مجلة وموقع تحت مسؤولية المكتب التنفيذي للأممية الرابعة.

في انتظار الربيع الروسي

بقلم بوريس كاغارليتسكي
ظهرًا ضد بوتين: أشخاص يصطفون في طابور لدخول مركز اقتراع في اليوم الأخير من الانتخابات الرئاسية في موسكو، روسيا عام 2024. مكسيم شيميتوف / رويترز.

حل الشتاء السياسي الروسي واستقر حتى قبل اندلاع النزاع المسلح مع أوكرانيا، الذي تصفه تلطيفًا الوثائق الرسمية بــــ”العملية العسكرية الخاصة“. فقد أُستُعمِلت جائحة كوفيد-19 في العام 2020 ذريعةً لتقييد حرية الاجتماع بشدة. ثم مدَّدت تعديلات دستورية ولاية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الحاكم من 20 عامًا ، لــــ12 عامًا إضافية، ما جعله فعليًا رئيسًا مدى الحياة.

وبررت الجائحة أيضا تغيير قوانين الانتخابات، بنحو جعل مراقبة التصويت وحساب الأصوات شبه مستحيلين. ومع ذلك، حاول الناخبون في موسكو، في انتخابات مجلس الدوما في خريف عام 2021، انتخاب مرشحين من المعارضة في معظم الدوائر. وكانت هذه الفضيحة في العاصمة غير مقبولة. وتم حل المشكلة بفضل التصويت الإلكتروني عن بُعد (ت.إ.ع.ب).فبمجرد إضافة نتائج هذا التصويت إلى الحصيلة العامة، تم فجأة تجاوز مرشحي المعارضة (غالبا ما كانوا متقدمين بفارق كبير) من قبل مرشحي الحزب الحاكم. وقد استسلمت المعارضة البرلمانية، المعاقبة رسميا، لهذه النتيجة وفقدت كل أهمية سياسية. ولم يعد يُنظر إلى هذه الأحزاب حتى كقناة تتيح للمواطنين التعبير عن استيائهم من سياسات الحكومة.

القمع المنهجي

لم يبقَ سوى المعارضة خارج النظام. كان أليكسي نافالني ممثلها الأكثر تأثيرًا. لكن، سرعان ما دمر قانون قمعي جديد شبكة المكاتب التي أنشأها على صعيد البلد. واعتُقل قادتها، أو أُجبروا على المنفي. أما نافالني نفسه، الذي كان عائدًا من ألمانيا حيث كان يتلقى العلاج بعد محاولة تسميم (مزعومة)، فقد اعتُقل في المطار، وتوفي في الحبس في 16 فبراير 2024. ومؤخرًا، قضت محكمة روسية بأن مجرد ذكر اسم ”أليكسي“ يمكن اعتباره أمارة على التطرف.

وفي إطار حملة القمع الأوسع نطاقًا ضد المعارضة، سُنَّ قانون ”العملاء الأجانب“ سيئ الذكر. يمكن، بموجب هذا القانون، تصنيف أي مواطن روسي، أُعتُبر تحت تأثير خارجي، عميلا أجنبيا دون أي رقابة قضائية. ويُمنع من يتم تصنيفهم على هذا النحو من التدريس في الجامعات العمومية، ومن المشاركة في الحملات الانتخابية، بل ويُخضعون لقيود على الدخل الناجم من أنشطة إبداعية أو تأجير عقارات. ويستمر توسيع نطاق القانون بأشكال حظر وقيود جديدة.

وقد ضغطت السلطات بنشاط على ”العملاء الأجانب“ المعيَّنين كي يهاجروا، في حين اضطر من  بقوا في روسيا إلى الامتثال لمتطلبات بيروقراطية مُهينة عديدة تحت طائلة غرامات وسجن في نهاية المطاف. وفضلا عن ذلك، أُحدِث سجل للإرهابيين والمتطرفين، حيث يمكن تسجيل أي مواطن بقرار إداري بسيط. وبمجرد التسجيل، لا يفقد الأفراد إمكان الوصول إلى حساباتهم المصرفية فحسب، بل يُمنع عليهم أيضًا إجراء معاملات مصرفية، حتى النقدية منها، دون ترخيص خاص.

مع الحرب، عمليات التطهير الممنهجة

بهذا النحو، حتى قبل وصول الدبابات الروسية إلى كييف في 24 فبراير 2022، كان قد تم بالفعل إرساء نظام واسع من إجراءات القمع، ما أدى إلى تجميد حياة البلد السياسية. و استُخدم النزاع المسلح  فقط كذريعة لتضييق الخناق أكثر. وجرى سن عشرات القوانين القمعية الإضافية أو تشديدها. ويُقدّر عدد السجناء السياسيين بما بين بين 1000 و3000 ، برغم أن مؤشرات تدفع إلى اعتقاد أن هذه الأرقام أقل بكثير من الواقع.

أجمعت أحزاب مجلس الدوما على مساندة سياسة الحكومة. بيد أنها تعرضت أيضا لعمليات تطهير ممنهجة. وتم وصف المناضلين والسياسيين المعتبرين غير موثوقين بأنهم عملاء أجانب (مثل أوليغ شين Oleg Shein من حزب روسيا عادلة ويفغيني ستوبين Ievgueni Stoupine من الحزب الشيوعي لفدرالية روسيا). وتم فصلهم من مناصبهم الحزبية، واستبعادهم من القوائم الانتخابية وإجبارهم على مغادرة البلد. التزم كثيرون الصمت خوفًا، لكن حتى هذا لم يضمن دوما سلامتهم.

انهالت موجة عمليات التطهير على الجامعات، ما أدى إلى فصل أساتذة مشتبه في كونهم منشقين. وأغلقت صحف ومجلات ومواقع إلكترونية. وجرت عدة محاولات فاشلة لحجب شبكات التواصل الاجتماعي، لكن الدولة اصطدمت بعقبات تكنولوجية. وبدا أن النزوح الجماعي للأشخاص غير الراضين عن الوضع، بالإضافة إلى هروب الشباب الفارين من التجنيد في خريف 2022، قد وضع حدًا للنشاط المدني المستقل، ما حول البلد إلى صحراء سياسية. هذا على الأقل انطباعُ الوهلة الأولى، لكن تمكن رؤية سيرورات أعمق غالبًا ما تفلت من انتباه المراقبين العرضيين.

المقاومة السرية

يكشف واقع وصول الروس إلى موارد المعارضة على إنترنت عن صورة أشد تعقيدًا. لا يكتفي منتقدو النظام بالقدرة على البث من خارج، على غرار ”الأصوات المعادية“ التي كانت تتسلل سابقا إلى المنازل السوفيتية عبر الراديو. فالمعركة المستمرة حول إنترنت دليلُ وجودِ مقاومة شعبية واسعة النطاق. وكلما جرى إبطاء موقع يوتيوب، أو حجب خدمة أخرى أو شبكة اجتماعية أخرى في روسيا، يقوم عدد لا يحصى من خبراء التكنولوجيا بتطوير مُسرعات وبرامج التفاف على القيود، وكثير منها مجاني كليا.

يشهد عدد السجناء السياسيين المتزايد على تصاعد الاعتراض. وفضلا عن ذلك، تغيرت خصائصهم الاجتماعية والثقافية بنحو جذري. ففي الماضي، كان نموذج السجين السياسي شابًا من الانتلجانسيا، لكن عددا متناميا من السجناء هم اليوم بعمر متوسط، غالبًا ما يكونون أقل تعليمًا ويشتغلون في عمل بدني. وتختلف آراؤهم السياسية بشكل ملحوظ عن آراء المعارضة الليبرالية الحضرية. فهم على سبيل المثال، يميلون إلى النظر ايجابيا إلى الماضي السوفيتي، خاصة سياساته الاجتماعية. وبهذا المعنى، أصبحت حركة الاحتجاج شعبية أكثر وأشد تركيزًا على القضايا الاجتماعية و يسارية أكثر.

حملة ناديجدين

ظهر مؤشر هام على إرادة التغيير لدى المجتمع في يناير 2024، مع حملة ترشيح بوريس ناديجدين1 للرئاسة. وكان مجرد السماح له بجمع توقيعات يشير إلى أن قسما من النخبة الحاكمة حريص بالأقل على الحفاظ على مظهر إجراءات ديمقراطية. كان ناديجدين، برغم اعتدال مواقفه السياسية، يعرض نفسه كـــ"مرشح مناهض للحرب". وقد مثَّل نموُ مكاتب حملته الانتخابية السريعُ على صعيد البلد مفاجأة كبيرة. فقد انتشرت ”كالفطر بعد المطر“، بمشاركة كبيرة من مختلف الجماعات اليسارية. وعندما جمعت حملة ناديجدين 000 300 توقيع - فاقت بكثير الـ 000 100 المطلوبة - تم استبعاده من السباق الانتخابي كما كان متوقعًا. بيد إن هذه الواقعة أبرزت بجلاء وجود إمكانات احتجاج كبيرة في البلد.

وبينما استقبل المنفيون الليبراليون المعارضون حملة ناديجدين بقدر من التشكك في أفضل الأحوال، ساندها إلى حد كبير من بقي في روسيا من المناضلين اليساريين، وإن كان ذلك بشكل نقدي. ومن اللافت للنظر أيضًا أن المنصات اليسارية على إنترنت تسعى جاهدة، برغم من كل المخاطر والتحديات، لمواصلة العمل من روسيا. وهذا غالبا ما يجبرها على حذر أكثر في ما تبدي من انتقادات، لكنه يتيح بقاءها على اتصال مع جمهورها. وحتى وسائل الإعلام الليبرالية القليلة التي ظلت حاضرة في روسيا اضطرت إلى الاعتماد على صحفيين ومعلقين يساريين.

التضامن مع السجناء الروس

كانت المعارضة في المنفى، بعد وفاة نافالني، عرضة للعديد من الفضائح والصراعات. وطبعا، لم يشارك جميع ليبراليي المهجر في هذه الصراعات. فعلى سبيل المثال، ركز فلاديمير كارا-مورزا Vladimir Kara-Murza ، الذي قضى فترة مديدة في السجن، وأُطلق سراحه في أغسطس 2024 في إطار عملية تبادل السجناء بين روسيا والغرب، كل جهوده على دعم السجناء السياسيين الذين ما زالوا في روسيا. ومع ذلك، قلما أسهم المناخ العام بين المنفيين في تعزيز مصداقيته.

وبالمقابل، عزز المناضلون/ت الذين بقوا في روسيا، والمجموعات في الخارج التي حافظت على صلاتها معهم، مناخًا من التضامن والتعاون. وأصبح دعم السجناء السياسيين محورًا أساسيًا لأنشطتهم2. وقام الناس بجمع تبرعات، وإرسال طرود بريدية، وكتابة آلاف الرسائل للتعبير عن تضامنهم مع من هم خلف القضبان. وقد أبرزت تجربة جمع التبرعات للسجناء انبثاق ثقافة مستقلة تعمل دون دعم خارجي، ودون إعانات من الأوليغارشية أو دعم من الدولة.

ذوبان الجليد

يمكننا أن نلاحظ، في استنتاج أول، أن سيرورات كامنة تعيد تشكيل ميزان القوى داخل المجتمع. وعندما يبدأ الربيع السياسي القادم، سيتكشف المشهد الذي تحت الجليد مختلفًا بشكل ملحوظ عن السابق.

ولكن هل ثمة باعث على الأمل في بزوغ ربيع، وأكثر من ذلك هل من داع أكبر للأمل في أن يبزغ عما قريب ؟ يبدو أن هكذا أمل قائم.

لم يكن صعود الاستبداد في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين مصادفة، ولا نتيجة لإرادة قدامى من الأجهزة الأمنية استولوا على مناصب رئيسية في الدولة. بل على العكس، لم يكن تصعيد النزاع مع أوكرانيا، والزحف على كييف في عام 2022، بدافع التوترات الدولية فحسب، بل أيضًا التناقضات الداخلية. إذ كان مأمولا أن تؤدي ”حرب ظافرةٌ صغيرةٌ“ إلى توطيد المجتمع، على غرار ضم شبه جزيرة القرم في العام 2014. ولكن برغم أن هذا النصر كان سريعًا وغير دموي، سارت الأحداث هذه المرة بشكل مغاير تمامًا. فالحرب لم تحل أياً من مشاكل روسيا القائمة فحسب، بل خلقت مشاكل جديدة. فقد أتاح الصراع للحكومة تأخير إصلاحات طال انتظارها إلى أجل غير مسمى، لكن التناقضات والتوترات إنما تراكمت، حتى داخل النخبة الحاكمة.

حدود اقتصاد الحرب

بالطبع، استفاد كثيرون من الحرب في أوكرانيا ومن الصفقات العسكرية، لكن قطاعات الاقتصاد المدنية تضررت. وبالموازاة، يطرح احتمال التوصل إلى اتفاق سلام وشيك تحدياتٍ جديدةً كبيرة. لم يحدث انهيار الاقتصاد الروسي بفعل العقوبات، بل إنه يُبدي نموًا ملحوظًا، لكنه أصبح متناقضًا بشكل متزايد. ولم يؤدِ تقليص الروابط مع الغرب إلى إعادة توجيه متماسكة نحو الشركاء التجاريين من دول البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا). وأصبح هذا واضحًا بشكل خاص عندما خفضت الصين والهند مشترياتهما من النفط الروسي، ما يؤكد حقيقة أنه ما عدا صادرات المواد الخام ليس لدى الشركات الروسية سوى القليل لتقدمه للأسواق العالمية.

وفي الوقت ذاته، تتقلص القطاعات ذات الأهمية الاجتماعية بسرعة، وبات الإنفاق العسكري محرك النمو الاقتصادي الرئيسي. لكن إبقاء مستوى الإنفاق الدفاعي هذا بعد وقف إطلاق النار سيكون صعبًا، ليس ماليا وحسب، بل حتى سياسيا. وترتكز مكافحة التضخم على رفع البنك المركزي سعر الفائدة الرئيسي، ما يجعل الائتمان غير متاح لقسم كبير من قطاع الأعمال، ويخنق الطلب غير العسكري. ويبدو جليا باطراد أن انتقالا إلى تنمية سلمية سيتطلب إعادة توزيع كثيفة للموارد، وتغييرًا في الأولويات والمقاربات، الأمر المستحيل دون تغيير جذري في عمليات صنع القرار. وبالتالي فإنه لا مفر من تغيير سياسي.

وحتى قسم كبير من النخبة الحاكمة بدأ يستوعب هذه الحقيقة. ربما تحلم غالبية المجتمع والطبقة الحاكمة بالعودة إلى الأيام ”السعيدة“ للعام 2019، ولكن للأسف هذا مستحيل – بسبب تطور المشهد الجيوسياسي المتغير في ظل حكم ترامب، والصعوبات الاقتصادية والإرهاق العميق المتراكم في جميع طبقات المجتمع بعد ”عهد بوتين المديد“. هذه العوامل مجتمعة لا تجعل التغيير منتظرا من أمد بعيد وحسب، بل حتميًا أيضًا.

المستقبل سينبثق من السجون

إن كان بوسع اتفاقات السلام أن تخفف التوترات العالمية، فلن تحل مشاكل روسيا الداخلية؛ بل على العكس ستفاقمها (ما يفسر جزئياً  حجم المصاعب المعترضة عملية السلام ذاتها). إن التغيير سائر؛ والسؤال الوحيد هو ما هي المصالح التي ستشكله وعلى أي مبادئ ستُصاغ الأولويات الجديدة.

تستدعي التناقضات الاجتماعية والاقتصادية حلولاً سياسية. لم تفلح حملة قمع  الفترة 2020-2024 سوى في تجميد الوضع مؤقتًا، ولكنها خلقت أيضًا ظروفًا جديدة ستؤثر حتمًا على التطورات المستقبلية. وكما أشار المدون اليساري الشهير قسطنطين سيومين Konstantin Syomin في العام 2023، باتت مطالب المشاركة السياسية تمر عبر نظام السجون. لن يقدر المنفيون الليبراليون ولا البيروقراطيون الحاليون على صياغة أفكار جديدة لتطوير البلد؛ فهم لا يزالون سجناء الماضي.

عندما سيبدأ التغيير، سيقترح المجتمع نفسه قادة جُددا. بعضهم موجود حاليًا في الخنادق في أوكرانيا، وبعض الآخر يحاول دعم المبادرات المحلية، أو الحفاظ على بقايا وسائل الإعلام المستقلة. وقد يجد السجناء السياسيون اليوم أنفسهم في طليعة الجهود الرامية إلى بناء مؤسسات اجتماعية جديدة، وتخليص إسطبلات أوجياس من المشكلات المتراكمة. إنهم مستعدون للعمل من أجل تغيير بلدهم والعالم.لكنهم في الوقت الراهن أحوج في المقام الأول إلى الدعم والتضامن. بعد ذلك، ستتبع الأحداث مسارها الطبيعي.والطريقة التي يحدث بها ذلك معروفة جيدًا من التاريخ الروسي.

18 فبراير 2025

  • 1

    « Russia: Boris Kagarlitsky on the Nadezhdin phenomenon », Boris Kagarlitsky, 23 janvier 2024, Links.

  • 2

    « Boris Kagarlitsky : “Une lettre de prison sur la situation de la gauche russe” », Boris Kagarlitsky, le 7 avril 2024, Inprecorhttps://inprecor.fr/node/4402

المؤلف - Auteur·es

بوريس كاغارليتسكي

أرسل هذا المقال بوريس كاغارليتسكي، وهو مناضل اشتراكي، وسجين سياسي روسي مناهض للحرب، من مستعمرة تورزوك العقابية في روسيا، حيث يقضي عقوبة بالسجن لمدة خمس سنوات بتهمة ”تبرير الإرهاب“