
تبحث نيبال، بعد مظاهرات جيل Z المناهضة للفساد، والانتفاضة الدامية التي أجبرت رئيس الوزراء والحكومة على الاستقالة، عن سياسة جديدة قادرة على التخلص من مؤسساتها الفاشلة.
غالبا ما لا يعير النيباليون اهتماما بالسياسة في دول جنوب آسيا المجاورة لهم باستثناء الهند. ولكن عندما انتفض السريلانكيون في عام 2022 لطرد نظام راجاباكسا1، سجلوا ذلك. ثم جاءت بنغلاديش وثورتها في يوليو من العام الماضي، مع شيخة حسينة2 والنظام السياسي برمته في لتكون مرمى أنظار العامة. مرة أخرى، سجلت نيبال ذلك. سمعتُ، في هاتين المناسبتين، في العديد من المحادثات في كاتماندو3، نفس القول: دورنا قادم.
وها هو الآن قد حصل. نزل الشباب، تحت شعار ”احتجاجات جيل Z"، إلى الشوارع في 8 سبتمبر - متعبين من نظام سياسي فاسد وطبقة سياسية فاسدة، متعبين من رؤية نفس الشيوخ فاقدي الاعتبار يتناوبون على حكم البلد ونهبه، متعبين من انعدام مستقبل آخر سوى الهجرة للعمل في الخارج، وهو ما يفعله الآلاف كل يوم. تحولت المظاهرات السلمية فجأة إلى عنف، وبعد أن أطلقت الشرطة النار، ارتفع عدد القتلى إلى 19، مع اكتظاظ المستشفيات بالمصابين. كان ذلك اليوم أكثر أيام الاحتجاجات دموية في تاريخ نيبال.
قتلت حكومة ك. ب. أولي في نيبال 19 شخصًا
في صباح يوم 9 سبتمبر، دفع الألم والغضب آلاف الأشخاص إلى الخروج إلى الشوارع، متحدين حظر التجول. وفي جميع أنحاء البلد، أصبح كل ما يتعلق بالحكومة والمؤسسة السياسية فجأة هدفًا مشروعًا. تم إحراق مكاتب الأحزاب ومنازل السياسيين. وفي فترة ما بعد الظهر، تصاعدت أعمدة سوداء كثيفة من حوض وادي كاتماندو. تم إغلاق المطار الرئيسي في البلد وتحويل مسار الرحلات الجوية. و هبطت طائرات هليكوبتر في الأحياء الوزارية الجديدة في جنوب العاصمة، لإجلاء السكان إلى أماكن آمنة. ثم توقف إطلاق النار، وتوقفت صفارات الإنذار، وتوقفت الانفجارات، وتكاثف الدخان أكثر.
بدأ الوزراء يستقيلون، على غرار وزير الداخلية الذي استقال في الليلة السابقة. استقال نواب المعارضة بشكل جماعي، وتزايدت الدعوات لحل الحكومة وإجراء انتخابات جديدة. قبل الساعة 3 بعد الظهر، أعلن رئيس الوزراء ك. ب. شارما أولي4 – في ولايته الثالثة في السلطة، وبعناده وأنانيته المعهودين – استقالته أيضاً.
ومع تقدم ساعات النهار، خرجت الأمور عن السيطرة تماماً. لم يعد الأمر مقتصرا على المتظاهرين من جيلZ كما في الليلة السابقة. أمسكت الحشود زمام الأمور. انتشرت مقاطع فيديو تظهر قادة سياسيين يتعرضون للضرب، ومنازلهم تتعرض للرشق بالحجارة والحرق. تم حرق منزل رئيس الوزراء، ومقر إقامة الرئيس، والمحكمة العليا، والبرلمان، ومحلات السوبر ماركت، ومراكز الشرطة، وغير ذلك كثير. وبالطبع، مع المزيد من القتلى. ظهر قائد الجيش لدعوة الناس إلى ضبط النفس والهدوء، لكن ذلك لم يوقف أعمال النهب والعنف. أخيرًا، في وقت متأخر من الليل، جاء الإعلان عن نشر الجيش لاستتباب النظام.
اليوم، استيقظت نيبال في حالة من عدم اليقين الشديد. الشعور السائد هو أن على الحكومة أن تتحمل مسؤولية مقتل 19 شخصاً، وأن أولي والحرس القديم يجب أن يرحلوا. لكن حجم الحرائق المتعمدة، وسفك الدماء، والحشود المنفلتة من عقالها - وراء حجاب الغضب الأحمر ، واقع لا يمكن أن تبرره إلا قلة. لا أحد يعرف من يوجد الآن في موقع القيادة. لا أحد يستطيع أن يقول ما الذي سيحدث بعد ذلك.
تكاد أحداث اليومين الماضيين، بسرعتها واتساعها، تتحدى الفهم. لكن هناك ترسيمات من الماضي ستظهر مع توجه النيباليين نحو السؤال عما سيحدث مستقبلا.
النهاية غير المكتملة للملكية الهندوسية في نيبال
أولاً: كان هذا الأمر يغلي منذ فترة مديدة، وسيتطلب النظام الراسخ تفكيكاً جاداً. تراكمَ الغضب الواضح في ردود الفعل على الانتفاضات في سريلانكا وبنغلاديش منذ سنوات. كان خروج نيبال من حربها الأهلية5، التي انتهت منذ ما يقرب من عقدين، مفعما بالأمل. وقد وعدت أحزاب المؤسسة الحاكمة – وفي مقدمتها حزب المؤتمر النيبالي والحزب الشيوعي النيبالي (الماركسي اللينيني الموحد) بقيادة أولي، وهي نفس الأحزاب التي كانت تقود الحكومة التي سقطت للتو – بفجر ديمقراطي جديد بعد أن انقلبت أخيراً على الملكية6. وقد باع الماويون، بعد أن ألقوا أسلحتهم ووافقوا على خوض الانتخابات الديمقراطية، أحلامًا بمجتمع أكثر عدالة لملايين النيباليين الذين لم يحظوا قط بفرصة عادلة. ثم، بشكل عام، تحطمت الآمال وانقضت الوعود.
فاز الماويون في أول انتخابات بعد الحرب، ما دل على توق شعب نيبال إلى التغيير. لكنهم أخفقوا في إحداث تأثير حقيقي، وسرعان ما أصبحوا مجرد حزب آخر من أحزاب النظام. ويمكن توضيح فشلهم بشكل أفضل من خلال الطريقة التي سرعان ما أصبح بها زعيمهم – الرئيس براشاندا7 نفسه – شهيرا بثروته الشخصية أكثر مما هو معروف بمرجعياته الثورية. وتم تأجيل مشروع دستور جديد، تقدمي بشكل صادم في سياق نيبال التاريخي، مرارًا وتكرارًا حتى تم اعتماده بالقوة بعد تخفيفه بشكل كبير. شهدت الانتخابات التالية تصويتًا متشظيا إلى حد كبير بين أحزاب النظام الثلاثة، مع اتفاقات خلف الكواليس وخيانات علنية أدت إلى دوامة متكررة من تناوب نفس القادة فاقدي المصداقية على السلطة.
حققت نيبال تقدمًا في السنوات التي أعقبت الحرب، لكن هذا التقدم كان بطيئًا ومتعرجًا، وغالبًا ما كان يتم تحقيقه على الرغم من الحكومة وليس بفضلها. لا تزال الخدمات العامة سيئة، على الرغم من ارتفاع الضرائب. وتتمثل المصادر الرئيسية للأمل والارتقاء، بالنسبة لمعظم النيباليين، في التحويلات المالية من أقاربهم الذين يكدحون في الخارج، وكثير منهم في ظروف مروعة8. في غضون ذلك، كان أفراد النخبة السياسية - التي يهيمن عليها، كما هو الحال منذ فترة طويلة، رجال من الطبقة المهيمنة في منطقة باهاد في البلاد9 - يعيشون حياة مرفهة، وقد عملوا جاهدين على محاباة الرأسماليين المفضلين لديهم. وقد أدت جملة طويلة من فضائح الفساد في السنوات الأخيرة، تورط فيها سياسيون وبيروقراطيون ورجال أعمال من جميع أطياف المؤسسة الحاكمة، إلى تعزيز نظرة عامة الشعب القاتمة تجاه النظام.
ثانياً: يعرف النيباليون إلى حد ما كيف يقودون ثورة شعبية، لكنهم لم يفهموا قط كيف يجعلونها تدوم. أطاحت أول حركة ديمقراطية في البلاد، في الخمسينيات، برؤساء الوزراء الوراثيّين رانا10 ومنحت الشعب حق التصويت الحر. لكن الملكية سرعان ما انقلبت على الأحزاب الديمقراطية الناشئة،، بعد أن تحررت من قرن من سيطرة رانا، وأعادت سلالة شاه تأكيد سلطتها. بعد عقود من نظام بانشايات11 – وهو نوع من الديمقراطية الزائفة والمتحكم بها في ظل الملكية – انتفض النيباليون مرة أخرى في العام 1990. أعادت هذه الثورة الأحزاب الديمقراطية إلى السلطة، وإن كان الملك ملكًا دستوريًا، قبل أن تنهار هي الأخرى. أدى سوء الإدارة وتصاعد التمرد الماوي إلى فتح الباب أمام انقلاب ملكي في عام 200512. ثم جاءت نهاية الحرب في عام 2008؛ ونهاية الملكية؛ وخيبة كل الآمال.
هذا اللحظة هي المحاولة الأخيرة لتصحيح مسار نيبال. قد لا تدخل هذه المحاولة التاريخ بما هي ثورة – فمن المؤكد أن لا أحد يطالب بالإطاحة بنظام الحكم – ولكن ما يريده الشعب هو تغيير جذري في قواعد السلطة. للأسف، الماضي عدو قوي، وغالبا جدا ما تكررت طرق نيبال القديمة بوجوه جديدة. المزاج العام الآن هو التوجه نحو جيل قادة جديد: شخصيات بازغة مثل رابي لاميشان13، وهو مذيع تلفزيوني أصبح سياسيًا، أو بالين شاه14، وهو مغني راب أصبح عمدة كاتماندو. أسس الأول حزبًا جديدًا في منتصف عام 2022، وحصل على نسبة 10 في المائة المذهلة في انتخابات وطنية بعد بضعة أشهر فقط. أما الثاني، فقد انبثق من عدم في نفس العام ليهزم مرشحين من المؤسسة الحاكمة بفوزه في الانتخابات البلدية للعاصمة. لكن سجل هذين الرجلين يثير القلق، حتى لو كان العديد من النيباليين قد يتجاهلون ذلك في بحثهم عن منقذين.
لاميشان متورط في العديد من القضايا المثيرة للجدل، بما في ذلك اتهامات بالفساد أدت إلى سجنه حتى أُطلق سراحه في خضم الانتفاضة. هذه الاتهامات ذات دوافع سياسية، وهي طريقة يستخدمها النظام القديم للتغلب على منافسه - ولكن من غير الواضح أيضًا ما إذا كانت هذه الاتهامات لا أساس لها من الصحة تمامًا، و على لاميشان أن يبذل جهدًا لإثبات نظافته. علاوة على ذلك، لم يبد لاميشان أي حرج في الانضمام إلى النظام القديم خلال فترة قصيرة في الحكومة بعد انتخابات عام 2022. شاب ولاية شاه كعمدة خلل إداري، ويبقى إنجازه الرئيس هو عبادة الشخصية التي صنعها لنفسه على الإنترنت. إذا كان على الحرس القديم أن يرحل حقًا، فهل يمكن للنيباليين أن يكونوا على يقين من أن الحرس الجديد سيكون أفضل؟
كانت نتائج لاميشان وشاه في الانتخابات، التي شكلت صفعة قوية للأحزاب القديمة، نذيرًا بالغضب المتفجر حاليا ضد المؤسسة الحاكمة. إذا عادت نيبال إلى صناديق الاقتراع قريبًا، ستكون الرهانات الذكية على تصويت سيكون قاسيًا ضد الأحزاب القديمة. لكن هذا وحده لا يمكن أن يضمن وجود قادة جدد لديهم القدرة على مقاومة الإغراءات التي أطاحت بأسلافهم، أو حكومة ستحدث تغييرًا حقيقيًا. عندما يتعلق الأمر بتصحيحات منظومية، وإعادة اختراع حقيقية لسياسة البلد، تغامر نيبال في منطقة مجهولة.
من المغري، مع انضمام انتفاضة نيبال إلى انتفاضات بنغلاديش وسريلانكا، أن نرى ربيعاً خاصا بجنوب آسيا، على غرار الربيع العربي في أوائل عام 201015. عناصر ذلك قائمة: حكومات فاسدة، وشعب غاضب، وانتفاضة تلو الأخرى. ولكن هناك أيضًا: موت ودمار، ولا طريق آمن نحو مكان أفضل. من المقلق أن نتذكر كيف انتهى الربيع العربي، مع خنق الديمقراطية من جديد من قبل الاستبداد. حصلت الجماهير أيضًا على مرادها في بنغلاديش، بعد سقوط حكومة حسينة الضروري، وواجهت الحكومة المؤقتة صعوبة في تنظيف النظام مع اقتراب البلد من انتخابات جديدة ضرورية. قد تعيد الحكومة المقبلة هناك بعض السلطات القديمة، ومعها الأساليب القديمة. في سريلانكا، تخلت الحكومة الجديدة المجردة من المؤسسة القديمة عن وعودها السابقة واحدة تلو أخرى16. لا فجر جديد مشرق. والآن، تحلم نيبال، من هاويتها الحالية، بسياسة جديدة تعمل بالفعل لصالح الشعب. عسى ألا ترى المزيد من الدماء في جهودها.
في الوقت الحالي، هناك كل الرعب الذي يستدعي هذه الأيام معالجة، والجثث التي لا تزال بحاجة إلى حرق، ووضع شبه نظام يتطلب استتبابا. ولا شيء مما سيتبع سيكون سهلاً.
- 1
سيطرت عائلة راجاباكسا على السياسة السريلانكية لعقود. شغل ماهيندا راجاباكسا منصب الرئيس من 2005 إلى 2015، تلاه شقيقه جوتابايا من 2019 إلى 2022، قبل أن يطرده حراك شعبي.
- 2
شيخة حسينة واجد، ابنة مؤسس بنغلاديش شيخ مجيب الرحمن، قادت البلاد من 2009 إلى 2024 قبل أن تُطيحها انتفاضة شعبية.
- 3
عاصمة نيبال، تقع في وادي كاتماندو، ويبلغ عدد سكانها حوالي 1.5 مليون نسمة.
- 4
خادغا براساد شارما أولي، عضو الحزب الشيوعي النيبالي (الماركسي اللينيني الموحد)، شغل منصب رئيس الوزراء ثلاث مرات: 2015-2016، 2018-2021، و2024-2025.
- 5
الحرب الأهلية النيبالية (1996-2006) كانت بين القوات الحكومية والماويين من الحزب الشيوعي النيبالي، وأسفرت عن مقتل أكثر من 17000 شخص.
- 6
تم إلغاء الملكية النيبالية في عام 2008، ما أنهى حكم سلالة شاه التي كانت تحكم البلاد منذ عام 1768.
- 7
بوشبا كمال داهال ”براشاندا“ (”الشرس“)، الزعيم التاريخي للماويين النيباليين ورئيس الوزراء السابق.
- 8
يعمل أكثر من 2 مليون نيبالي في الخارج، خاصة في دول الخليج وماليزيا والهند، وتشكل تحويلاتهم حوالي 25% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.
- 9
البهاد هي التلال الواقعة في وسط وغرب نيبال، والتي يسيطر عليها تقليديًا طائفتا البراهمان والشيتري.
- 10
حكمت سلالة رانا نيبال من عام 1846 إلى عام 1951 كرؤساء وزراء وراثيون، مما قلص دور ملوك شاه إلى دور رمزي.
- 11
كان نظام بانشايات (1962-1990) ديمقراطية موجهة وزائفة في ظل الملكية، تحظر الأحزاب السياسية.
- 12
تولى الملك جيانيندرا السلطة المطلقة في فبراير 2005، وعلق الحكومة الديمقراطية.
- 13
حزب راستريا سواتانترا (الحزب الوطني المستقل)، الذي أسسه هذا المذيع التلفزيوني السابق في عام 2022.
- 14
باليندرا شاه، مغني راب أصبح عمدة كاتماندو المستقل في عام 2022.
- 15
الربيع العربي (2010-2012) جملة انتفاضات شعبية في العالم العربي، بدأت في تونس وامتدت إلى مصر وليبيا وسوريا ودول أخرى.
- 16
إشارة إلى الرئيس أنورا كومارا ديساناياكي، الذي انتُخب في عام 2024 على أساس برنامج انتخابي يدعو إلى التغيير الجذري، لكنه اضطر إلى تقديم تنازلات بعد وصوله إلى السلطة.