انتهى تدخل إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية العسكري ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية في 24 حزيران/يونيو الماضي بعد اثني عشر يوماً من عمليات قصف مكثفة. أدى هذا العدوان، الذي خلّف خسائرا فادحة في صفوف المدنيين، إلى تفاقم الوضع الاجتماعي في إيران إلى حد كبير.
من المؤكد أن هذه الحرب التي رغب في اندلاعها بنيامين نتنياهو وترامب انتهت بوقف إطلاق النار، لكن مستقبلها يظل أكثر غموضاً، بقدر ما تتلاقى إرادة الإدارة الأمريكية والدولة الاستعمارية والإجرامية الإسرائيلية في إطار مشروع لإحداث تغيير جذري في أشكال الواقع السياسي وموازين القوى في منطقة الشرق الأوسط. إن هذا السعي إلى إعادة تشكيل المنطقة ليس حديثة العهد. إذ بدأ في عام 1991 مع أول حرب على العراق. لكن هذه السياسة شهدت تسارعًا ملحوظًا منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، ومنذ أن شنّ بنيامين نتنياهو وحكومته القائمة على التفوق العرقي حرب الإبادة ضد الفلسطينيين/اتفي غزة. تترافق هذه السيرورة مع رغبة في طرد سكان غزة وإسراع توسيع الاستيطان في الضفة الغربية. يتمثل مخطط نتنياهو في القضاء على شعب فلسطين ككيان وكفاعل سياسي.
إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية
في الوقت نفسه، شعر نتنياهو، الذي يحظى بدعم جميع القوى الغربية، أنه قوي بما يكفي لإضعاف حزب الله اللبناني إلى حد كبير. وفي آخر المطاف، أدى انهيار نظام الأسد الديكتاتوري في سورية إلى بقاء إيران دون حليف مهم في المنطقة. تعمل إسرائيل، في ظل إفلات تام من أي عقاب، على احتلال جزء من سورية، وتقصفها بشكل منتظم، مثلما تفعل مع لبنان.
باتفاق مشترك مع ترامب، انتهز نتنياهو الفرصة السانحة له لمهاجمة برنامج الجمهورية الإسلامية النووي والباليستي، والقضاء على كبار قادة الحرس الثوري وشخصيات مرتبطة بالبرنامج النووي في طهران. أبرز نتنياهو أوجه التقدم التي أحرزها برنامج إيران النووي في مجال تخصيب اليورانيوم والتهديدات الجوفاء التي يطلقها قادة الجمهورية الإسلامية منذ 46 عامًا ضد دولة إسرائيل «لتبرير» شن «حربه الوقائية». لا تشكل التهديدات اللفظية التي يدلي بها قادة إيران سوى دعاية ورغبة في ترسيخ مكانتهم زعماءً في أعين الرأي العام بالمنطقة أكثر من أي شيء آخر. لم تكن لدى الجمهورية الإسلامية بأي وجه الوسائل اللازمة «لاجتثاث» دولة إسرائيل، ولا الرغبة في ذلك. وفي أخر المطاف، تؤكد الوكالة الدولية للطاقة الذرية AIEA وأجهزة الاستخبارات الأمريكية، في ما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني، انعدام أدلة على وجود برنامج عسكري. تروم الجمهورية الإسلامية أن تكون بلداً «على عتبة» امتلاك السلاح النووي أكثر من سعيها إلى أن تصبح قوة نووية. لكن المؤكد أن إسرائيل تريد أن يظل السلاح النووي حكراً عليها في المنطقة.
تدخُّل غير ديمقراطي بأي حال من الأحوال
أثناء الحرب التي استمرت 12 يوماً، كانت البنى التحتية المدنية والصناعية والاستراتيجية مستهدفة بشكل متعمد. حتى أن سلاح إسرائيل الجوي قصف سجن إيفين سيئ السمعة، مما أسفر رسميا عن مقتل 79 شخصاً، بينهم معتقلون عديدون.يبرز استهداف سجن يضم عددًا كبيرًا من معارضي النظام مدى عدم سعي الحرب التي شنها نتنياهو إلى «تحرير الإيرانيين من طاغيتهم». وبشكل عام، أدى هذا العدوان العسكري إلى توقف مؤقت للاحتجاجات الاجتماعية التي كانت تنفجر بشدة في هذه الأشهر الأخيرة.
لم يكن أمام الجمهورية الإسلامية، بوجه الحرب التي أرادها نتنياهو وترامب، سوى الرد عبر الاعتماد على ترسانة مُسيراتها وصواريخها الياليستية. كانت عزلة نظام طهران واضحة للعيان في هذه الأحداث المتعاقبة. لم يعد حلفاؤه الإقليميون قادرين على التحرك، وبرزت بكين وموسكو، اللتان تربطهما علاقات اقتصادية ودبلوماسية مهمة مع دولة إسرائيل، بالتزام الصمت. تجدر الإشارة إلى أن هذا النزاع أتاح لبوتين إخفاء الحرب التي يشنها على شعب أوكرانيا. واستغل ذلك لتكثيف عملياته.
السعي إلى استسلام
كان عدوان إسرائيل العسكري أيضًا يندرج في الإطار الذي حددته واشنطن في حين أن مفاوضات بشأن البرنامج النووي كانت جارية.
تسعى إدارة ترامب، عبر قصف المواقع النووية في فوردو ونتانز وأصفهان بالطائرات الأمريكية، إلى إجبار الجمهورية الإسلامية على الاستسلام والحصول على أقصى تنازلات منها. كانت الإمبريالية الأمريكية تروم أيضا استعراض قوتها وتوجيه رسالة إلى منافستيها الصين وروسيا. تتطلع إدارة ترامب، في ما يتعلق بالشرق الأوسط، إلى تدجين الدول وفرض تدبير شؤون المنطقة وفق شروطها. ويمر ذلك عبر التحكم الكامل ببرنامج الجمهورية الإسلامية النووي والعسكري. ولعل هذا هو ما تعنيه تصريحات ترامب منذ نهاية الحرب.
خرجت الجمهورية الإسلامية من هذه الأحداث في وضع ضعيف. قام قادة النظام، إدراكاً منهم لما يتعرضون من كراهية داخل البلد، بالرد فوراً عبر تشديد القمع ضد المعارضين. قامت السلطات بفرض قيود على الاتصالات والإنترنت، وشرعت في شن حملة ترهيب واعتقالات، وزادت من وتيرة إصدار الأحكام القاسية والإعدامات.
واليوم، يتعرض سجناء/ات الرأي والمعتقلون/ات السياسيون/ات لخطر شديد. وتقوم وكالة أنباء فارس Fars News، إحدى وسائل الإعلام المقربة إلى الأوساط الأمنية والحرس الثوري، حتى بالدعوة إلى إعدام جماعي للمعتقلين/ات السياسيين/ات كما حدث في صيف عام 1988. أدى إعدام المعارضين/ات في نهاية الحرب ضد العراق إلى إتاحة الخميني ونظام الملالي فرصة للقضاء على ما يفوق 12000 مناضل/ة من منظمة مجاهدي خلق ومن مختلف المنظمات اليسارية الثورية.
اختراق الموساد
تجدر الإشارة إلى أن الحرب الأخيرة سلطت الضوء على فشل جهاز الجمهورية الإسلامية الأمني وهشاشته. عملت دولة إسرائيل، عبر استهدافها كبار قادة الحرس الثوري والعلماء المرتبطين بالبرنامج النووي، على إثبات مدى اختراقها قمم دولة إيران. وهذا ليس بالأمر الجديد، كما تذكر هذه الحكاية. في 30 أيلول/سبتمبر 2024، كشف الرئيس السابق أحمدي نجاد لـقناة سي أن أن تورك CNN Turk أن رئيس وحدة في جهاز مخابرات إيران مكلف بمكافحة التجسس ضد الموساد كان هو نفسه عميلاً يشتغل لحساب إسرائيل. بعد الكشف عن هويته في عام 2021، تمكن هذا العميل وحوالي عشرين عضواً من فريقه من الفرار خارج إيران.
أدى العدوان الإسرائيلي-الأمريكي إلى شن حملة في إيران على «عملاء الموساد»، مما أسفر عن اعتقالات تعسفية عديدة ومحاكمات سريعة وإعدامات شنقاً. لا تتردد الجمهورية الإسلامية في عرض «نجاحاتها» على الملأ، وتسعى في المقام الأول إلى التستر على إخفاقاتها وتعزيز مناخ من الرعب لكبح أي رغبة في الاحتجاج.
العنصرية ضد الأفغان/ات
تضاف إلى هذه الحملة القمعية سياسة عنصرية وطرد جماعي ضد اللاجئين الأفغان. توجه إليهم تهم عشوائية بالعمل لصالح «قوى أجنبية»، وبكونهم سبب انتشار البطالة بين الشباب، والجريمة وجميع المشاكل التي يعاني منها مجتمع إيران.
وفقًا للمرصد الدولي للهجرة (OIM)، أُجبر ما يناهز 450 ألف أفغاني/ة، بين 1 حزيران/يونيو و5 تموز/يوليو 2025، على مغادرة أراضي إيران. منذ بداية عام 2025، ارتفع هذا العدد إلى 906326 شخصًا وفقًا لوكالة الأمم المتحدة. تشير تقارير عديدة ومقاطع فيديو متعددة إلى ما يتعرض له المهاجرون/ات الأفغان/ات من عنف شديد أثناء ترحيلهم/ن.
تنظَّم هذه السياسة على أعلى مستويات الدولة. يقود النظام حملة إعلامية مليئة بالكراهية ضدهم. وفقًا للإعلانات الرسمية، سيتم مصادرة الحافلات التي تنقل مهاجرين بدون أوراق ثبوتية مصادرة نهائية، ويواجه الأفراد الذين قد يجرؤون على نقل أفغاني/ة بدون أوراق ثبوتية سحب رخصة السياقة والسجن لمدة خمس سنوات. بات تأجير مسكن لمهاجرين/ات لا يحملون وثائق رسمية عرضة لمدة سنتين سجناً كعقوبة.
أما أرباب العمل الذين قد يوظفون أفغان/ات بدون أوراق ثبوتية، فيتعرضون لسحب رخصة أعمالهم التجارية وإغلاق محلاتهم. وتجدر الإشارة إلى أن غالبية اللاجئين/ات الأفغان/ات في إيران لا يحملون/ات أوراقاً ثبوتية.
إن ما تقوم به قوات الأمن التابعة للنظام هي حملة مطاردة حقيقية على أساس مظهر الأشخاص. في بعض المدن، يتم تجميد حساباتهم المصرفية ومصادرة ممتلكاتهم، وأحيانًا يتعرضون للضرب ويُجبرون على ركوب شاحنات لإعادتهم إلى الحدود. أما الفتيات اللواتي يدرسن في إيران، فيتم ترحيلهن دون أي رحمة إلى أفغانستان، حيث مزيد من الاضطهاد الشديد في انتظارهن.
على الرغم من أن ما يتعرض له الأفغان/ات من عنصرية ليس أمراً جديداً، فإنها ازدادت حدة في هذه الأسابيع الأخيرة.
فر اللاجئون/ات الأفغان/ات المقيمون/ات في إيران، منذ بداية سنوات 1980 بالنسبة لبعضهم، من الغزو السوفياتي والحروب الإمبريالية التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ظلامية نظام طالبان وما فرضه من فصل عنصري بين الجنسين. إنهم/ن جزء لا يتجزأ من الطبقة العاملة في إيران ويمارسون/ن أشق الأعمال وأقلها أجراً. إنهم/ن يتعرضون/ن لاستغلال مفرط ولا يتمتع كُثر منهم/ن بأي حقوق.
في هذا السياق، أصدر اتحاد عمال إيران الحر ونقابة فاهد (عمال قطاع النقل العام في طهران وضواحيها) بيانين ضد السياسة العنصرية التي تنهجها الجمهورية الإسلامية. وتضاف إلى هذه التصريحات رسالة مفتوحة وقعها ما يفوق 1300 مناضل/ات وفنان وصحفي يدينون فيها المعاملة التي يتعرض لها اللاجئون/ات الأفغان. هذه المواقف سليمة بوجه خاص.
نظام في حالة اضطراب
على الرغم من هذه السياسات القمعية والعنصرية، لم ينجح النظام في التستر على إخفاقاته. تتسرب الخلافات وتزداد حدة، داخل حتى السلطة وفي أوساط النخبة. على سبيل المثال، في عدد حديث من ”دونيا-ي-إقتصاد“، وهي صحيفة إيرانية كبيرة متخصصة في الشؤون الاقتصادية، نُشرت رسالة وقعها ما يفوق 300 رئيس جامعة وأكاديمي وباحث واقتصادي وشخصية سياسية وعلمية بارزة. يشير الموقعون ضمناً إلى عدم فعالية السياسات الاقتصادية، ويتطرقون صراحة إلى الفساد، واختلاس أموال الريع، أو أيضاً تورط عناصر الحرس الثوري بشكل فاضح في الاقتصاد. وينتقدون السياسات الاقتصادية المتبعة والقمع. يؤكد الموقعون، مع التزامهم بإطار الجمهورية الإسلامية، أن البلد لم يعد قابلاً للحكم بهذه الطريقة، معربين عن قلقهم من مخاطر الانهيار إذا لم يتم وقف تفاقم حدة الفقر وهجرة النخب وتراجع الاستثمارات الإنتاجية. ويطالبون بالإفراج عن المعتقلين السياسيين وحماية الحريات الأكاديمية والنقاش المفتوح، بما في ذلك في وسائل الإعلام. مما يعكس ما يسود من توترات واضطراب في أوساط الدوائر الحاكمة.*
اقتصاد في حالة انهيار
وفقًا لرئيس إيران، مسعود بيزشكيان، يخرج كل عام ما بين 20 إلى 30 مليار دولار من البلد بشكل غير قانوني، في حين أن الوضع الاجتماعي كارثي. وهذا يكفي لإثبات مدى الفساد المستشري في الدوائر العليا التي تتقاسم السلطة والثروات في البلد.
تعيش ما يفوق نسبة 60٪ من السكان تحت عتبة الفقر. ويعاني البلد منذ سنوات عديدة، بسبب تأثير العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية والسياسات الاقتصادية التي تنتهجها السلطات، من تضخم مفرط مدمر. ساهمت السوق السوداء التي يتحكم بها أفراد الحرس الثوري بالكامل في إثرائهم بشكل فاحش. تؤثر العقوبات بشدة على العمال والغالبية الساحقة من السكان.
في عام 2024، وفقًا لمركز الإحصاءات التابع للجمهورية الإسلامية، ارتفعت أسعار السلع المستوردة بنسبة 53.8٪. وزادت أسعار الأدوية والرعاية الطبية بنسبة 400٪ في السنوات الخمس الماضية. ومع الحرب الأمريكية الإسرائيلية على إيران، تفاقم هذا الاتجاه بشكل واضح وشمل ذلك جميع السلع. يناهز سعر اللحم بالفعل 213 يورو للكيلوغرام، كما ارتفع سعر الخبز للتو بما يفوق نسبة 50٪. في الأشهر الأخيرة، كان سعر الأرز، الذي يشكل الغذاء الأساسي في المطبخ الإيراني، ارتفع إلى درجة أن أسراً كُثراً اضطرت إلى اللجوء إلى الخبز بدلاً منه... ومع هذا الانفجار في أسعار الخبز، سيضطر كُثر إلى مزيد من الاستغناء عنه. أما الأجور، فهي لا تزال منخفضة للغاية. كان الحد الأدنى للأجور الشهرية منذ آذار/مارس 2025 محدداً في 10399000 تومان. لا يعكس هذا المبلغ مداخيل العمال المياومين الذين يكسبون أقل من ذلك بكثير... على أي حال، يجب ربط هذا المبلغ بتكلفة المعيشة التي تتجاوز 35 مليون تومان شهرياً.
تضاف إلى ذلك انقطاعات الكهرباء والمياه، علاوة على ندرة جميع أنواع السلع، مما يجعل حياة السكان اليومية معقدة للغاية.
تدرك شعوب إيران ذلك أفضل من أي شخص آخر. تمثل الجمهورية الإسلامية دولة رأسمالية ثيوقراطية ورجعية وكارهة للنساء وعنصرية. لا يمت ذلك بصلة إلى مناهضة الإمبريالية. إن سياستها الإقليمية تحركها مصالح كبار المسؤولين في النظام والحرس الثوري الذين اغتنوا على ظهر العمال عبر الاستيلاء على موارد البلد.
إن شعارات النظام الجوفاء مثل «الموت للشيطان الأكبر» أو «الموت للشيطان الأصغر» سخيفة ولا تخدع سوى من يريدون تصديق أن مناهضة الإمبريالية والنضال ضد الدولة الاستعمارية الإسرائيلية قد يتوافقان مع دعم الديكتاتوريات التي تسحق شعوبها.
في الأسابيع المقبلة، يجب أن ندعو بصوت عالٍ إلى وقف الإعدامات وإطلاق سراح جميع المعتقلين/ات السياسيين/ات وسجناء/ات الرأي المحتجزين/ات في زنازين الجمهورية الإسلامية.
يتعين على القوى اليسارية والديمقراطية الاستعداد لدعم الانتفاضات الشعبية المستقبلية التي لن يتأخر اندلاعها في إيران. سيتمثل هدفها على غرار التعبئات السابقة، وخاصة حركة «المرأة، الحياة، الحرية»، في إطاحة الجمهورية الإسلامية. على المناهضين للإمبريالية الثابتين والمناهضين للرأسمالية والثوريين بناء أشكال تضامنية ملموسة مع من يناضلون/ات من أجل حق الشعوب في تقرير المصير، ولتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية. يشكل التضامن مع النساء والشباب والعمال والأقليات الوطنية واللاجئين الأفغان واجباً أخلاقياً وسياسياً لجميع القوى الساعية إلى إنهاء الحروب الإمبريالية والاضطهاد والاستغلال. هذا هو معنى المنشور الأخير الذي أصدره رفاق منظمة التضامن الاشتراكي مع العمال في إيران ووقعته شخصيات ومنظمات نقابية وسياسية وجمعيات عديدة، من بينها الحزب الجديد المناهض للرأسمالية (NPA-L’Anticapitaliste).
مجلة أنتيكابتلاست L'Anticapitaliste عدد 166-167 (نيسان/أبريل-أيار/مايو 2025)