مجلة وموقع تحت مسؤولية المكتب التنفيذي للأممية الرابعة.

الفوضى القادمة؟ الإمبريالية الأمريكية تحت حكم ترامب 2.0

بقلم ديفيد فينكل

للوهلة الأولى، يتيح النشر الحر على وسائل التواصل الاجتماعي، والوصول غير المحدود إلى الميكروفونات، لدونالد ترامب جميع فرص جعل نفسه موضع سخرية - وهو يستفيد من ذلك بالكامل. ويبقى السؤال المثير لتعليقات ونقاشات عدة بشأن ما إذا كانت خرافاته حول ضم كندا، وغرينلاند، وقناة بنما مقلقة في حد ذاتها، أو ما إذا كانت مجرد ستار دخاني يهدف إلى إخفاء مشاريع إمبريالية أعمق وأكثر ظلمة.  

يمتاز دونالد ترامب بقدرته على إعلان أي شيء، حتى لو كان سخيفًا، لدرجة إنتاجه تمثيلية هزلية عن نفسه، دون أن يتعرض لأي ضرر سياسي. هذا تأمل في الحالة الراهنة للسياسة الأمريكية والتنظيم الصنمي الذي أصبح عليه الحزب الجمهوري - مع ما قد يترتب على ذلك من تداعيات زعزعة استقرار عميقة على النظام السياسي في البلد، الذي خدم نخبها لفترة طويلة وبشكل جيد - لكن هذا نقاش آخر.

هذيان ترامب

حتى ترامب لا يمكنه تغيير حقيقة أننا في عام 2025 - وليس عام 1825، أي القرن الذي سعت فيه الولايات المتحدة الوليدة للاستيلاء على أكبر قدر ممكن من أمريكا الشمالية ومنطقة البحر الكاريبي. في الواقع، تمت تسوية مسألة احتلال كندا إبان حرب 1812، حيث كانت الولايات المتحدة تأمل في الاستيلاء على كندا بينما سعت بريطانيا إلى منع التوسع الأمريكي غربًا (إذ تعلم كلا الجانبين درسا مفاده أنه "لا يمكن دائمًا الحصول على ما تريد").

وبقراءة عقلانية، قدر الإمكان، يعبر هذيان ترامب عن أولويتين أساسيتين ربما تتعارضان أحيانًا. أولاهما القومية الاقتصادية، وهي وجهة نظر تبسيطية مفادها أن الولايات المتحدة "تدعم" اقتصادات دول أخرى عبر عجزها التجاري وإنفاقها الدفاعي، وأن هذه الأعباء غير العادلة يجب أن تعوضها الرسوم الجمركية والتهديدات المتطرفة.

أما السبب الثاني فهو التنافس الجيوسياسي الإمبريالي المتزايد بين الولايات المتحدة والصين، والذي يشمل هوس ترامب إزاء الوصول المفضل المزعوم للصين إلى قناة بنما، والأهمية المتزايدة للقطب الشمالي بالنسبة للشحن الدولي والمواد الخام، وهو ما يفسر رغبة ترامب في غرينلاند وكندا "من أجل أمننا القومي".

ربما يعتقد أن إيلون ماسك سيوفر المال اللازم "لشراء" غرينلاند، بغض النظر عن رأي سكان الإقليم، الذين يطالب الكثير منهم بالاستقلال، ناهيك عن الدنمارك، صاحبة المستعمرات الحالية، والتي يصادف أنها حليف استراتيجي رئيسي لحلف الناتو في المنطقة.

وبغض النظر عن هذا الطموح الاستعماري شبه الهزلي الذي يتسم بالكوميديا، فإن التزام ترامب بفرض رسوم جمركية بنسبة 25% على جميع الواردات من كندا يشكل تهديدًا بالغًا لاقتصاد ذلك البلد، ولا سيما قطاع صناعة السيارات، ناهيك عن الضرر الذي سيلحقه ذلك بالولايات المتحدة نفسها.

مستقبل كندا

في الوقت الذي تمر فيه كندا بمرحلة سياسية انتقالية متصدعة - مع استقالة رئيس الوزراء الليبرالي جاستن ترودو الذي لا يحظى بشعبية كبيرة، والانتخابات المزمع إجراؤها في الأشهر القليلة المقبلة والتي يرجح أن تجلب حزب المحافظين اليميني إلى السلطة، وربما حتى حصول حزب كيبيك السيادي على صفة ”المعارضة الرسمية“ في البرلمان الكندي - تشعر النخب في البلاد بذعر حقيقي إزاء كيفية دفاع كندا عن نفسها ضد هياج تعريفات ترامب الجمركية.

بينما قد تفاقم الأضرار التي ستلحق بكندا مخاوفها المزمنة بشأن "الوحدة الوطنية"، من الممكن أيضًا أن يحقق ترامب ما لا يمكن لأي سياسي كندي أن يأمل في تحقيقه: توحيد الفصائل السياسية والإقليمية في جبهة موحدة ضد التهديد الأمريكي، في شكل رسوم جمركية مضادة وربما ضرائب تصدير باهظة على إمدادات كندا الحيوية من الطاقة والمعادن التي يحتاجها الاقتصاد الأمريكي نفسه بشدة.

ليس سهلاً التنبؤ بالنتيجة. كما أننا لا نعلم ما إذا كانت كندا والمكسيك ستشكلان جبهة تفاوضية تجارية مشتركة، أو ما إذا كانت المكسيك ستترك لمواجهة العملاق الشمالي وحدها، كما يقترح بعض السياسيين الكنديين المغرضين.

أزمات عالمية مستعصية الحلّ

ومن المرجح أن يركز ترامب وإدارته على مواجهة الصين بالنظر إلى تفضيلاتهم، مثلما حاول الرئيسان السابقان بايدن وأوباما أيضًا. ولكن حتى الرئاسة الأمريكية الإمبريالية مضطرة للتعامل مع العالم كما هو. فالأزمات متداخلة ولا يمكن ضبطها بسهولة.

إن وعود ترامب بانهاء سريع للحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط "في غضون 24 ساعة" لا معنى لها بالطبع. فالأرجح أن تكون الإدارة منقسمة بحدة منذ البداية بين أشباه الانعزاليين (والقوميين المسيحيين المتعاطفين مع بوتين) مثل جي دي فانس، الذي يُجاهر بعدم اكتراثه بما يحدث لأوكرانيا، وبين دعاة الحرب من المحافظين الجدد، مثل وزير الخارجية المستقبلي ماركو روبيو، الذي يعتبر روسيا تهديدا في خدمة طموحات الصين الأوسع نطاقاً.

وبينما قد ينادي ترامب، وبعض الليبراليين اليساريين ذوي النوايا الحسنة (أو غير الحسنة)، بالتوصل إلى "صفقة" عن طريق التفاوض لإنهاء الحرب، فالحقيقة أن أوكرانيا ليس لديها "خطة بديلة" لأن الاستسلام يعني الإخضاع، وشروط بوتين تشمل ضم روسيا لكل ما استولت عليه ومنع أوكرانيا من طلب الحماية الدولية. ومما لا شك فيه أن بوتين يرى في ترامب شخصية يسهل التلاعب بها وضعيفة في نهاية المطاف خلف واجهة الرجل المسيطر.

صحيح أن ترامب يعارض بشكل واضح تقديم المزيد من المساعدات لأوكرانيا، إلا أنه لا يستطيع تحمل "خسارة" أوكرانيا بطريقة تذكرنا بكارثة بايدن في أفغانستان. وجلي أيضًا أن المشروع الإمبريالي الأمريكي الأوسع نطاقًا، والذي يشمل المواجهة مع الصين، يتطلب حلف شمال الأطلسي وعلاقات أمريكية قوية مع الحلفاء، بصرف النظر عن تهديدات ترامب المنمقة.

أصدقاء ترامب الصهاينة

من ناحية أخرى، ليس ثمة سبب لاعتقاد أن لدى ترامب، وقاعدة الجمهوريين القومية الصهيونية المسيحية البيضاء، أي هواجس أخلاقية أو سياسية بشأن الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة والتطهير العرقي المتفشي في الضفة الغربية، وكلاهما سيستمر وربما يتصاعد.  وبالنظر إلى أن النخب العربية في المنطقة غير مكترثة بمحنة الفلسطينيين وآراء شعوبها على حد سواء، فإن سياسة الولايات المتحدة تجاه حرب إسرائيل على فلسطين لن تتغير كثيرًا، إن هي تغيرت أصلاً، حتى لو قامت إسرائيل بضم الضفة الغربية رسميًا، وهو أمر واقع على الأرض بالفعل.

سيكون السؤال الكبير، والأزمة المحتملة لسياسة ترامب، هو ما إذا كان سيشجع أو يدعم بشكل مباشر حلم رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بالحرب مع إيران. تلقى هذه الفكرة صدى قويًا لدى المحافظين الجدد الأمريكيين. إنها تتعارض مع أحد دوافع ترامب، وهو تجنب مستنقع حروب "تغيير النظام"، ولكنها تتزامن مع دافع آخر، وهو رغبته في أن يكون الرجل الذي يعيد تنظيم العالم والسيطرة عليه.

ما من شك أن السنة الماضية كانت سنة انتصار للقوة الأمريكية في الشرق الأوسط، لكنها جلبت معها جملة مخاطر. فمع القضاء على قوة إيران الإقليمية خلال الخمسة عشر شهرًا التي تلت 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، فإن احتمال احتلال إيران أو تفتيت المنطقة أمر مرعب بالنسبة لـ "المفكرين الاستراتيجيين"الإمبرياليين العقلانيين، في أعقاب ما حدث في العراق بعد عام 2003. ويصح هذا الأمر بشكل أكبر بالنظر إلى أن مستقبل سوريا في حالة من الضياع بعد الإطاحة بسلالة الأسد الوحشية.

في آسيا

ومن الوارد أيضاً، وإن كان ذلك أقل احتمالاً نظراً للصعوبات الاقتصادية الداخلية التي تواجهها الصين، أن يعجل النظام الصيني بأزمة عالمية كبيرة بمهاجمة تايوان مباشرة، وهي الإقليم يحظى بحكم ذاتي تعهدت الولايات المتحدة بالدفاع عنه. ومن شأن هذا أن يغير جميع الافتراضات السياسية حول منطقة آسيا والمحيط الهادئ؛ فنحن لا ندري ما هي العواقب المحتملة، ومن الأفضل ألا نرى ذلك...

ثمة ظواهر وأزمات معقدة أخرى لم يجرِ التنبؤ بها بعد، لكن كثيرا منها سيدور حول مسألة هل ستدير إدارة ترامب العلاقات مع حلفاء أميركا الاستراتيجيين بطريقة إمبريالية عادية إلى حد ما، أو أن العلاقات التقليدية هي ما سيطغى على سطح المزايدات الرئاسية، أم أن هناك قطيعة حقيقية تضع "أميركا أولاً" في مقدمة شبكة التحالفات التي قامت عليها ثمانية عقود من "القيادة الأميركية العالمية".

إنكار لتغير المناخ وإنتاجوية

لا بد من الإشارة إلى نقطتين أخيرتين. أولاً، كل هذا يحدث في سياق كارثة بيئية عالمية تكفل أن السنوات الأربع المقبلة وما بعدها ستشهد كوارث على نطاق يصعب علينا تخيلها اليوم، حتى في ضوء حرائق لوس أنجلوس. إن الهاوية الماثلة أمامنا بالكاد تكون أكثر جلاء.

فبسبب إنكاره للتغير المناخي وتعهده بـ "الحفر والتنقيب" فإن ترامب ملتزم بالطبع باستعادة هيمنة الولايات المتحدة في السباق نحو الانهيار الحضاري. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن سنوات حكم بايدن هي التي أوصلت الولايات المتحدة إلى قمة قائمة إنتاج النفط في العالم.

لا ينبغي لأحد أن يندم على رحيل البائس جو بايدن. إن "إرثه الرئاسي"، قبل أي شيء آخر، هو الإبادة الجماعية في غزة، والتي، بصراحة، كانت صادمة تمامًا، حتى بالنسبة لمن اعتقد منا أنه لم يبق لدينا أوهام كثيرة حول ما يمكن أن تفعله الإمبريالية وعملاؤها بشعوب العالم. لهذا السبب نظر الكثير من الجالية العربية الأمريكية، التي ليس لديها أوهام بشأن التهديد الذي يمثله ترامب، إلى بايدن بالازدراء الذي اجتهد في استحقاقه.

ترجمة لوران كروز

المؤلف - Auteur·es

ديفيد فينكل

ديفيد فينكل : رئيس تحرير مجلة«Against the Current»، وعضو في اللجنة الوطنية لـ«Solidarity»، وناشط في«Jewish Voice for Peace».