادة حزب فرنسا الأبية، بالإضافة إلى المنشقين عن الحزب الاشتراكي وغيرهم. وحصل الحزب الجمهوري الذي طرد رئيسه إريك سيوتي على 6.6% من الأصوات. وكان إقبال الناخبين مرتفعاً للغاية مسجلاً 66.7%.
شكّل النجاح الهائل لقائمة التجمع الوطني وحلفائه صدمة. وبرز خطر حقيقي من تولي اليمين المتطرف للحكومة (في تعايش مع الرئيس ماكرون). ورفع الشباب والنشطاء اليساريون الذين بدأوا في التعبئة مساء الانتخابات الأوروبية في 9 حزيران/يونيو مستوى نشاطهم لتجنّب حدوث الأسوأ. إن البرنامج الذي يروج له التجمع الوطني عنصري في جوهره، ولكن إذا وصل الحزب إلى السلطة، فستحدث زيادة في الهجمات العنصرية من قبل نشطاء اليمين المتطرف والشرطة، والأخيرة يصوّت معظم أفرادها لصالح اليمين المتطرف.
بعيد دقائق من صدور نتائج الجولة الأولى في 30 حزيران/يونيو، أعلنت قيادة حزب فرنسا الأبية على لسان متحدثها الرسمي جان لوك ميلنشون، وتبعها باقي قيادات الجبهة الشعبية الجديدة، أنّها من أجل هزيمة اليمين المتطرف في الجولة الثانية سوف تسحب مرشح الجبهة الشعبية الجديدة في كل دائرة انتخابية يأتي فيها المرشح في المرتبة الثالثة ومرشح التجمع الوطني في المرتبة الأولى.
م يحدث الشيء نفسه مع معسكر الرئيس، إذ أعلن عدد من حلفاء ماكرون، وحتى الوزراء من أمثال وزير الداخلية جيرالد دارمانين، أنهم لن ينسحبوا أبداً لصالح مرشح حزب فرنسا الأبية لهزيمة اليمين المتطرف. وأخيراً، بادر رئيس الوزراء غابرييل أتال إلى الدعوة إلى جبهة جمهورية لهزيمة اليمين المتطرف، لكن ذلك لم يؤدِ إلى الإجماع في معسكر الرئيس أو في بقية اليمين التقليدي.
لم يتبق سوى سبعة أيام لتجنّب استيلاء اليمين المتطرف على السلطة. أصدر العديد من المثقفين اليساريين وغالبية حركات اليسار الاجتماعية والمواطنين بيانات عديدة وعقدوا تجمعات تدعو إلى «سد الطريق» أمام اليمين المتطرف. وكان اتحاد النقابات العمالية نشطاً للغاية، وكذلك اتحاد Sud Solidaires. كما شاركت قيادة الاتحاد العمالي الديمقراطي الفرنسي المعتدل في هذه الجهود.
ولكن في الوقت نفسه، واصل معظم المعلقين عبر وسائل الإعلام الخاصة والعامة هجماتهم على حزب فرنسا الأبية والجبهة الشعبية الجديدة التي ضمت الحزب الجديد المناهض للرأسمالية بقيادة فيليب بوتو، واتهموهما بـ«تأييد الإرهاب» و«معاداة الشرطة». علاوة على ذلك، استمرت جميع المنصات الإعلامية تدعو التجمع الوطني للظهور عليها، وأظهر العديد من الصحافيين البارزين التعاطف معه، سواء كان تعاطفاً حقيقياً أو ظرفياً. وتوقعت استطلاعات الرأي فوز التجمّع الوطني. وبالفعل، صوّتت نسبة كبيرة من الطبقات الشعبية والطبقة العاملة التقليدية لصالح التجمع الوطني، وكانت على استعداد للقيام بذلك مرة أخرى. ولم يكن من ضمان بأن الناخبين اليساريين، من أجل عرقلة اليمين المتطرف، سيكونون على استعداد للتصويت لمرشح من معسكر الرئيس أو من بقية اليمين اللذان عززا بأفعالهما صعود التجمع الوطني واعتمدا قوانين مناهضة للمهاجرين بدعم من التجمّع الوطني. وبالمثل، لم يكن من ضمان بأنّ الناخبين اليمينيين سيصوتون لمرشح من حزب فرنسا الأبية أو أقصى اليسار لمنع انتخاب مرشح من التجمّع الوطني. وفي معسكر الطبقة العاملة، قد تسفر الرغبة في إنزال هزيمة أخرى بمعسكر ماكرون عن تصويت لصالح التجمع الوطني وليس للجبهة الشعبية الجديدة وحدها.
ماذا كانت نتائج الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية في 7 تموز/يوليو؟
كان الفائز الأكبر في الجولة الثانية الجبهة الشعبية الجديدة، فقد فازت بـ 182 مقعداً تشريعياً، بالإضافة إلى 14 نائباً آخر من مختلف أحزاب اليسار، بإجمالي 196 مقعداً. للتبسيط، يمكن تقريب هذا الرقم إلى 200.
احتل معسكر الرئيس الأقلية المرتبة الثانية بـ 168 نائباً، بخسارة 95 مقعداً.
وفي النهاية، فاز معسكر اليمين المتطرف بـ 143 مقعداً (126 للتجمع الوطني و17 لحلفائه، بما في ذلك إريك سيوتي وأعضاء آخرين من حزب الجمهوريين الذين تبعوه وطردوا أيضاً من الحزب). وحقق التجمع الوطني مكسباً بلغ 37 مقعداً مقارنة بالعام 2022.
فاز الحزب الجمهوري، وهو حزب يميني تقليدي أقرب في الواقع إلى خطاب اليمين المتطرف، بـ 45 مقعداً (بخسارة حوالي 20 مقعداً مقارنة بالعام 2022).
كيف تتوزّع المقاعد بين القوى السياسية في كتلة الجبهة الشعبية الجديدة؟
حل حزب فرنسا الأبية بالمركز الأول بحصوله على 74 مقعداً (مقارنة بـ 75 مقعداً في العام 2022)، يليه الحزب الاشتراكي بـ 59 مقعداً (بزيادة ملحوظة مقارنة بنتيجته الضعيفة في العام 2022، حين فاز بـ 31 مقعداً فقط)، ثم الخضر بـ 28 مقعداً (مقارنة بـ 23 مقعداً في العام 2022)، ثم الحزب الشيوعي بـ 9 مقاعد (في حين حصل الحزب مع حلفائه في العام 2022 على 22 مقعداً).1 كما يوجد 12 نائباً آخراً من الجبهة الشعبية الجديدة غير منتسبٍ لأي من الأحزاب المذكورة أعلاه. ولم يفز الحزب الجديد المناهض للرأسمالية، مرشحه فيليب بوتو في دائرة أود، بأي مقاعد.
من بين أعضاء الجبهة الشعبية الجديدة، يعد حزب فرنسا الأبية الأكثر يسارية. كما يوجد عدد قليل من نواب اليسار استبعدهم الحزب من القوائم الرسمية للجبهة الشعبية الجديدة، لكنهم انتُخِبوا في 7 تموز/يوليو.
ضمن الجبهة الشعبية الجديدة، وعلى الرغم من أن حزب فرنسا الأبية قاطرة الجبهة، فقد حقق الحزب الاشتراكي مكاسب كبيرة. فما تأثير ذلك؟
من المهم النظر إلى ما هو آت في ضوء المكاسب التي حققها الحزب الاشتراكي، فهذا الحزب يتحمل مسؤولية ثقيلة عن الكارثة الاجتماعية وخيبة الأمل في السنوات العشر الماضية (وقبل أيضاً). من النواب الاشتراكيين الجدد الرئيس السابق فرانسوا هولاند الذي يجسد تلك المسؤوليات السلبية الثقيلة. وتجدر الإشارة إلى أنّ هولاند وصل إلى الرئاسة في العام 2012 بعد مواجهة نيكولا ساركوزي، ووعد بإنهاء السياسات النيوليبرالية. لقد قال «عدوي التمويل». ولكن في الواقع، لم يكن عمله سوى استمرار لعمل الرؤساء اليمينيين السابقين عليه وسياساتهم النيوليبرالية. فقدم هدية تلو الأخرى للبنوك الكبرى و«التمويل» والشريحة الأغنى من السكان. وكان هولاند هو من جلب إيمانويل ماكرون إلى حكومته من بنك روتشيلد. وفي العام 2015، حين صوّت الشعب اليوناني لحزب سيريزا (ائتلاف اليسار الراديكالي) لتولي السلطة، انضم فرانسوا هولاند وحكومته إلى حكومة أنجيلا ميركل اليمينية وإلى الترويكا للتأكد من استمرار سياسات التقشف، ضد إرادة الشعب اليوناني.2
في النهاية، مُنِي الحزب الاشتراكي بهزيمة سياسية ساحقة في انتخابات العام 2017 التي أوصلت ماكرون إلى الرئاسة. فقد خسر 286 مقعداً تشريعياً ولم يتبق له سوى 45 نائباً. ومن حيث الأصوات، في الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية لعام 2017، لم يحصل الحزب الاشتراكي سوى على 7.5% من الأصوات، في حين حصل تحالف ماكرون على 49.1% من الأصوات و349 مقعداً. وفي الانتخابات التشريعية للعام 2022، خسر الحزب الاشتراكي عدداً أكبر من المقاعد ولم يتبق له سوى 31 مقعداً. وفي ذلك الوقت، كان الحزب جزءاً من تحالف الاتحاد البيئي الاشتراكي الشعبي الجديد الذي تشكل بمبادرة من حزب فرنسا الأبية، والذي فاز بما مجموعه 151 مقعداً، 75 منها كانت من نصيب حزب فرنسا الأبية نفسه.
بالمقارنة، تمثل نتائج العام 2024 عودة قوية للحزب الاشتراكي، فقد حصل الآن على 59 مقعداً.
فيما يتعلق بتعيين رئيس الوزراء، يدور حديث عن «قاعدة غير مكتوبة» في دستور الجمهورية الخامسة. فما هي؟
عادة، وبحسب قاعدة غير مكتوبة والعرف في الجمهورية الخامسة، يعين الرئيسُ رئيساً للوزراء من بين أعضاء التحالف الذي حلّ في المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية. وفي هذه الحالة، جاءت الجبهة الشعبية الجديدة في المرتبة الأولى، وداخل تحالف الجبهة الشعبية الجديدة، كان حزب فرنسا الأبية المجموعة السياسية الرائدة بفارق كبير. ولذلك، يجب أن يكون رئيس الوزراء عضواً في حزب فرنسا الأبية.
لكن ههنا تحدث كل أنواع المناورات.
يريد رأس المال الكبير تجنب أن يتولى عضو من حزب فرنسا الأبية قيادة الحكومة وتحديد جدول الأعمال. ومن وجهة نظره، يظل من الأهون تعيين عضو من الحزب الاشتراكي رئيساً للوزراء، مما يوفر المزيد من الضمانات للحفاظ على امتيازات أغنى 1% والشركات الخاصة الكبرى. لذلك من الواضح جداً أنّ قادة تحالف ماكرون يريدون شق صفوف الجبهة الشعبية الجديدة والسعي إلى حل وسط مع القوى السياسية الأقرب إليهم وأكثر «مسؤولية»، أي الحزب الاشتراكي وربما بعض الخضر.
ولا بد من أخذ التطورات المحتملة الأخرى من الأطراف الأخرى في الاعتبار.
سيكون من الإيجابي جداً حفز بناء جبهة اجتماعية وسياسية على أساس الوحدة في الأحياء الشعبية وأماكن العمل، وما إلى ذلك. جبهة اجتماعية وسياسية قادرة على الحشد لبناء توازن قوى مواتٍ واستخدامه لتحقيق الانتصارات والتصدي لهجوم اليمين واليمين المتطرف.
هل للتعبئات الاجتماعية الكبرى التي شهدتها فرنسا في السنوات الأخيرة، وخاصة ضد إصلاح (تقويض) نظام التقاعد في 2022-2023، وأيضاً ضد عنف الشرطة ضد الأشخاص ذوي البشرة الملونة، دورٌ في فشل التجمع الوطني؟
لا شك في أنّ حقيقة حشد مئات الآلاف بل الملايين من الناس في السنوات الأخيرة ضد سياسات ماكرون المعادية للمجتمع والمهاجرين والقمعية قد ساعدت في خلق مناخ مواتٍ لمقاومة خطر اليمين المتطرف.
في خلال التعبئات الاجتماعية الكبرى التي استمرت لفترة طويلة من دون تحقيق الانتصار، لم يكن هناك إحباط وخيبة أمل فحسب، بل تطورت بالمقابل القدرة على النقاش وتنظيم الاحتجاجات جماعياً وخلق روح جماعية. لكن لم يؤثر ذلك في جميع السكان، وهذا يفسر النجاح الحقيقي للتجمع الوطني الذي حصل على أصوات في بعض قطاعات الطبقة العاملة، لا سيما في المناطق الريفية والمناطق الحضرية الأكثر تضرراً من تصفية الصناعة، كما في شمال فرنسا. وفي معظم المناطق الحضرية، توجد مقاومة أكبر لاختراق أفكار التجمع الوطني واليمين المتطرف واليمين عموماً. وهذا هو الحال أيضاً في المناطق الحضرية التي تضم نسبة عالية من الأشخاص ذوي البشرة الملونة. وحقيقة أنّ حزب فرنسا الأبية والقوى الاجتماعية الأخرى لم تخشَ التعبير عن تضامنها العميق مع الشعب الفلسطيني ورفضها للسياسات العنصرية والمعادية للمهاجرين أقنعت قطاعات من السكان بالتصويت لصالح الجبهة الشعبية الجديدة وضد التجمع الوطني، وكذلك ضد ماكرون واليمين التقليدي.
هل تعود مسألة الدين العام إلى قلب النقاش؟
في جميع التصريحات الصادرة عن اليمين ومعسكر ماكرون، وفي العديد من التعليقات في وسائل الإعلام، تُثار باستمرار حجة المستوى غير المستدام الذي وصل إليه الدين العام وضرورة التقشف في الميزانية. يشدد هؤلاء على ضرورة الامتثال لتعليمات المفوضية الأوروبية بخفض العجز العام. ويجري التلويح باستمرار بالتهديد المفترض الذي يشكله وصول اليسار إلى الحكومة والأخطار المزعومة في برنامج الجبهة الشعبية الجديدة، إلى جانب فكرة أنّ أي تنفيذ لهذا البرنامج سيسبب الذعر في الأسواق وارتفاع كلفة الدين وهروب رأس المال. وبعبارة أخرى، هذه اللازمة إياها التي نسمعها كلما اقترب اليسار من تولي الحكومة؛ والهدف ليس مجرد تخويف الرأي العام بل وإقناع ممثلي اليسار بالتخلي عن أي رغبة في التوقف عن الخضوع لديكتاتورية الأسواق وبالتالي رأس المال الكبير.
في معركة الأفكار، سيكون من المهم تبيان أنّ الحكومات والمفوضية والبنك المركزي الأوروبي كانت على استعداد لزيادة الدين العام لتمويل النفقات في مواجهة جائحة فيروس كورونا والأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تفاقمت بسببها. ولم تكن حكومة ماكرون والقادة الأوروبيون على استعداد لفرض ضرائب على الأرباح الفاحشة للشركات الدوائية الكبرى - لا سيما منتجة اللقاحات - التي حققت أرباحاً فاحشة على حساب المجتمع. وينطبق الشيء نفسه على شركات البيع بالتجزئة التي حققت أيضاً أرباحاً هائلة - لا سيما تلك المتخصصة في المبيعات عبر الإنترنت وخدمات تكنولوجيا المعلومات. بعد ذلك، حين ارتفعت أسعار الغاز ارتفاعاً كبيراً في أعقاب الهجوم الروسي في أوكرانيا، لم تكن حكومة ماكرون وحكومات البلدان الأخرى على استعداد لمراقبة أسعار الطاقة وتجميدها، ما سمح لشركات الوقود الأحفوري والطاقة أيضاً بتحقيق أرباح هائلة على حساب المجتمع. وأخيراً، حين ارتفعت أسعار المواد الغذائية نتيجة الحرب في أوكرانيا والمضاربة على الحبوب، حققت شركات الحبوب أرباحاً فاحشة. وكذلك الحال مع سلاسل البيع بالتجزئة الكبرى التي رفعت أسعار المواد الغذائية بالتجزئة بشكل غير متناسب ومفرط، مما تسبب في ارتفاع حاد في التضخم وفقدان القوة الشرائية للطبقات العاملة. وقد رفضت حكومة ماكرون فرض ضرائب استثنائية على أرباحها. كما تحصد شركات إنتاج الأسلحة أيضاً المزيد من الأرباح من الحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط، بدعم كامل من قادة دول حلف الناتو.
خاتمة
في هذه الحالة، ومع رفض فرض الضرائب على الشركات التي استفادت من الأزمة وعلى الشريحة الأكثر ثراءً من السكان، زادت الدول من لجوئها إلى التمويل بالعجز بدلاً من تمويل نفسها عبر الإيرادات الضريبية، باستثناء الضرائب غير المباشرة على الاستهلاك (ضريبة القيمة المضافة) التي تضر بشكل كبير بالغالبية العظمى من السكان وخصوصاً القطاعات ذات الدخل المنخفض.
في معركة الأفكار، يجب علينا أن نوضح أنّه بسبب ذلك جزءاً كبيراً من الدين العام غير قانوني ويجب التدقيق فيه وإلغاؤه.
ستتشدد أيضاً سياسات الهجرة للقادة الأوروبيين والحكومات الوطنية، وستزداد انتهاكات حقوق الإنسان. وستزداد انتهاكات حقوق الإنسان على الرغم من إدانات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان وجمعيات حقوق الإنسان. وسيتعين علينا التعبئة. وإذا أمكن بناء جبهة اجتماعية وسياسية قوية من القاعدة إلى القمة، فسيكون من الممكن المقاومة وتحقيق الانتصارات.
سيؤدي أيضاً تقاعس الرئيس ماكرون والمؤسسات الأوروبية في قضية المناخ إلى تفاقم الأزمة البيئية. ولا غنى عن وجود حركة اجتماعية قوية لاتخاذ تدابير حقيقية لمكافحة الأزمة البيئية.
سوف تتسارع عملية إعادة التسلح. وعلينا أيضاً أن ننجح في تدشين حركة تعارضها.
وعلينا التعبئة للدفاع عن حقوق النساء وأعضاء مجتمع الميم.
ومن المحتمل أن تستمر خطابات اليمين المتطرف والسياسات الداعمة له في الانتشار.
ونتيجة لذلك، سيصبح النضال المناهض للفاشية والاحتجاج على صعود اليمين المتطرف أكثر أهمية.
ملاحظة لاحقة
أُلِّفَت مجموعة برلمانية جديدة في برلمان الاتحاد الأوروبي تسمى «وطنيون من أجل أوروبا»، وسيترأسها جوردان بارديلا. وتضم أعضاء البرلمان الأوروبي من حزب الرئيس المجري فيكتور أوربان وحزبي آنو وأوث أند موتوريست اليمينيين المتطرفين التشيكيين بإجمالي عدد 20 مقعداً، والمجموعة الأسبق في برلمان الاتحاد الأوروبي بقيادة مارين لوبان، الهوية والديمقراطية، والحاصلة على 58 مقعداً في البرلمان الأوروبي، بالإضافة إلى 6 مقاعد من حزب فوكس الإسباني الخارج من المجموعة البرلمانية اليمينية المتطرفة الأخرى (المحافظون والإصلاحيون الأوروبيون) بقيادة رئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني. سيبلغ إجمالي عدد مقاعد المجموعة الجديدة 84 مقعداً في البرلمان الأوروبي. وانخفض عدد أعضاء مجموعة المحافظين والإصلاحيين الأوروبيين بقيادة ميلوني بعد خروج أعضاء فوكس، وصار عدد مقاعد المجموعة الآن 78 مقعداً.3
في خلال الفترة البرلمانية المنتهية لتوها، بلغ إجمالي عدد أعضاء المجموعتين اليمينيتين المتطرفتين في البرلمان الأوروبي 118 عضواً، في حين صار هذا العدد في البرلمان الأوروبي الجديد 162 عضواً، بالإضافة إلى 15 عضواً من حزب البديل من أجل ألمانيا، وهؤلاء ليسوا حالياً جزءاً من أي مجموعة. وفيما يلي توزيع مجموعة «وطنيون من أجل أوروبا» في البرلمان الأوروبي حسب الأهمية:
التجمع الوطني: 30؛ - فيديز: 11؛ - ليغا: 8؛ - حزب آنو: 7 - حزب الحرية النمساوي: 6؛ - فوكس: 6؛ - حزب من أجل الحرية: 6؛ - حزب المصلحة الفلمنكية: 3؛ - أوث&موتوريست: 2؛ - تشيغا: 2؛ - حزب الشعب الدنماركي: 1؛ - لاتفيا أولاً: 1؛ - صوت العقل: 1.
نُشر هذا المقال على موقع CADTM في 10 تموز/يوليو 2024، وترجم وأعيد نشره على موقع «صفر» بموجب رخصة المشاع الإبداعي.