يمكن لشرارة، في ظروف معينة، أن تشعل حريقا في المروج. فقد تحولت المظاهرات ضد حظر شبكات التواصل الاجتماعي في نيبال إلى انتفاضة حقيقية بعد قتل الشرطة 19 متظاهرا. وتعرضت منازل شخصيات سياسية بارزة للهجوم، وأُحرِق البرلمان، وتهدمت الحكومة. ولكن ماذا سيحصل فيما بعد؟
أشار رومان غوتام Roman Gautam ، في مقال نُشر في مجلة Himal Southasian [1]، إلى تأثير الانتفاضات الأخرى: "فعندما انتفض السريلانكيون في عام 2022 لإطاحة نظام راجاباكسا،”سجل النيباليون ذلك". ثم جاء دور بنغلاديش وثورتها في يوليو الماضي، وظهرت الشيخة حسينة والنظام السياسي المحيط بها للعيان. في صور مظاهرات النيبال، يمكن رؤية العلم بجمجمة وعظام والذي أصبح رمزًا للمظاهرات الإندونيسية[2].
كان مطلقَ الحركة حظرُ وسائل التواصل الاجتماعي، التي يعتمد عليها العديد من الأشخاص الذين يديرون شركات صغيرة. تعد شبكات التواصل الاجتماعي مثل WhatsApp وMessenger أيضًا وسيلة تواصل مع ملايين العمال/آت المهاجرين/آت النيباليين في الخارج. إذ يعيش حوالي 7.5٪ من سكان النيبال في الخارج، وتمثل تحويلات الأموال أكثر من ربع ناتج البلد المحلي الإجمالي، ما يفوق المساعدات الإنمائية العامة والاستثمارات الأجنبية المباشرة مجتمعة. والدافع إلى هذا النزوح على نطاق واسع محكوم بآفاق المستقبل المظلمة في بلد حيث يعاني زهاء ربع الشباب من البطالة. صبت مقاطع الفيديو المنتشرة على نطاق واسع، لأطفال السياسيين وهم يعيشون حياة مترفة، المزيد من الوقود على النار.
في ظل هذه الظروف، سرعان ما تحول الاحتجاج على حظر وسائل التواصل الاجتماعي إلى حركة ضد السياسيين الفاسدين وغير الخاضعين للرقابة، المسؤولين عن انسداد الآفاق أمام الشعب. ثم أطلقت الشرطة النار على مظاهرة يوم 8 سبتمبر/أيلول، ما أسفر عن مقتل 19 شخصاً [3]. ومن القتلى أطفال بالزي المدرسي. هذا النوع من العنف اقترفته حكومة يقودها شخص يزعم أنه شيوعي، وهو ك. ب. شارما أولي K.P. Sharma Oli ، من الحزب الشيوعي النيبالي (الماركسي اللينيني الموحد) CPN-UML[4]. وتحول الغضب إلى سخط. في اليوم التالي، استقال أولي، وتم رفع الحظر عن وسائل التواصل الاجتماعي، لكن ذلك كان ضئيلا جداً ومتأخرا عن الأوان.
لم يقتصر فقد الاعتبار على الائتلاف الذي يقوده أولي، المكون من الحزب الشيوعي النيبالي (CPN-UML) والمؤتمر النيبالي (NC)، على هذين الحزبين فقط. فقد كشف عن ذلك تعرض منزل المعارض السياسي ورئيس الوزراء السابق براشاندا Prachanda هو الآخر لهجوم يوم الثلاثاء [5]. وعلى غرار أولي، براشاندا شيوعي مزعوم؛ وهو رئيس الحزب الشيوعي النيبالي (المركز الماوي). الحزب الشيوعي النيبالي (CPN-UML) والكونغرس النيبالي (المؤتمر النيبالي)[6] والمركز الماوي هي الأحزاب السياسية الثلاثة الرئيسية في البلد. تعاقبت هذه الأحزاب على السلطة منذ عام 2008، حيث شهدت نيبال 13 حكومة.
تدهور ثورة وانهيارها
ليست هذه أول مرة في التاريخ الحديث تشهد فيها النيبال انتفاضة شعبية. فقد أدت المظاهرات الشعبية عام 1990 إلى إنهاء النظام الملكي في النيبال، وأصبح البلد ملكية دستورية متعددة الأحزاب. وقد فرض الحزب الشيوعي النيبالي-الماركسي اللينيني، الذي بدأ كجبهة يسارية مشاركة في هذه الحركة، نفسه فيما بعد كواحد من الأحزاب السياسية الرئيسية في البلد.
على الرغم من التسمية، لا تمت أيديولوجية هذا الحزب بصلة للشيوعية. ففي أوائل التسعينيات، صاغ أمينه العام، مادان بهانداريMadan Bhandari خط الحزب، «نظرية الديمقراطية الشعبية متعددة الأحزاب". كانت في جوهرها استمرارًا للنظرية الستالينية عن الثورة على مراحل التي كان الحزب يدافع عنها سابقًا. كانت تتمسك بالمفهوم القديم مؤداه أن لا إمكانية لأي شكل من أشكال الاشتراكية، دون المرور بمرحلة تراكم رأس المال بالتحالف مع «الرأسماليين الوطنيين." وأضافت صيغة بهانداري أن هذه المرحلة” الديمقراطية الجديدة“ سوف تتحقق بالسبل الانتخابية، عبر البرلمان، وفي احترام للتعددية السياسية. أكد بنهاري، المتوفي عام 1994، فيما أصبح الوثائق المؤسسة للحزب الشيوعي النيبالي-الماركسي اللينيني الموحد أن الديمقراطية الجديدة ” ليست مغايرة في بنيتها الاقتصادية والاجتماعية ونظامها الإنتاجي“. القصد من ذلك "نظام إنتاج رأسمالي بشكل جوهري“، يتم تحقيقه من قبل” العمال/لات وعامة الناس".
اتسم القسم الكبير من السياسة النيبالية في التسعينيات بالتنافس بين الحزب الشيوعي النيبالي، والمؤتمر النيبالي، المدعي أنه اشتراكي-ديمقراطي، والحزب القومي الهندوسي والملكي Rastriya Prajatantra . تتركز معظم انتقادات الأحزاب لبعضها البعض على اتهامات بالفساد والمحسوبية، وليس على التوجه السياسي. كان الفارق يكمن في التوجه الدولي: يُعتبر الحزب الوطني تاريخياً موالياً للهند، بينما الحزب الشيوعي النيبالي- الماركسي اللينيني” معجب بالإنجازات العظيمة لبناء الاشتراكية على الطريقة الصينية "من قبل الحزب الشيوعي الصيني. على الرغم من هذه الاختلافات، شكلت هذه الأحزاب الثلاثة في أوقات مختلفة ائتلافات (حكومية) بين عامي 1990 و2005، عندما تولى الملك السلطة التنفيذية.
يكمن قسم من مأساة النيبال في كون حركة براشاندا الماوية نشأت كحركة ثورية وعدت بإنهاء الركود الاجتماعي والاقتصادي والتخلص من هيمنة الأحزاب القائمة. في عام 1996، قدم الماويون إلى الحكومة، التي كان يترأسها حزب المؤتمر الوطني آنذاك، قائمة تضم 40 مطلباً، تشمل إعادة توزيع الأراضي، ونظام تعويضات البطالة، والرعاية الصحية والتعليم، وإنهاء التمييز القائم على الفئات المغلقة [7]، والحكم الذاتي للمناطق المهمشة. وحيث لم تلب مطالبهم، شنوا كفاحًا مسلحًا ضد الدولة النيبالية. اشتدت حدة” الحرب الشعبية" الماوية في مطلع القرن، عندما كان الماويون يسيطرون على جزء كبير من المناطق الريفية. بينما ازدادت حدة الانتفاضة، قام الملك النيبالي جيانيندرا، Gyanendra, الذي كان بالمناسبة قائدًا للجيش، بتركيز السلطة في يديه.
ولكنه أثار، بفعله ذلك، عداء معظم الأحزاب السياسية، بما في ذلك المؤتمر النيبالي والحزب الشيوعي النيبالي (الماركسي اللينيني الموحد). وفي أبريل 2006، اندلعت حركة جماهيرية في المدن النيبالية. افضت هذه الحركة الاحتجاجية المعروفة باسم جانا أندولان الثانية أو الحركة الشعبية الثانية، في إشارة إلى حركة عام 1990، إلى عزل الملك واستعادة النظام البرلماني. في غضون ذلك، توصل الماويون إلى اتفاق مع أحزاب المعارضة، وتعهدوا بإنهاء الكفاح المسلح عن طريق التفاوض. وكان هدفهم ”المنافسة متعددة الأطراف في إطار دستوري محدد“، كما أعلن عن ذلك براشاندا. وفي 21 نوفمبر 2006، أعلن الماويون نهاية انتفاضتهم، و حل الأجهزة السياسية التي كانوا يقودونها في الأرياف. ثم انضموا لاحقا إلى الحكومة المؤقتة.
شدد الماويون، إبان الحرب الشعبية، على أن هدفهم المباشر هو” بناء نمط جديد من العلاقات الرأسمالية الوطنية الموجهة نحو الاشتراكية“. طلب بابورام بهاتاراي Baburam Bhattarai8، منظرهم الرئيس آنذاك، في مقابلته مع صحفي في الواشنطن تايمز عام 2001، أن” يتفضل بتدوين أننا لا نضغط من أجل “جمهورية شيوعية”، بل من أجل جمهورية ديمقراطية برجوازية“. كانت هذه الاستراتيجية مماثلة لاستراتيجية الحزب الشيوعي النيبالي-الماركسي اللينيني (CPN-UML)، لكنها تختلف بشأن كيفية الوصول إلى المرحلة التمهيدية لـ ”الرأسمالية الوطنية“، إما بالانتخابات أو بالكفاح المسلح.
في عام 2001، صرح بهاتاراي أيضًا أنه لا توجد "أية إمكانية إطلاقًا “ لأن يتحول الماويون إلى” حزب برلماني“ ويخونوا بذلك التطلعات الثورية للجماهير“. لكن ذلك ما حصل تماماً بعد عام 2006. وعلى الرغم من براعتهم في ساحة المعركة، فقد تغلبت عليهم الأحزاب القائمة في الساحة المؤسساتية، ثم سرعان ما تم احتواؤهم.
تم تقليص الطابع التقدمي لمشروع الدستور تدريجياً. وسرعان ما انهارت القيادة الماوية، وشرعت في تبادل التُهم بالفساد. وحتى الأموال المخصصة لقدماء المحاربين، المقرر دمجهم في الجيش الوطني اختفت. كان التغيير في نمط حياة شخص مثل براشاندا فاضحًا للغاية. غادرت بعض الجماعات الجذرية الحزب، لكنها لم تقدم سوى تكراراً للعقائد الجامدة القديمة والوعد بشيء لا تريده إلا قلة من الناس: العودة إلى الحرب الشعبية يوما ما في المستقبل.
لعبة التناوب على الكراسي
تضمن الدستور الجديد فعلا بعض التغييرات التقدمية، مثل تحويل البلد إلى جمهورية علمانية. لكن مقتضيات ديمقراطية أخرى، مثل منح المزيد من السلطة السياسية للمناطق المهمشة في إطار نظام فيدرالي، لم تطبق أو جزئيا فقط. فلم يتغير الكثير في الحياة اليومية للعديد من النباليين/ آت.
تولى الماويون منذ عام 2008، منصب رئيس وزراء نيبال أربع مرات: باتاراي مرة واحدة، وبراشاندا ثلاث مرات، كان آخرها من عام 2022 إلى 2024. بل شهد الحزب الشيوعي النيبالي-الماركسي اللينيني-(CPN-UML) والماويون، وهما حزبان كانا حتى وقت قريب يخوضان صراعًا مريرًا، في عام 2018، اندماجًا قصير الأمد. ويعود سبب فشله، على غرار الانشقاقات الأخرى عام 2021 بين الحزب الشيوعي النيبالي-الماركسي اللينيني والماويين، إلى حد كبير إلى الخلافات حول المواقف التي يجب اعتمادها. رُبَّ ساخر يقول إن زهاء 20 ألف شخص لقوا حتفهم في الحرب الشعبية لكي يتسنى للماويين الانضمام إلى لعبة التناوب على الكراسي السياسية.
فلا غرابة أن تعود القوى اليمينية إلى الواجهة حيث أن العديد من المشاكل الأساسية في البلاد ظلت دون حل. فقد شهدت النيبال في بداية هذا العام، مظاهرات مؤيدة للملكية. كانت استعادة الملكية موقف أقلية، لكن الملكيين تحمسوا بسبب الفشل البين للحزب الشيوعي النيبالي-الماركسي اللينيني (CPN-UML) وحزب المؤتمر النيبالي (NC) والمركز الماوي. يعبر” انبعاث الأنشطة المؤيدة للملكية“، كما قال أحد الصحفيين النيباليين[9]، عن”محاولة الحرس القديم الاستفادة من الإحباط العام السائد بين الجمهور أكثر مما يعبر عن مساندة لمؤسسة فقدت مصداقيتها“. وفقًا لبعض الشائعات، قد تكون القوى الملكية اليمينية هي أيضًا وراء إثارة أعمال العنف الأخيرة. وجهت أصابع الاتهام على نحو مماثل للهند وللقوى القومية الهندوسية، التي ترغب في عودة النيبال إلى دولة هندوسية وابتعادها في سياستها الخارجية عن الصين لصالح الهند. فمن المحتمل جداً أن تحاول هذه القوى استغلال الوضع الحالي. ومن البديهي أن هذا النوع من المناورات بات ممكناً في المقام الأول بسبب الاستياء وخيبة الأمل المعممين.
يمكن أن يكون الاستياء المشروع الناجم عن الفساد خطوة نحو التجذر الاجتماعي. ولكن ثمة أيضًا خطر استغلال هذه الطاقة من قبل القوى المحافظة أكثر، كما دل على ذلك مصير مظاهرات أخرى مناهضة للفساد. سيما أن مفاهيم ”الحكامة الرشيدة“ النيوليبرالية ، السائدة في الطبقات الوسطى الحضرية ومناضلي المنظمات غير الحكومية، تعزو سبب الفقر والتخلف ليس إلى الإمبريالية والاستغلال الرأسمالي، بل إلى عدم القدرة على” فرض احترام دولة القانون“. ويمكن أن يغدي الشعور انهم” جميعا فاسدون“ التوق إلى رجل قوي مخَلِّص، "ينظف البيت".
يمكن للحركات الاحتجاجية أن تسقط الحكومات، لكن الاستيلاء على السلطة لتغيير مسار المجتمع فعليًا أمرٌ آخر. ليست وكالات مكافحة الفساد كافية عندما يتعلق الأمر بمسائل من قبيل الإصلاح الزراعي، وتقرير مصير الأقليات، وحقوق العمال/آت، والنضال ضد هيمنة رأس المال.
حالات سريلانكا، حيث أفضت الانتفاضة الشعبية إلى اقامة حكومة تنهج أساسًا سياسات نيوليبرالية، وبنغلاديش، حيث كان اليمين القوة الصاعدة بعد انتفاضة يوليو 2024، أمثلة تدعو إلى التفكير. لكن سيكون خطأً فادحا استخلاص درس وجوب مقاطعة اليسار لهكذا احتجاجات، أو الأسوأ من ذلك، دعم حكومات أفقدها فسادها وعدم كفاءتها الفاضحين الدعم الشعبي. إذ عندما تنهض الجماهير، يُكتب التاريخ. على الاشتراكيين المشاركة في هذه النضالات ليتمكنوا من اقتراح مسار أفضل.
11 سبتمبر 2025
نشرته Tempest
إحالات
• 1
Himal Southasian مجلة شهرية مؤثرة تصدر في نيبال وتغطي الشؤون السياسية والثقافية في جنوب آسيا. ”تصفية حساب نيبال المروع مع طبقتها السياسية الفاشلة“، موقع انبركور 12 سبتمبر 2025. هيمنت عائلة راجاباكسا على السياسة السريلانكية لعقود. أُجبر غوتابايا راجاباكسا على الاستقالة من منصب الرئاسة في يوليو 2022 عقب احتجاجات جماهيرية ضد الأزمة الاقتصادية. كانت الشيخة حسينة رئيسة وزراء بنغلاديش منذ عام 2009. أُجبرت على الفرار من البلاد في أغسطس 2024 عقب احتجاجات قادها الطلاب.
• 2
أصبح هذا العلم الأسود بجمجمة وعظام متقاطعة رمزًا لاحتجاجات الطلاب الإندونيسيين ضد سياسات الحكومة.
• 3
”النيبال: الشرطة تطلق النار على مظاهرة لـ“جيل Z”“، 9 سبتمبر 2025، هيومن رايتس ووتش.
• 4
الحزب الشيوعي النيبالي (UML) هو أحد الأحزاب السياسية الرئيسية في نيبال، وهو يدعي اتباع الماركسية اللينينية ولكنه يتبنى سياسات رأسمالية إلى حد كبير.
• 5
كان بوشبا كمال داهال ”براشاندا“ زعيم الحركة الماوية المسلحة التي قادت ”حربًا شعبية“ من عام 1996 إلى عام 2006، قبل أن يصبح رئيسًا للوزراء لعدة مرات.
• 6
المؤتمر النيبالي (NC) هو حزب سياسي تأسس عام 1947، وهو حزب تاريخيًا اجتماعي ديمقراطي ومؤيد للهند.
• 7
يقسم نظام التراتبيات في نيبال المجتمع تقليديًا إلى مجموعات هرمية وراثية، حيث تعاني الفئات المغلقة الدنيا تاريخيا من التمييز.
• 8
كان بابورام بهاتاراي المنظر الرئيسي للحركة الماوية، وفيما بعد رئيس وزراء نيبال من عام 2011 إلى عام 2013.
• 9
« Making Sense of Nepal’s Pro-monarchy Protests » Biswas Baral, 13 mars 2025, The Diplomat.
.