
غذى فوز ترامب الوجيز في انتخابات الرئاسة الأمريكية في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 التكهّنات حول احتمال انجراف الولايات المتحدة صوب الاستبداد بل وحتى الفاشية. وبرغم أن المناقشة المعمقة وتعريف الفاشية يتجاوزان نطاق هذا المقال، وأن رئاسة ترامب لم يمضِ عليها سوى أسبوع واحد فقط وقت كتابة هذا المقال، فإن سيل المراسيم الرئاسية الصادرة فعلاً يعطي مؤشراً عما ينتظرنا.
تروم معظم هذه المراسيم، كما هو متوقع - وتلك التي ستصدر لاحقًا - المهاجرين، ومجتمع الميم-عين والنساء، وقوانين حماية البيئة، والمجتمعات الملونة والمنظمات العمالية والتقدمية، مع تبليغ الـ 1% بإمكان استفادته من التخفيضات الضريبية ومن تقليص القوانين السارية في مجال سلامة العمال وحماية البيئة. ويبدو أن بعضها كان مصمماً جزئياً لاختبار ولاء حلفائه ومؤسسات الدولة، مثل العفو وتخفيف الأحكام الصادرة في حق جميع متمردي 6 يناير، بمن فيهم المدانون بارتكاب هجمات عنيفة على غرار رجال الشرطة الذين كانوا يدافعون عن مبنى الكابيتول.
جلي أن ترامب زعيم يميني وديكتاتور بالقوة، وأنه ينوي توسيع سلطة الرئاسة إلى أقصى حد ممكن. لكن ينبغي ألا يحجب التوجه السلطوي واليميني المتطرف، البارز لدى ترامب ومعاونيه، أوجه القطيعة والاستمرارية مع الأيديولوجية والممارسات الرأسمالية المعاصرة. والواقع أن الخط الفاصل بين السياسات الرأسمالية المحافظة والفاشية ليس واضحًا دائمًا. فعداء ترامب حيال الضمانات والتوجيهات المتعلقة بحماية حقوق البيئة والعمل والمستهلكين يضعه تماماً في حظيرة السوق الحرة النيوليبرالية. فقد ألغي ترامب في الساعات الأربع والعشرين الأولى من رئاسته عشرات القوانين، وجرت الاستعاضة عن المفتشين العامين المسؤولين عن تطبيق القوانين الحكومية بموظفين من أنصاره. كما تم وضع جميع الوكلاء الفيدراليين المكلفين بالتنوع والمساواة والشمول في إجازة (DEI)، تمهيدًا لإلغاء مناصبهم ووظائفهم.
حمائي أم ليبرالي؟
وقد سحب ترامب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية، ومن اتفاقات باريس بشأن تغير المناخ، وأجاز تكثيف التنقيب عن النفط. وتمثل هجمات ترامب على المهاجرين، وتهديده بترحيلهم، سمة من سمات برنامجه منذ رئاسته الأولى، عندما وعد ببناء جدار على طول حدود المكسيك لردع الهجرة. لكن تجدر الإشارة إلى أن معاملات لاإنسانية للاجئين/ت قد جرت من قبل الحكومات اليمينية والاشتراكيين-الديمقراطيين في أوروبا وأماكن أخرى، وأن إدارة أوباما رحلت مهاجرين أكثر من سلفه الجمهوري المحافظ جورج د. بليو بوش.
وفي الآن ذاته، فإن الحمائية التي أعلنها ترامب ملء جفونه، وتهديداته بفرض رسوم جمركية تصل إلى 25% على المنتجات المستوردة من المكسيك والصين، تضعه في موقف حرج مع التجارة الحرة النيوليبرالية. ويكشف هذا التناقض عن شكل من أشكال الرأسمالية العدوانية والمتصلبة حيال حلفائها، الذي طالما اعتبرهم الرؤساء الأمريكيون والحزبان المتناوبان شركاء للولايات المتحدة، لكنهم أصبحوا الآن منافسين. كانت النزعة الحمائية والقومية الاقتصادية والشوفينية مرتطبة دوما، لكن رؤية ترامب تذهب أبعد من ذلك بكثير، وتروم إعادة تشكيل النظام الرأسمالي العالمي بما يعود بالنفع على الولايات المتحدة أكثر. وهذا ما يفسر أيضًا التناقض الجلي بين نزعة ترامب الانعزالية وتهديداته باللجوء للقوة العسكرية، وهي نسخة جديدة من السياسة الواقعية1.
كان الرؤساء الأمريكيون، منذ أمد بعيد، شخصيات من رأس المال المالي والصناعي كمستشارين وممثلين لهم، لكن ترامب أحاط نفسه بديوان كبير من الرأسماليين فاحشي الثراء مثل، إلون ماسك Elon Musk ومارك زوكربيرغ Mark Zuckerberg وجيف بيزوس Jeff Bezos، وهم ثلاثة من أغنى أثريا العالم. ويحظى ماسك ، أغنى رجل في العالم، والذي خاطب مؤخرًا الحزب الفاشي” البديل من أجل ألمانيا “ معلنًا أنه ”أفضل أمل“ لهذا البلد، بدور رسمي. يسيطر ماسك وزوكربيرغ، بصفتهما مالكي تويتر وفيسبوك، على أقسام واسعة من وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام. وإن لقربهما من الرجل الأقوى عالمياً، ذي الميول الديكتاتورية، عواقب هائلة مناهضة للديمقراطية.
ترامب فاشي؟
والحالة هذه، يشبه القسم الأكبر من برنامج ترامب، وخطواته الأولى في هذه الرئاسة، الحكومات الكلاسيكية، محافظة كانت أو حتى ليبرالية، ذات خصائص متطرفة. فهل يمكن بالتالي اعتباره فاشيا؟ أولا، توسع الأنظمة السلطوية الفاشستية واليمينية المتطرفة إلى حد كبير نطاق السلطة التنفيذية، وتزيل إمكانيات ضبط تلك السلطة، مع تحويل البرلمانات إلى غرف تسجيل.
كما تسعى إلى القضاء على المعارضة القانونية والسياسية. وكانت إحدى تدابير ترامب الأولى تطهير الوظيفة العمومية لضمان التزام موظفي الحكومة ببرنامجه. وبرغم انعدام أي أمارة دالة على عزم ترامب على حظر الحزب الديمقراطي المعارض، قد تمثل التهديدات بمتابعة وسجن أعضاء لجنة 6 يناير في الكونجرس، وجميعهم ديمقراطيون، خطوة أولى في هذا الاتجاه. كان أحد آخر أعمال بايدن الرسمية رئيسا هو منح عفو وقائي لأشخاص معرضين لخطر الاضطهاد، لحمايتهم من غضب ترامب. خطوة لا سابق لها في تاريخ الولايات المتحدة السياسي.
ثانيًا، تعلق الأنظمة الفاشية الحقوق المدنية والسياسية أو تقيدها بشدة، سيما حرية التعبير، وحرية الصحافة، وحرية الاجتماع. فإذا تجاوزت تهديدات ترامب للصحافة والصحفيين الناقدين أبعد من التهديدات اللفظية الحالية، فإن ذلك سيضعه أيضًا في المعسكر الاستبدادي/الفاشي. نشأ العداء بين ترامب ورئيس هيئة الأركان المشتركة السابق، الجنرال مارك مايلي، بسبب رفض هذا الأخير استخدام الجيش ضد المتظاهرين السلميين من حركة”حياة السود مهمة“. وإذا ما لجأ ترامب لاستخدام العنف والقمع الجماعي ضد المتظاهرين، فجلي أنه سيتخذ خطوة نحو الاستبداد والفاشية.
عملاق بأقدام من طين
قد يبدو أن ترامب، الرأسمالي من درجة ثانية، ونجم التلفزيون الذي أصبح الرئيس الخامس والأربعين، وملاحق مرتين في إجراءات عزل، ثم اتهم وأُدين، ليعاد انتخابه أخيراً، بلا منازع ليصبح زعيم الحزب الجمهوري الذي لا يقهر. ولكن سيثبت أن ترامب، مثل كل الديكتاتوريين بالقوة، عملاق ذو أقدام من طين. فأغلبيته في الكونجرس قليلة جدًا، وبرغم أن القيادة الجمهورية ما زالت تكن له الولاء، فلا يزال هناك بعض المعارضين الأشداء سيبطئون برنامجه. وقد رأينا ذلك في التصويت على تأكيد اختيار ترامب للرجعي المتطرف بيت هيغسيث Pete Hegseth لمنصب وزير الدفاع، حيث صوّت ثلاثة جمهوريين ضده، ما أدى إلى تعادل لم يقوض إلا بقرار من فانس رئيس مجلس النواب. وإن كان ترامب منح النظام القضائي الفيدرالي، بما في ذلك المحكمة العليا، مساندين محافظين متشددين، فإن المحكمة العليا بعيدة كل البعد عن كونها هيئة مصادقة معممة. فقد رفض قاضٍ فيدرالي محافظ عيّنه ريغان إعلان ترامب إنهاء حق الأرض باعتباره غير دستوري بشكل واضح.
يعارض العديد من أشد مؤيدي ترامب بقوة حق الإجهاض، ولكنه يحاول، مدركا عدد الجمهوريين المؤيدين للإجهاض، أن يلعب على الورقتين معًا من خلال نسب الفضل في إلغاء Roe v. Wade[السامح بالإجهاض على مستوى البلد]، ولكنه يرفض الالتزام بحظر فيدرالي للإجهاض، داعيا بدلًا من ذلك إلى أن يتم البت في الحقوق الإنجابية على مستوى الولايات. لكن ترامب لن يكون قادرًا على طمس هذه المسألة لفترة طويلة، وسيصطدم حتمًا بمعارضة من هذا المعسكر أو ذاك، إن لم يكن من كليهما.
كان ارتفاع أسعار المواد الأساسية في عهد بايدن أحد الأسباب الرئيسية لفوز ترامب. وعندما لن تتحسن كلفة المعيشة، وتتفاقم من جراء تعريفات ترامب الجمركية ، سيتضاءل القسم الكبير من دعمه وسط الشغيلة والناخبين من الفئات الوسطى. صوت عدد كبير من اللاتينو-امريكيين/آت والسود لصالح ترامب في العام 2024. وستسفر الهجمات على برامج التنوع والمساواة والإدماج الفيدرالية والعمل الإيجابي، وتعزيز نظام السجون وأجهزة الدولة القمعية، إلى إبراز هذه التناقضات في نهاية المطاف.
إذا فشل ترامب في الوفاء بوعوده بتحقيق الازدهار على نطاق واسع، فإن انتخابات منتصف الولاية التشريعية لتجديد الكونغرس المقررة في نوفمبر 2026 قد تشهد خسارته للأغلبية الجمهورية في مجلسي الشيوخ والنواب، الأمر الذي يقوض طموحاته ولكنه يحفزه مع مستشاريه على التحرك سريعًا.
في نهاية المطاف، لن تُهزم الترامبية والفاشية، والنظام الرأسمالي الذي يجعل وجودهم ممكنا، إلا بالتعبئة الجماهيرية ووحدة الشغيلة والمضطهدين/ت، في استقلال عن الحزبين الديمقراطي والجمهوري. بينما تبدو الانتخابات معبرة عن اليأس والانقسام بينهما، فإن التاريخ الحديث للنضال الجماهيري المناهض للعنصرية ونضالات الشغيلة المذهلة التي شهدناها في قطاع السيارات والمعلمين وغيرهم، تدلنا على الطريق الذي ينبغي سلكه وتؤكد إمكانية الرد الموحد.
26 كانون الثاني/يناير 2025
- 1
يعرف الدبلوماسي الأمريكي هنري كيسنجر السياسة الواقعية Realpolitik بأنها"السياسة الخارجية القائمة على حساب القوى والمصلحة القومية".