
نتجت هزيمة كامالا هاريس، أمام دونالد ترامب، إلى حد كبير عن تراجع دعم النقابيين العماليين والأمريكيين من أصل أفريقي واللاتينيين للمرشحة الديمقراطية، الأمر الموحي بتراجع الوعي الطبقي وتضامن الطبقة العاملة، وتعزز الهويات الذكورية والعرقية البيضاء.
هذه النتائج صادمة، ليس بسبب عداء ترامب للنقابات العمالية وما تواجه الطبقة العاملة من مصاعب، وعنصريته العلنية وتحيزه الجنسي وحسب، بل حتى لأن هذه المجموعات كانت منذ أمد طويل جزءًا من قاعدة الحزب الديمقراطي الانتخابية.
طبعا، لا تقيس الانتخابات الآراء السياسية والهويات الاجتماعية إلا بنحو ناقص، لا سيما في الولايات المتحدة. ومع سيطرة المصالح المالية على الحزبين الرئيسيين،فإن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في الشمال حيث ينعدم حزب عمالي جماهيري، اشتراكي أو شيوعي مرتبط بالنقابات العمالية. وهذا يعني أن الانتخابات تعكس الديناميات الطبقية بشكل أقل وضوحًا مما تفعل في الأنظمة البرلمانية الأخرى متعددة الأحزاب. يصوت الناخبون، من جميع الطبقات والأعراق والجندر، لأسباب متنوعة. وتتنافس عدة هويات اجتماعية لتحديد التصويت. على سبيل المثال، هل يكون التصويت للجمهوريين بدافع انتماء إلى الكاثوليك ومعارضة الإجهاض، أم للديمقراطيين بفعل انتماء إلى الطبقة العاملة واعتقاد أنهم يمثلون مصالح الشغيلة بنحو أفضل، أم بدافع انتماء إلى الملونين، كما تفعل معظم الأقليات المصنفة عرقيا منذ عقود؟ والأمر الأساسي أكثر أن نظام الحزبين يستتبع أن المنتخبين الخارجين من أي من الحزبين يعانون من عواقب الأوضاع غير الشعبية، مثل ارتفاع الأسعار، بينما يستفيد المعارض من هذه الأوضاع، كما جرى في هذه الانتخابات. ثمة حاجة إلى دراسات دقيقة تتوخى الدقة والتمحيص لفهم سبب تحول الناخبين من المجموعات التي لا تصوت تقليديًا للجمهوريين إلى ترامب. وبغض النظر عن هذه المحاذير، تشير بعض البيانات السكانية حول التصويت إلى وجود ميول ملحوظة.
تفكك تحالف الحزب الديمقراطي
جلي أننا نشهد مزيدًا من تدهور في ما تبقى من التحالف الكبير للحزب الديمقراطي من العمال والأميركيين من أصل أفريقي الذي أرساه فرانكلين ديلانو روزفلت في ثلاثينيات القرن الماضي. كان اتجاه عام يربط ناخبي الطبقة العاملة، معظمهم من النقابات، والأمريكيين من أصل أفريقي والأقليات العرقية البيضاء1 بالحزب الديمقراطي في تحالف نيو ديل، بينما كان يُنظر إلى الحزب الجمهوري على أنه حزب رجال الأعمال والأغنياء والبلدات الصغيرة والمناطق الريفية. بدأ تفكك تحالف نيو ديل في سنوات الثمانينيات، مع تخلي العمال البيض عن الحزب الديمقراطي لصالح الحزب الجمهوري. وقد عكست انتخابات 2024 تسارعًا حادًا لهذه السيرورة. أصبح من الصعب بشكل متزايد إيجاد تماسك في التصويت الطبقي في الانتخابات الأمريكية الأخيرة. وجلي أن تغيرات الوعي والسلوك الانتخابي لا تحدث في فراغ. إن تخلي قطاع من الطبقة العاملة من جميع الأعراق وصنوف الجندر لصالح الحزب الجمهوري على مدى عقود من الزمن، قد غذاه تبني الحزب الديمقراطي للتقشف النيوليبرالي وفشله في الاستجابة لتطلعات الطبقة العاملة.
تأكد بالدليل أن الهويات العرقية والجندرية قد أزاحت الاعتبارات الطبقية بين قطاعات من الطبقة العاملة والجماعات المصنفة عرقياً. وبقدر ما كان التصويت للديمقراطيين يمثل وعيًا طبقيًا مشوهًا، وارتباط ترامب بقوة بطبقة أرباب العمل الأثرياء، يمثل تصويت الطبقة العاملة لترامب تراجعًا مذهلًا في الوعي الطبقي. والحال معظم النقابات ما زالت في معسكر الديمقراطيين، وقد ساندت هاريس رسميًا. على هذا النحو، لم يصوّت أعضاء الطبقة العاملة بشكل عام لشخصية مناهضة للنقابات علنا، ومرتبطة بشكل وثيق بالطبقة الرأسمالية فحسب، بل إن نسبة كبيرة من الـ 10% من القوى العاملة المنظمة في النقابات قد فعلت ذلك أيضًا، وفي معظم الحالات ضد موقف نقابتهم الرسمي. وقد كان لهجمات ترامب وفانس الشرسة على المهاجرين، والتي غالبًا ما تكون مفعمة بالعنصرية، صدى لدى قطاعات من الطبقة العاملة والفئات المضطهدة الحساسة للبحث عن كبش فداء. يُضاف إلى ذلك التأثر بالتصريحات الحمائية المرتبطة بالخوف من ”المنافسة الأجنبية“، وبشكل أعم، تدهور الوعي الاجتماعي الناجم عن الهجمات النيوليبرالية على الخدمات الاجتماعية. وقد غذت هذه العوامل احتداد الهويات الاجتماعية المنافسة مثل العرق/الإثنية والجندر بنحو متعارض مع التضامن الاجتماعي عوض تعزيزه. جلي أن هذه العناصر كلها لعبت دورًا.
الجندر والعرق في عصر ترامب
منذ عقود، كان الأمريكيون من أصل أفريقي موالين بشكل خاص لتحالف الحزب الديمقراطي. وحتى عهد قريب، كان أكثر من 90% من الناخبين السود يصوتون له. غير أنه، في انتخابات 2024، صوّت 24% من الرجال السود لصالح ترامب (مقابل بـ 9% من النساء السود). وقد صوت الرجال السود لهاريس في عام 2024 أقل من تصويتهم لبايدن في عام 2020. وكان لذلك دور حاسم في هزيمة هاريس في المناطق الحضرية في ولايات 2024 الرئيسية، الديمقراطية جدا سابقا، مثل فيلادلفيا في بنسلفانيا وميلووكي في ويسكونسن. وبالمثل، صوّت زهاء 40% من اللاتينيين لترامب (مقارنةً بنسبة 30-33% للجمهوري جورج دبليو بوش في عام 2004) - و47% من الرجال اللاتينيين.
وقد قادت الغرائز الرجعية ترامب إلى تبني ”ثقافة الأخوة“، المحتفية بسلوك الرجال المتحيز ضد النساء. لقيت هذه الرسالة صدى لدى رجال جميع الفئات العرقية والطبقات الاجتماعية، ولكن تأكد أنها تحظى بقبول خاص لدى رجال الجماعات الملونة. ويعبر هذا عن تراجع الوعي النسوي بشكل عام. تحولت الحركة النسائية، بعد انتصارات السبعينيات، من العمل الجماهيري إلى النشاط التشريعي والانتخابي، ما أدى في نهاية المطاف إلى تراجع قوتها، ومن ثم تراجع الوعي النسوي بشكل عام. من المحتمل جدًا أن بعض الرجال، ممن كانوا سيصوتون لديمقراطي رجل، قد صوتوا لجمهوري في انتخابات 2024 ، أو لم يصوتوا على الإطلاق، عوض التصويت لامرأة، حتى لو كانت ديمقراطية. وبالتالي فإن المواقف المتحيزة جنسياً لبعض الرجال، من جميع الفئات العرقية والطبقات الاجتماعية، لعبت بالتأكيد دوراً في هزيمة هيلاري كلينتون في عام 2016 وكامالا هاريس في عام 2024، وهما المرأتان الوحيدتان اللتان كانتا مرشحتين للرئاسة عن حزب كبير.
مأزق الشعبوية القائمة على العنصرية والميز الجنسي
يستمد ترامب قسما كبيرا من المساندة من القطاعات المحافظة من الطبقة السائدة والناخبين/ت من الطبقة العاملة الذين لم يحصلوا على تعليم عالٍ. ولكن، لا يمكن بطبيعة الحال لحكومته أن تخدم سوى طبقة واحدة، و هي بلا شك طبقة الـ 1%. ولن ينجم عن شعبويته العنصرية المعادية للمهاجرين سوى صرف الانتباه عن المشاكل الحقيقية التي تواجهها الجماهير الشعبية في الولايات المتحدة منذ أمد بعيد.
وعندما تفشل سياساته المتمثلة في التخفيضات الضريبية وزيادة التعريفات الجمركية، وكذا اتخاذه المهاجرين والمتحولين جنسيًا كبش فداء، في معالجة المشاكل المادية الملحة التي يعاني منها العمال - لا سيما ارتفاع الأسعار وركود الأجور، بينما يستفيد الأغنياء من المزيد من التخفيضات الضريبية – سيتآكل ما يحظى به من دعم . إن الهجمات النيوليبرالية على مستوى معيشة الطبقة العاملة، والتي ساهمت في تفتيت وعيها ووحدتها وتضامنها، ستحفز النضالات التي تؤدي إلى وحدة الطبقة العاملة في العمل، وإعادة بناء التضامنات.
يؤدي غياب حزب عمالي أو اشتراكي جماهيري إلى غياب رد فعال على التدفق المستمر للخطاب العنصري والمعادي للمهاجرين ومجتمع المين-عين، القادم من يمين ”ماغا2 “ والذي يضخمه حلفاء ترامب ماسك وزوكربيرغ بواسطة سيطرتهم على فيسبوك وإكس. ومن شأن حزب عمالي أو اشتراكي جماهيري أن يقدم بديلًا لعنصريتهم وتمييزهم الجنسي والقومية البيضاء، وكذلك التقشف النيوليبرالي للديمقراطيين والجمهوريين، وسيعزز بذلك الوعي الطبقي والتضامن متجاوزا الانقسامات العرقية والجندرية. ويظل بناء هذا الحزب أمرًا محوريًا لأي إمكانية حقيقية للتغيير الاجتماعي التقدمي في وقت حيث الكارثة المناخية المحدقة، وحيث المكاسب الديمقراطية الأساسية للعاملين/ت والمضطهدين/ت مهددة.
أصدر ترامب، كما وعد، في أيامه الأولى رئيسا، عددًا من الأوامر التنفيذية المستهدفة للمهاجرين، ومجتمع الميم-عين، وكذا مبادرات التنوع والمساواة والإدماج. وسيؤدي ذلك إلى إلغاء الحماية ضد أشكال التمييز إزاء الأقليات العرقية ومجتمع الميم-عين والأشخاص ذوي الإعاقة، وإلغاء الضوابط على سلامة الشغيلة والبيئة. ومن المؤكد أن مراسيم مناهضة للنقابات ستتبع ذلك قريبًا. وستحتاج الحركات العمالية والنسائية وحركات المهاجرين والسود والحركات البيئية إلى النهل من أفضل تقاليد النضال الجماهيري والتضامن لمواجهة ترامب وطبقة رجال الأعمال التي شجعتها سياساته المناهضة للتقنينات وللنقابات.
2 فبراير 2025