مجلة وموقع تحت مسؤولية المكتب التنفيذي للأممية الرابعة.

قبل ثلاثين سنة رحل عنا إرنست ماندل

بقلم Eduardo Lucita

 حلت يوم الأحد 20 يوليو الذكرى الثلاثون لوفاة إرنست ماندل (1923-1995) ”أكثر اقتصاديي عصرنا إبداعًا “، على حد تعبير الباكستاني طارق علي. هكذا انتهت حياة كاملة مطبوعة بشغف النضال الثوري ونشاط مكثف في بناء المنظمات الماركسية والأممية ذاتها.

تعرفتُ على ماندل متأخراً، قبل وفاته بعامين فقط، عندما استفدت من منصبي كأمين في كلية الفلسفة والآداب بجامعة بوينس آيرس (UBA) ، ودعوناه إلى بلدنا لإلقاء جملة محاضرات. قبل ذلك، عندما أُتيح لي السفر إلى أوروبا في الثمانينيات، لم أستطع رؤيته، وعندما جاء إلى أوروبا بعد سنوات، لم أتمكن من السفر. وبعد سنوات، لما كان في أوروغواي، لم أتمكن من الذهاب إلى عين المكان. لكنني تعاملت معه كثيرًا إبان إقامته في بوينس آيرس، حتى أننا سافرنا معًا إلى البرازيل لحضور نشاط في حرم جامعة ماريليا. كانت صحته قد تدهورت كثيرًا، ولم تُتَحْ لي رؤيته بعد ذلك.

أدركت، في أثناء تلك المحادثات المنتظمة، أنه كان حمل على عاتقه، في مواجهة تشويه الفكر الماركسي على يد الستالينية وأتباعها، مهمةَ نقل مفاهيم الماركسية الأصلية وقيمها إلى أجيال الأكاديميين والمناضلين الجديدة، مؤلفا بإبداع وتفكير مستقل بين إسهامات نظرية ونصوص تثقيفية. وقد أنجز مهمته بنحو جيد، حيث تكوّن آلاف الرفاق والرفيقات في جميع أنحاء العالم بفضل نصوصه ودروسه ومحاضراته، ومن بينهم المستجوب هنا، الذي كان معلمي عن بعد.

أياما قلائل بعد وفاة ماندل، وقعنا، نحن مجموعة رفاق ورفيقات، بحفز من الشعور بأننا مدينون لإرثه، على بيان نُشر في صحيفة Página 12. . وجاء في البيان أن «أي تقييم نقدي لمسيرته السياسية يجب أن ينطلق من الاعتراف بصرامة عمله وحياته، التي جمعت، كأعظم الماركسيين الكلاسيكيين، الالتزام الفكري والتفاني والشغف النضالي من أجل التحويل الاشتراكي لمجتمعاتنا".

ما زلت على هذا الموقف. هذا هو إرثه.

فيما يلي أورد جزءاً من المقابلة مع الرفيق خورخي موراكسيولي Jorge Muracciole بمناسبة مرور 100 عام على ميلاد ماندل.

 

بدايةً، كان ماندل كاتبًا غزير الإنتاج، لكنه ركز بنحو خاص على الاقتصاد. هل تشاطر هذا الرأي؟

نعم، كما قلتَ، كان ماندل كاتبًا نشطًا جدا، غزير الأعمال. أحصى الذين جمعوا أعماله، المترجم كثير منها إلى الإسبانية، حوالي 2000 مقال و 30 كتابًا، بالإضافة إلى مراسلات ضخمة.

بالطبع، يشغلُ الاقتصاد والتاريخ الاقتصاديُّ حيزا كبيرا في إنتاجه. ثمة ثلاثيةٌ أعتقد أنها أساسية لفهم فكره في هذا المجال : - النظرية الاقتصادية الماركسية1 ،كُتب في أوائل الستينيات من القرن الماضي، والتي يمكن القول إنه، بعبارات راهنية جدا، تطويرٌ، بنقد علمي مستند إلى بيانات تجريبية لتلك الحقبة، لأعمال ماركس التي كُتبت في القرن السابق. ثم العصر الثالث للرأسمالية المكتوب بعد عقد من الأول، حيث يعرض تفسيراً للدورة الاقتصادية الطويلة التي شهدتها الرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية، مع توسع تراكم رأس المال وإعادة إنتاجه، والتركيز الاقتصادي، ونمو الإنتاجية، والاستهلاك والعولمة. وأخيراً، هناك نص، لا أتذكر عنوانه، لكنه كتاب يقدم شرحاً مفصلاً ومعمقاً لأزمة الرأسمالية في السبعينيات، التي ختمت موجة النمو المديدة، وطبعت بداية موجة هبوط مستمرة مع بعض التقلبات حتى يومنا هذا. نسيت أيضاً كتاب ”موجات التطور الرأسمالي الطويلة “ الذي يستند إلى نص ليون تروتسكي ”مُنحنى التطور الرأسمالي“.

 

الكتاب الذي لا تتذكره هو بعنوان الأزمة 1974-1978. ثمة، إن صح ظني، طبعة مكسيكية منه من الثمانينيات. لكن كل هذه الأعمال أثارت جدلاً واسعاً. أتذكر الجدل مع ناهويل مورينو حول تطور قوى الإنتاج.

نعم، ذاكرتك أفضل من خاصتي. نعم، كنت أقصد ذلك الكتاب عن أزمة السبعينيات الذي ذكرتَ. بالطبع كان ثمة سجال كثير. دار ذاك المشار إليه مع مورينو، و قد كان حادا جدا، حول وثائق تحضير مؤتمر الأممية الرابعة العاشر، كما قلت، حول مفهوم تطور قوى الإنتاج في الدورة الرأسمالية الطويلة. ما أدى لاحقًا إلى خلافات حول توصيف المرحلة ونوع الحزب المطلوب بناؤه. نعم، كان ماندل مُساجلا مواظبا، لكن فكره كان منفتحاً على أفضل إسهامات عصره، أياً كان مصدرها. كان يفهم النظام الرأسمالي بما هو نظام محكوم بتناقضات، ومؤقتٌ من الناحية التاريخية. وكان في الآن نفسه ناقداً شديداً للستالينية، ولما يسمى بالاشتراكيات القائمة فعلا. لكنه، كان أيضاً ناقداً لا يلين لمن كانوا، ولا يزالون في كثير من الحالات، يعتنقون ماركسية مُغلقَة، ذات رؤية جاهزة للعالم. من هذا المنظور، من المفهوم أنه ناقش شخصيات بارزة في عصره مثل بيتلهايم وسارتر وألتوسير وغيرهم. يجدر أيضا التذكير بالجدل مع أليك نوف Alec Nove حول التخطيط والسوق في المجتمعات الانتقالية، وإسهامه في النقاش الاقتصادي الكبير في كوبا في الأعوام 1962-1964، حيث ناصر أفكار تشي غيفارا التي تعارضت مع مواقف شخصيات بارزة في الحكومة الكوبية آنذاك.

كان ماندل اقتصادياً بارزاً وباحثاً وأستاذاً جامعياً، لكنه لم يُعتبر أبداً ماركسيًا أكاديميًا، كما أنتج جملة أعمال ونصوص موجهة لتكوين المناضلين.

صحيح ما تقول، إذ تتسم أعماله بدقة أكاديمية، وما من مجادل في الأمر، حتى منتقديه، لكنه لم يُبِنْ قط عن إفراط في النزعة الأكاديمية. وقد جمع بين أعماله الاقتصادية ومؤلفات تثقيفية: النظرية اللينينية للتنظيم، ما هي التروتسكية؟، المجالس العمالية، الرقابة العمالية والإدارة الذاتية؛ البيروقراطية؛ إصلاح المقاولة أو الرقابة العمالية، مستقبل العمل البشري. هذه بعض الأعمال التي أتذكرها بسرعة.

 

هل هذا قصدُك لمّا وصفته في بداية المقال بمرجع للماركسية المناضلة؟

نعم، بالطبع، ولا يمكن فهم كل أعماله، مهما كانت دقيقة وأكاديمية، إذا أردنا النظر إليها على هذا النحو، بدون شغفه النضالي. إنها الطريقة الوحيدة لفهم الجمع بين مساهماته النظرية ونصوصه التثقيفية ونشاطه في بناء منظمات ماركسية والأممية ذاتها.

حياته مثال على ذلك. وُلد في أسرة ألمانية، وكان والده من مؤسسي عصبة سبارتاكوس مع روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنخت. وحسب كُتَّاب سيرته، انضم إلى أفكار الاشتراكية بعد قراءة رواية فيكتور هوجو، البؤساء. وانضم في سن الخامسة عشرة إلى حزب العمال الاشتراكي (POS)، فرع الأممية في بلجيكا. وكان له نشاط نضالي كثيف، وتعرض للاعتقال مراراً، ثم تم ترحيله إلى ألمانيا، حيث انضم إلى الكفاح ضد النازيين، وأُسِر، وحُبس في معسكر اعتقال إلى أن أطلق سراحه في عام 1945.

بعد ذلك بوقت وجيز، انتُخب في قيادة حزب العمال الاشتراكي البلجيكي، ثم عُيّن في قيادة الأممية الرابعة إلى جانب الإيطالي ليفيو مايتان - الذي يصادف هذا العام أيضًا مائوية ميلاده - والفرنسي بيير فرانك.

تدمج جميع تحليلاته دورَ الصراع الطبقي في التاريخ. وكان، بتأكيده على المنظور الطبقي ومركزية العمل في المجتمعات الرأسمالية، متقدما عن زمانه بإيلاء أهمية خاصة للحركات الاجتماعية. كان نصيرا لفكرة روزا لوكسمبورغ عن الديمقراطية الاشتراكية ودور الجماهير قياسا بالمنظمات. كان، في سنوات 1960، بنحو ما ”العدو الأزرق“ للديمقراطيات الليبرالية. مُنع من دخول الولايات المتحدة وألمانيا وسويسرا وفرنسا وأستراليا.

في ظهيرة يوم، أثناء إقامته في بوينس آيرس، تناولنا الغداء مع رفيقتينا. في لحظة ما، قال لي إنه ” يساروي معتدل“. نظرتُ إليه مستفسراً، فأكمل قائلاً: ”ثباتٌ في المبادئ والمرونة التكتيكية اللازمة للاستفادة من كل لحظة لدفع الحركة إلى الأمام“.منذئذ، اتخذت هذه الصيغة النضالية شعارًا لي، مؤداها وضوح في التوجه الاستراتيجي ومقدرة كافية على فهم الظروف المتغيرة - ميزان القوى في كل لحظة، والتناقضات والانقسامات في الطبقات السائدة - والتدخل السياسي فيها.

من بين أنشطته الغزيرة، يمكن ذكر تكوين أجيال من المناضلين في جميع أنحاء العالم. في كثير من الحالات، كما في حالتي، كان ذلك تكوينًا عن بعد من خلال قراءة أعماله.

 

أخيرًا، وختاما لهذه المقابلة، كيف يمكنك أن تقيّم بسرعة شخصية مهمة جدًا - ربما الأهم في صفوف مناهضي الستالينية بعد ليون تروتسكي - بالنسبة للأفكار والعمل التغييري لمجتمعاتنا؟

حسنًا، أولاً أود أن أقول إنه كان شغوفًا بما يفعل، ومفعما بتفاؤل لا ينثني. غالبا ما انتُقد بسبب مغالاته في التفاؤل، مغالاة أعتقد أنها موروثة من تروتسكي ذاته. ثم أود أن أشير إلى أن إرنست يحلل بنحو لا نظير له الفترة الذهبية للرأسمالية بين عامي 1945 و1975، واصفا إياها بأنها « عملية فريدة لا تُستبدل». لكن منذ ذلك الحين وحتى اليوم، تغير العالم مرارا. ثمةإعادة هيكلة رأس المال في العقود الأخيرة من القرن الماضي، وصعود النيوليبرالية، وصعود الصين وجنوب شرق آسيا، أزمة 2008، وسلاسل القيمة، والجائحة والحرب، والذكاء الاصطناعي... عالم جديد يتشكل في هذه الحقبة التي يمكن أن نسميها فترة الانتقال الهيمني على نطاق عالمي. ويجب أخذ ذلك في الاعتبار لمعرفة ما هو صالح من أفكار ماندل وما لم يعدْ صالح.

بوينس آيرس، يوليو 2023.

 

المصدر

  • 1

    ماندل إرنست، النظرية الاقتصادية الماركسية(2 أجزاء)، ترجمة جورج طرابيشي،  دار الحقيقة، بيروت،1972

المؤلف - Auteur·es

Eduardo Lucita

Eduardo Lucita est directeur de la revue marxiste Cuadernos del Sur et membre du groupe argentin Economistas de Esquerda (EDI).