بعد مضي أكثر من عشرين عامًا على توقيع اتفاق الجمعة المقدس، عادت "المسألة الوطنية" في إيرلندا إلى الواجهة مجددًا. تضافرت، لتشجيع هذه العملية، التغييرات الديموغرافية في الشمال، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وصعود حزب الشين فين في الجنوب.
تطرح المسألة الوطنية أسئلة لا حصر لها على الاشتراكيين الذين يناضلون من أجل توحيد الطبقة العاملة، في الشمال كما في الجنوب، ووضع حد للنظام الرأسمالي. إننا نواجه اليوم بعد مرور 100 عام، آثار "كرنفال الرجعية"[1]الذي تنبأ به جيمس كونولي عقب تقسيم الإمبريالية البريطانية لإيرلندا.
منذ إعلان منظمةRISE[2]، كنا نناقش ما يجب أن يكون موقفُ الحركة الاشتراكية وكيف ينبغي أن نقترح رداً اشتراكياً على المسألة القومية في أيرلندا. يعرض هذا المقال بعض الاستنتاجات التي خلصت إليها تلك النقاشات، لا سيما ما يتعلق بكيفية رد الاشتراكيين على الاستفتاء حول الحدود[3].
نبذة تاريخية موجزة عن الاضطهاد القومي
المسألة القومية مصطلح ماركسي يشير إلى مشكلة اضطهاد قومي لم تُحل. على سبيل المثال، توجد مشاكل قومية متعددة في الدولة الإسبانية، بما في ذلك اضطهاد شعبيْ الباسك والكاتالان. ومع ذلك، فإن الاعتراف بوجود مشكلة قومية ليس نفس الشيء الذي يعنيه تحديدُ ماهية المشكلة على وجه الدقة. فلكل مشكلة قومية خصائصها الخاصة بها.
تعاملت معظم النظريات الماركسية حول الإمبريالية بصورة رئيسية مع الإمبراطوريات الاستعمارية التي بلغت أوجها في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وتناولت كتاباتٌ أخرى حول المسألة القومية أساسًا الدولَ الأوروبية المندمجة في دول أكبر عبر هياكل سياسية إمبراطورية فيودالية مختلفة. وقد اتسمت المسألة القومية الأيرلندية، كما تطورت على مر القرون، بسمات من كلا النوعين[4].
كان أول غزو "بريطاني" (على الرغم من أنه في الواقع سابق لمفهوم بريطانيا العظمى) هو الغزو الأنجلو-نورماندي عام 1169، الذي كان يهدف إلى منع استخدام أيرلندا كقاعدة لإثارة التمرد ضد النظام الملكي الفيودالي. وعلى مدى القرون التالية، رغم استمرار السيطرة الإقليمية على "بالي" (المنطقة التي تضم دبلن وضواحيها)، فإن النورمانديين انصهروا إلى حد كبير في الثقافة الغيلية في بقية الجزيرة. ثم جاء غزو تيودور وستيوارت الذي نجح في إعادة السيطرة المباشرة على أيرلندا بأكملها في أوائل القرن السابع عشر. وكجزء من هذا الغزو، طُبقت سياسة وحشية من "الاستصلاح والزراعة": انتُزعت الأراضي من الزعماء الأيرلنديين وبيعت في المزاد العلني لملاك الأراضي الإنجليز. كانت مزرعة ألستر الأكبر والأكثر اكتمالاً، وكانت تهدف إلى توطين سكان موثوقين ومخلصين من المستوطنين البروتستانت الإسكتلنديين بصفة أساسية.
عندما هُزم النظام الملكي والكنيسة الكاثوليكية، التي كانت في قلب الرجعية الفيودالية، أثناء الثورة الإنجليزية[5]، أصبحت إنجلترا اقتصادًا رأسماليًا بالأساس. أسس أوليفر كرومويل الجيش النموذجي الجديد وقاده، ولعب دورًا حاسمًا في هزيمة الملكيين. وفي عام 1649، قام بغزو وحشي آخر لأيرلندا، الخاضعة إلى حد كبير لسيطرة الاتحاد الكاثوليكي الأيرلندي المتحالف مع الملكيين.وجرى تجريد الطبقة الكاثوليكية المالكة للأراضي من ملكيتها ومورس التمييز المنهجي ضد السكان الكاثوليك. وبحلول عام 1775، تقلص عدد الكاثوليك من ثلثي السكان ولم يعد بحوزتهم سوى 5% من الأرض. وقد وصف كريستوفر هيل الغزو الكرومويلي بأنه "أول انتصار عظيم للإمبريالية الإنجليزية وأول هزيمة كبيرة للديمقراطية الإنجليزية"[6].
ثم تطورت أيرلندا بعد ذلك كمستعمرة خاصة لبريطانيا الرأسمالية، بمثابة جزء متخلف من المملكة المتحدة، لتصبح "سلة خبز بريطانيا"، ذات صادرات مهمة من الحبوب. واستمر الوضع على هذا المنوال أثناء المجاعة الكبرى في الفترة من 1845 إلى 1849، والتي أودت بحياة أكثر من مليون شخص. وكما قال جيمس كونولي، "جرت التضحية بكل هؤلاء الناس على مذبح المنطق الرأسمالي"[7]. كان شمال شرق أيرلندا استثناءً ملحوظًا لهذا التخلف، إذ شهد تطورًا صناعيًا حقيقيًا، لا سيما حول بلفاست.
انتفض الأيرلنديون في عدة مناسبات محاولين إنهاء السيطرة الاستعمارية (واضطهادهم) مستلهمين الثورة الأمريكية والفرنسية وبمساعدة مادية من هذه الثورات. وكان أقرب ما وصلوا إليه من نجاح هو تمرد الأيرلنديين المتحدين عام 1798، الذي نجح في توحيد الكاثوليك والبروتستانت تحت قيادة وولف تون Wolfe Tone.
وأمام احتمال حدوث هزيمة محققة، تمثلت الاستراتيجية البريطانية في توحيد الأنجليكان والمشيخيين في كتلة بروتستانتية مشتركة، ثم خلْق انقسامات بين البروتستانت والكاثوليك عن وعي لمنع عودة ظهور مثل هذه الحركة الموحدة. ومن الأمثلة على ذلك قانون الاتحاد لعام 1801، الذي استمر في منع الكاثوليك من تولي المناصب العامة واستبعد "تحرر الكاثوليك". لم يمنع هذا الأمر المحاولات المتكررة للانتفاضة طوال القرن التاسع عشر، ومجددًا إبان انتفاضة عيد الفصح 1916. ومع تزايد المطالبات بـ"الحكمالمحلي" (وهو شكل من أشكال تفويض السلطة)، قرر المحافظون على وجه الخصوص أن "الورقة البرتقالية هي التي يجب أن تُلعب"، على حد تعبير اللورد راندولف تشرشل Randolph Churchill[8].
واجهت الإمبريالية البريطانية، عقب الثورة الروسية، حركة ثورية أيرلندية لم تكتفِ بوضع إمكانية التحرر الوطني على رأس أولوياتها فحسب، بل وضعت العلاقات الطبقية على جدول الأعمال. هكذا أرعب تنامي نضال العمال، واحتلال أماكن العمل والأراضي، وأحداث مثل الإضراب العام ضد التجنيد الإجباري في عام 1918، وسوفييت ليمريك في عام 1919، الحكومةَ البريطانية.قاد عجز الحركة العمالية عن تحدي هيمنة قوميي الشين فين من الطبقة الوسطى، والرأي السائد على نطاق واسع بأن "العمل يجب أن ينتظر"، إلى عدم تحقيق إمكانات هذه الفترة للأسف.
وردًا على هذا التهديد، اتبعت الإمبريالية البريطانية في سعيها لهزيمة الحركات التي واجهتها عسكريًا وقمعها، استراتيجية "فرق تسد" بطريقة خبيثة متزايدة. فشرعت في تقسيم أيرلندا في عام 1920، وأصرت على هذا التقسيم في المعاهدة الأنجلو- أيرلندية لعام 1921.انتهت هذه الفترة من الثورة الأيرلندية عام 1922 بثورة مضادة شهدت قيام "الدولة الحرة"، وهي مجتمع رجعي تهيمن عليه الكنيسة الكاثوليكية، حيث أُعدِم الجمهوريون والاشتراكيون المعارضون للمعاهدة دون محاكمة، وحُظِرَ الأدب التحريضي واستُبعدت النساء من المشاركة في الحياة العامة.في شمال الحدود، كان التمييز والاضطهاد العلني للأقلية الكاثوليكية هو السائد، مع وجود شرطة ألستر الملكية الطائفية (RUC)، بالإضافة إلى الجماعات شبه العسكرية الموالية، ونظام تقسيم الدوائر الانتخابية مصمَّم لتقليل التمثيل الكاثوليكي.
في الجنوب، استمرت الطبقة الرأسمالية الضعيفة وممثلوها السياسيون في الاتكال على سلطة الكنيسة الكاثوليكية، مع العمل على تسهيل استغلال السكان والموارد من قبل رأس المال الأجنبي، البريطاني أولاً، ثم الأمريكي والأوروبي. وفي الشمال، تواصل التمييز المنهجي، وكان الإسكان بمثابة الشرارة الرئيسية التي أشعلت حركة الحقوق المدنية في ستينيات القرن الماضي.
قوبلت أي إمكانية لقيام حركة طبقية موحدة من أجل الحقوق المدنية والاقتصادية بالرفض من قبل القادة القوميين المحافظين، الذين اختاروا "الوحدة المناهضة للنزعة الوحدوية" (أي الوحدة الكاثوليكية) بدلاً من الوحدة الطبقية. وعندما هوجمت مظاهرات الحقوق المدنية بعنف من قبل العصابات الموالية المحمية من قبل شرطة ألستر الملكية البريطانية، وقُتل المتظاهرون السلميون برصاص المظليين البريطانيين في يوم الأحد الدامي، تحول قسم كبير من الشباب الكاثوليك، الذين ضاقوا ذرعًا بالقمع وبدون حركة اشتراكية طبقية متماسكة تحت تصرفهم، إلى الكفاح المسلح والجيش الجمهوري الإيرلندي المؤقت.كان مفهومًا أن يرغب الشباب الكاثوليك في مقاومة الوضع الذي واجهوه. إلا أن حملة الجيش الجمهوري الأيرلندي كانت دائماً في طريق مسدود. ورغم اختلافها الجوهري عن الحملات الطائفية الصريحة التي قامت بها القوات النظامية شبه العسكرية، إلا أنها فشلت في هزيمة الدولة البريطانية عسكرياً وكان لها تأثير في تعميق الانقسامات الطائفية.
لم يَحلّ اتفاق الجمعة المقدس (اتفاق بلفاست 1998)، الذي أنهى الاضطرابات، المسألة القومية أو ينهي الانقسام العميق في المجتمع الشمالي. بل إن اتفاق تقاسم السلطة أخفى فقط الهوة التاريخية بين المجتمعين، في حين أنه أضفى الطابع المؤسسي على الطائفية في القمة.
اتحدت الأحزاب السياسية الرئيسية على جانبي الهوة في تنفيذ سياسات نيوليبرالية جديدة تتمثل في خفض الإنفاق والخصخصة، بينما تُقدم نفسها على أنها أفضل ممثل لمصالح "مجتمعها" كي تفوز بإعادة انتخابها.
ما طبيعة المسألة القومية اليوم؟
لولا أعمال الإمبريالية البريطانية على مدى قرون، لما كانت هناك مسألة قومية في أيرلندا. وعلى وجه الخصوص، فإن تقسيم أيرلندا هو المسؤول عن الصورة المحددة التي تتخذها المسألة القومية اليوم. ومع ذلك، فإن إحدى نتائج أعمال الإمبريالية البريطانية هي وجود جماعتين متمايزتين في الشمال اليوم بتطلعات قوميّة متضاربة.
لطالما تعرض الكاثوليك تاريخيًا للتمييز في الشمال من قبل السياسيين الوحدويين اليمينيين ومن قبل الدولة البريطانية التي يرضيها التعويل على دعم الأغلبية البروتستانتية. ورغم أن التمييز الاقتصادي النشط أصبح الآن شيئًا من الماضي إلى حد كبير، إلا أن البقايا لا تزال موجودة. حتى لو اختفت بقايا التمييز في التوظيف أو السكن، فإن الكاثوليك سيظلون بالتأكيد مضطهَدين على المستوى القومي، إذ أن رغبتهم في أن يكونوا في بلد يتوافق مع هويتهم القومية معرقَلة وهم مسجونون في دولة شمالية لا يتماهون معها.
نظرًا لإقصاء الكاثوليك من معظم قطاعات الصناعة، فقد كان البروتستانت تاريخيًا هم من يَشغلون الغالبية العظمى من الوظائف الماهرة والأكثر انخراطاً في النقابات. وشكَّل هذا الوصول التفضيلي إلى الوظائف الماهرة، وفي مجال إعادة الإنتاج الاجتماعية والسكن، جزءًا من الأساس التاريخي للكتلة السياسية الوحدوية. ومع ذلك، فإن النظريات التي تُعامل البروتستانت على أنهم "أرستقراطية الطبقة العاملة" فائقة الامتيازات أو، الأسوأ من ذلك، على أنهم "مستوطِنون" مساوون للبيض في جنوب أفريقيا، لا تستند إلى الواقع. فقد عانت الطبقة العاملة البروتستانتية، حتى عندما كان الكاثوليك يتعرضون للتمييز المباشر من حيث السكن والتوظيف، من أعلى معدلات الفقر والحرمان في المملكة المتحدة، كما يتضح من الظروف الكارثية لطرق شانكيل وفولز في بلفاست.
لم تكن الميزة الاقتصادية وحدها هي التي ربطت قطاعًا من العمال بالدولة البريطانية، بل كانت الأيديولوجية الوحدوية. ومع ذلك، انهارت استراتيجية فرق تسد التي اتبعتها الرأسمالية والدولة البريطانية في لحظات حاسمة حين تخطت النضالات المشتركة القوية للعمال الكاثوليك والبروتستانت الانقسام، كما حدث أثناء إضراب المهندسين في بلفاست عام 1919 وحركة مناهضة البطالة في ثلاثينيات القرن العشرين. ثمة العديد من الأمثلة المعاصرة، وإن كانت أصغر، على مثل هذه النضالات المشتركة، مثل إضراب القطاع العام القوي في عام 2015. وهي تُظهر قوة نضال الطبقة العاملة الموحدة وإمكانية إعادة تطويره وتخطي الانقسامات الطائفية التي تعتمد عليها الطبقة الحاكمة وأحزاب النظام القائم.
بيد أنه رغم هذه النضالات فإن استمرار الانقسامات وقابلية استغلالها من قبل طبقة رأسمالية دنيئة وقاسية أمر واضح. أعقب إضراب المهندسين في عام 1919، ذو العناصر الهامة المميزة للإضراب العام، فترة من مذابح معادية للكاثوليكية في عام 1920، أججها عمدًا أرباب العمل الحريصون على تجنب تكرار إضراب عام 1919. طُرد ما يناهز سبعة آلاف كاثوليكي وثلاثة آلاف من "Rotten Prods" (اشتراكيون ونقابيون بروتستانت) من أماكن العمل.
المقاربات الاشتراكية للمسألة القومية
يتعين علينا، لتحديد كيفية التعامل مع هذا القسم، أن ننظر إلى إسهامات الماركسيين حول كيفية معالجة المسألة القومية. فرغم أن ماركس وإنجلز قد صاغا مبدأ أمميًا واضحًا برسالتهما الملهمة أن "العمال ليس لهم وطن"[9]، بل واستبقا التجديد البرنامجي للينين لاحقًا بدعمهما استقلال أيرلندا وبولندا، إلا أنهما أخفقا في تحديد نهج شامل. قدم إنجلز، على وجه الخصوص، مفهومًا مشوشًا وغير مادي لـ "أمم بلا تاريخ".
ليس من المستغرب إذن أن تصبح هذه القضية المعقدة موضوع نقاش ساخن داخل الحركة الاشتراكية بعد وفاتهما. تبنى اليمين داخل ما يسمى بالأممية الثانية نوعًا من "الاستعمار الاشتراكي"[10]، بالموازاة مع حجة عنصرية فظيعة تجسدت في طرح إدوارد برنشتاين في مؤتمر شتوتغارت عام 1907 بأن "على الاشتراكيين أيضًا أن يعترفوا بضرورة أن تتصرف الشعوب المتحضرة كوصيّ على الشعوب غير المتحضرة"[11].
ورغم رفض تعديل اليمين في مؤتمر شتوتغارت من قبل كتلة من الوسط واليسار، إلا أن حقيقة أنه لم يُرفض إلا بفارق ضئيل، بأغلبية 127 صوتًا مقابل 108 أصوات، توضح الانتهازية الموجودة بالفعل داخل الاشتراكية الديمقراطية وعدم وضوح كيفية التعامل مع هذه القضية. فحتى بين أولئك الذين عارضوا الاستعمار بوضوح، كان هناك في أحيان كثيرة نوع من المقاربة العمياء للقمع. أوضح يوجين دبس Eugene Debsذلك جيدًا عند الحديث عن الاضطهاد العنصري، حين كتب: "ليس لدينا أي شيء خاص نقدمه للزنوج ولا يمكننا أن نوجه نداءً لجميع الأعراق. فالحزب الاشتراكي هو حزب الطبقة العاملة، مهما كان لونها - كل الطبقة العاملة في جميع أنحاء العالم"[12].
ومن ناحيته، أصر لينين على أن الحركة الماركسية لابد أن تمتلك شيئًا "خاصًا" تقدمه للسود في الولايات المتحدة والقوميات المضطهدة في العالم. هذا الشيء "الخاص" ليس أقل من الالتزام الراسخ بإنهاء اضطهادهم المميز (بجميع أشكاله، بغض النظر عن الطبقات)، والذي يتجاوز الاستغلال والاضطهاد الرأسمالي الملازمين لجميع أفراد الطبقة العاملة.
أدرك أنه لا يمكن بناء وحدة الطبقة العاملة بتجاهل أشكال القمع التي تؤثر على فئات معينة وليس على جميع العمال، أو التقليل من شأنها. فإهمال الاضطهاد لا يؤدي إلى اختفائه ولا إلى تلاشي الانقسام الذي يسببه، بل على العكس من ذلك يتيح للقمع أن يبقى ويعيد إنتاج نفسه داخل حركة الطبقة العاملة. وبدلًا من ذلك، دعا إلى خلق الوحدة على أساس المعارضة الصريحة للاضطهاد والالتزام بإنهائه.
انبثق من هذا التحليل الدفاع عن الحق في تقرير المصير. يتعلق الأمر بأداة أتاحت للطبقة العاملة في الأمة المضطهِدَة أن تبرهن أن لا مصلحة لها في استمرار الاضطهاد، وأن تساعد في بناء نضال موحد للطبقة العاملة. كما سمح للثوريين في الأمة المضطهَدَة بالانخراط في النضال ضد الإمبريالية، والسعي في ذات الوقت إلى ربط النضال ضد الاضطهاد بالحاجة إلى التغيير الاشتراكي.
أوضح البلاشفة بجلاء أن شعوب جورجيا وبولندا وأوكرانيا وفنلندا وجميع الأمم الأخرى التي اضطُهدت تاريخيًا من قبل روسيا القيصرية لها الحق في تقرير مستقبلها الخاص، بما في ذلك الحق في الاستقلال. كان هذا الجانب، في سياق الإمبراطورية القيصرية المؤلفة من قوميات متعددة، مع أغلبية من غير الروس، حاسمًا في النضال من أجل كسب تأييد الجماهير. كما يقول تروتسكي في كتابه "تاريخ الثورة الروسية": "بهذه الوسيلة فقط يمكن للبروليتاريا الروسية أن تكسب ثقة القوميات المضطهَدَة تدريجيًا"[13].
تطبيق منهج لينين على أيرلندا
إنه تجديد حقيقي في الطريقة الواجب اتباعها من قبل الاشتراكيين في التعامل مع قضايا الاضطهاد القومي (وغيره)، وهذا ما يفسر النهج الذي نسعى إلى اتباعه اليوم. ومع ذلك، فإن شعار "الحق في تقرير المصير" لا يمكن تطبيقه ببساطة على أي حالة تصادفنا وجعلِه ردًا عامًا. فمن هو بالتحديد صاحب الحق في تقرير المصير في السياق الأيرلندي؟ الشعب الأيرلندي ككل؟ كاثوليك الشمال أم البروتستانت أم كلاهما؟ كيف يمكن ممارسة حق تقرير المصير هذا؟
وقع اليسار وهو يحاول معالجة المسألة القومية في أيرلندا وفق هذا النهج، في مأزق تحليلي بسبب تفكير تخطيطي قائم على كيفية تحديد أي مجموعة من الناس ينطبق عليها تعريف "الأمة". يمكن البدء بقائمة معايير قدمها ستالين - وهو الرجل الذي أخضع فيما بعد قوميات مضطهدة بأكملها للترحيل - في كتابه سيء السمعة "الماركسية والمسألة القومية": "مجتمع مستقر، متشكل تاريخيًا بلغة وأراضٍ وحياة اقتصادية وتكوين نفسي [أيًا كان ما يعنيه ذلك!]، تترجم إلى مجتمع الثقافة"[14]. باستخدام هذه القائمة، يقرر الماركسيون بعد ذلك ما إذا كانت مجموعة معينة من الناس مؤهلة لتكون أمة أم لا.
في السياق الأيرلندي، من هو بالضبط صاحب الحق في تقرير المصير؟
لا تساعدنا هذه المقاربة الميكانيكية كثيرًا في فهم الاضطهاد القومي كما هو موجود في العالم الذي نواجهه بالفعل، وليس في ظروف مختبرية خيالية. على سبيل المثال، لا يمكن اعتبار الشعب الكردي أمة وفقاً لتعريف ستالين، لأنه لا يملك "حياة اقتصادية مشتركة". لكن بالنسبة لمعظم الماركسيين، يبدو واضحاً أن الأكراد يشكلون أمة لها الحق في تقرير المصير.
يجب علينا بدلًا من تكرار هذه الأخطاء، أن نستخدم المنهج الأساسي وراء مفهوم "الحق في تقرير المصير"، وليس الصيغة بحد ذاتها. وبعبارة أخرى، يتعلق الأمر بإيجاد طريقة لتوحيد الطبقة العاملة، رغم انقساماتها الحقيقية، وأن نبين لها الطريق إلى السلطة، كي تتمكن من حل المسألة الوطنية. وهذا يعني تحليل الوقائع السياسية القائمة والرجوع إليها، وليس الانخراط في جدل تاريخي حول من هو أمة ومن ليس كذلك. كما قال تروتسكي عن اضطهاد السود في الولايات المتحدة: "إن المعيار المجرد لا يحسم هذه المسألة، ولكن الأكثر حسماً هو الوعي التاريخي للمجموعة ومشاعرها وإرادتها"[15].
ليست الأمم فئات تاريخية ثابتة، بل هي مجموعات تتشكل وتتفكّك ويعاد تشكيلها باستمرار. والدليل على ذلك هو تكوين ما يُعتبر عمومًا الأمة الأيرلندية في حد ذاته، حيث تندمج موجات من المستوطنين مع مرور الوقت فيما أصبح يُعرف بالأمة الأيرلندية.
لا تُعرّف الغالبية العظمى من البروتستانت في الشمال أنفسهم على أنهم جزء من الأمة الأيرلندية، بل إن أقلية ضئيلة فقط تعرّف نفسها على أنها مجرد أيرلندية وفقًا لاستبيانات مختلفة. ومع أنهم لا يشكلون أمة في حد ذاتها، إلا أنهم يشكلون مجتمعًا متميزًا له تطلعات قومية مختلفة عن تطلعات الجنوبيين والكاثوليك الشماليين. والكاثوليك الشماليون ليسوا أمة مستقلة، ولكنهم جزء من الأمة الأيرلندية، بما في ذلك الغالبية العظمى من الجنوبيين.
وثمة حقيقة سياسية أخرى هي أنه بالنظر إلى جغرافية الشمال وتركيبته السكانية، فإن ممارسة حق تقرير المصير لأي من البروتستانت أو الكاثوليك يعني حرمان الآخر من تقرير المصير. فالطائفتان متشابكتان في الشمال الشرقي من أيرلندا لدرجة أنه لا توجد إعادة تقسيم ممكنة لن تفضي إلى حشر أقليات كبيرة في دولة لا تتماهى معها.
هل تستطيع الرأسمالية حل المسألة القومية في أيرلندا؟
إن المسألة القومية في أيرلندا المنطوية بالضبط على وجود طائفتين متمايزتين في الشمال مستعصية على الحل. فلو كانت المسألة مجرد مسألة وجود الجيش البريطاني في الشمال، لأمكن بانسحابه حلها بسهولة نسبياً. ولكن الأمر ليس كذلك. إن نتيجة قرن من التجزئة والتقسيم لصالح رأس المال تعني أن هذه المجتمعات والهويات المتمايزة لها وجود حقيقي لا يمكن تحريكها أو إيقافها وفقًا لاحتياجات الإمبريالية البريطانية.
إلا أنه لا يترتب على ذلك، كما يدعي البعض، أن الصورة التي تُطرح بها المسألة القومية لا يمكن تغييرها داخل الرأسمالية. في الواقع، ولعدة مرات تغير بالفعل شكلُ مسائل قومية عديدة في العالم. نحن نعيش حقبة تقلبات هائلة، ولكن مع وجود طبقة عاملة ضعيفة من حيث الوعي الطبقي والتنظيم الجماهيري والقيادة، وبالتالي فهي غير قادرة غالبًا على ترك بصمتها الحاسمة على الأحداث.
ثمة نتائج عدة ممكنة في إطار الرأسمالية. لا ينبغي الاستهانة باحتمال حدوث رد فعل عنيف ضد إعادة توحيد أيرلندا من قبل قسم من السكان البروتستانت، وإعادة تطور صراع طائفي كبير وحتى إمكانية نشوب حرب أهلية. غير أن هذا ليس البديل الوحيد، فهناك بدائل أخرى حيث يكون ضغط الطبقة العاملة ومصالح الدول الرأسمالية المعنية كافياً لتجنب مثل هذه الحرب الأهلية، دون أن تكون كافية لإثارة مسألة الثورة العمالية.
في مثل هذه الأوضاع، قد تصبح أيرلندا الموحدة على أساس رأسمالي أمراً ممكناً. وربما توجد أيضاً حلول وسيطة، مثل السلطة المشتركة المؤقتة للحكومتين الأيرلندية والبريطانية. لذا، فبدلاً من أن نكون إملائيين بشأن ما يمكن أن يحدث نظرياً في ظل الرأسمالية، يجب أن نكون منفتحين على مختلف الاحتمالات.
لكن أياً من هذه "الحلول" في إطار الرأسمالية لن يؤدي إلى اختفاء المسألة القومية. فالتمييز، أو على الأقل دينامية التنافس الطائفي على تخصيص الموارد الشحيحة (الإسكان والخدمات العامة، على سبيل المثال) على مستوى المجلس المحلي أو المجلس اللامركزي، أمر محتمل. على أي حال، حتى من دون تمييز مباشر، فإن الهوية المجتمعية لا تُمحى أو تُنسى بسرعة. فالبروتستانت سيشكلون أقلية متميزة في دولة لا يتماهون معها.
بإمكان الطبقة العاملة حل المسألة القومية
ليس الأمر ضربًا من التمني أن نذهب للقول إنه لو كانت الطبقة العاملة هي المسيطرة لكانت الأمور مختلفة. فبالسيطرة الصارمة على الموارد، والمشاركة الديمقراطية لعمال وعاملات كل الجماعات المجتمعية، فإن المجتمع الاشتراكي سيضع أسس انخفاض النزاعات القومية بمرور الوقت، وذلك بفضل عاملين حاسمين.
أولاً، بضمان حصول الجميع على مستوى معيشي لائق، وتوفير فرص عمل وسكن وخدمات عامة جيدة، فإن ذلك سيقضي إلى حد كبير على النزاعات المرتبطة بعدم كفاية الموارد بين مختلف شرائح الطبقة العاملة. إن هذه الصراعات، وإصرار الطبقة الرأسمالية الحاكمة على استغلالها، عامل حاسم في تفاقم المنازعات القومية.
وثانياً، بالاستناد إلى الاعتراف بحقوق الأقليات القومية، بما في ذلك الحق في تقرير المصير، والنضال من أجل وحدة الطبقة العاملة، ستتمكن الطبقة العاملة الحاكمة من تلبية الحقوق والتطلعات المتضاربة حالياً. فبينما تجسد يوغوسلافيا احتمالات الإبادة الجماعية عندما تنفجر القضايا القومية، فإنها تقدم أيضًا مثالاً على كيفية قدرة الدولة العمالية (حتى لو كانت مشوهة بسبب الستالينية) على الحد من الصراعات القومية. ففي ظل حكم تيتو، وبفضل النمو الاقتصادي والاستقلال الذاتي للدول التي كانت تشكل يوغوسلافيا، جرى تخفيف حدة المسألة القومية. وبالطبع، فإن عودة المسألة القومية إلى الظهور في يوغوسلافيا، بعد التفكك الدموي لهذه الدولة، يثبت أن هذه المسائل لم "تحل" في ظل الستالينية، بل ببساطة جرى تحجيمها لفترة من الزمن.
توجد طرق ممكنة عديدة تستطيع الطبقة العاملة الحاكمة انتهاجها لتخفيف حدة المشكلة القومية في أيرلندا وحلها في نهاية المطاف. وأبسط هذه الطرق وأسهلها هو تشكيل دولة اشتراكية أيرلندية، مرتبطة بتطور الحركة الاشتراكية في جميع أنحاء أوروبا. وستلعب الأقلية البروتستانتية دوراً في النضال من أجل هذه الدولة ومن أجل بنائها، ولن تعاني من أي تمييز وستتمتع بكامل الحقوق الديمقراطية داخلها.
في غضون ذلك، يستطيع البروتستانت في الشمال اعتبار أنفسهم جزءاً لا يتجزأ من الأمة الأيرلندية، على غرار البروتستانت في الجنوب. وهناك حلول أخرى، بما في ذلك الحكم الذاتي للطائفة البروتستانتية في الشمال ضمن أيرلندا الاشتراكية، أو الحكم الذاتي لشمال شرق أيرلندا، وهي حلول ممكنة أيضاً، وسيكون الأمر متروكاً للطبقة العاملة المستقبلية، كي تبني نضالاً موحداً ضد الرأسمالية، وبمجرد وصولها إلى السلطة، أن تقرر ديمقراطياً كيفية حل هذه المسألة.
يَظل السؤال الرئيسي بالنسبة لنا هو كيفية توحيد الطبقة العاملة، اليوم، ضد الطبقة الرأسمالية بطريقة تطرح إمكانية استيلاء الطبقة العاملة على السلطة وإتاحة الفرصة لحل المسألة القومية. لذلك يجب أن يُقرّ تحليلنا واستراتيجيتنا للمستقبل بالاضطهاد القومي الحالي للكاثوليك في الشمال ويعارضه، بالموازاة مع طمأنة البروتستانت في الشمال بأنه لا خوف عليهم في دولة اشتراكية مستقبلية فحسب، بل لديهم الكثير ليكسبوه.
الاستفتاء بشأن الحدود
إن التغيير الديموغرافي في أيرلندا الشمالية هو المحرك الرئيسي للتغيير في طريقة طرح المسألة القومية والنظر إليها. من الأهمية بمكان حقيقة أنه في غضون سنوات قليلة، يرجح أن يشكل الأشخاص من أصول كاثوليكية نسبة مئوية من سكان الشمال أعلى من أولئك الذين ينحدرون من أصول بروتستانتية. بالفعل في عام 2016، كان عدد الأشخاص في سن العمل من أصول كاثوليكية (44%) أكثر من ذوي الأصول البروتستانتية (40%). أما بين الطلاب، فالفجوة أكبر، حيث تبلغ نسبة الأشخاص من أصل كاثوليكي 51% مقارنة بـ 37% من أصل بروتستانتي.
كانت الدولة الشمالية منذ تأسيسها بالفعل دولة ذات أغلبية بروتستانتية (يُفترض أنها وحدوية) وأقلية كاثوليكية. ويؤدي اختفاء هذه الأغلبية البروتستانتية والاتجاه الديموغرافي الواضح نحو أغلبية كاثوليكية إلى زعزعة أسس الدولة الشمالية.
علاوة على ذلك، تتمتع هذه الحقيقة الديموغرافية بأهمية قانونية في اتفاقية الجمعة المقدس. إذ يتضمن بندًا يوعز إلى وزير الدولة لشؤون أيرلندا الشمالية بأن يأمر بإجراء انتخابات "إذا بدا له في أي وقت أنه من المحتمل أن تعرب أغلبية المصوتين عن رغبتها في أن تتوقف أيرلندا الشمالية عن كونها جزءًا من المملكة المتحدة وتصبح جزءًا من أيرلندا الموحدة". وفي الوقت نفسه، سيجري إجراء اقتراع مماثل في جنوب أيرلندا.
إذا أظهر إحصاء عام 2021 نسبة مئوية من الكاثوليك أعلى من البروتستانت، فإن الضغط من أجل إجراء استفتاء على الحدود سيزداد بشدة. ويبدو محتملاً جدًا أنه في غضون عشر سنوات، ستُظهر استطلاعات الرأي الحاجة إلى استفتاء حدودي.
بيد أن هذه القضية (والمسألة القومية بشكل عام) ستحتل صدارة المشهد السياسي قبل إجراء هذا الاستفتاء. فبالإضافة إلى العامل الديموغرافي الآخذ في التناقص، فإن صعود حزب الشين فين في الجنوب يعطي زخمًا لهذه العملية. فحين كان في المعارضة، حاول بشكل منهجي استخدام خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كفرصة لتسليط الضوء على الوحدة الأيرلندية. وإذا انضم إلى حكومة يمينية مع حزب فيانا فيل أو فاين جايل، فسوف يغتنم الفرصة بلا شك للدفع باتجاه إجراء استفتاء على الحدود، لأنه أمر أساسي لوجوده السياسي ولصرف الانتباه عن دوره المحتمل في إدارة الرأسمالية وتنفيذ التقشف. وهذا بالضبط ما قام به بالفعل في الشمال.
يشكل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والاستفتاء الإسكتلندي الجديد على الاستقلال عاملين إضافيين يؤثران على نقاش القضية القومية في أيرلندا ومسارها. فالدولة البريطانية عمومًا في طريقها إلى التفكك. وقد أكد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على التراجع النسبي لمكانة الإمبريالية البريطانية، في حين أثار بشدة مسألة إقامة حدود صلبة، سواء بين جنوب أيرلندا وشمالها، أو بين أيرلندا ككل وبريطانيا.
فمن جهة، ربما يعزز هذا الأمر الشعور السائد في أوساط الطبقة العاملة البروتستانتية بأنها تحت الحصار من قبل السكان الكاثوليك الذين تزداد ثقتهم بأنفسهم. ومن جهة أخرى، إذا شعر الكاثوليك بأن الدولة البريطانية أو غيرها ستعرقل تطلعاتهم في أن يكونوا جزءًا من أيرلندا الموحدة، حتى في ظروف يشكلون فيها الأغلبية، رغم أن اتفاق الجمعة المقدس واضح بشأن ما يجب أن يحدث، فإن النتيجة قد تكون متفجرة.
الوضعُ السياسي في هذه الجزيرة معقد للغاية. ومع ذلك، ومن أجل رسم الطريق إلى الأمام، علينا أن نتعامل مع الوضع السياسي كما هو، وليس كما نود أن يكون. من نقطة الانطلاق المعقدة اليوم، يجب على الاشتراكيين صياغة نهج لمعارضة الاضطهاد وتوحيد الطبقة العاملة في النضال ضد الاستغلال الرأسمالي ومن أجل التغيير الاشتراكي.
ماذا يجب أن يقول الاشتراكيون عن استفتاء بشأن الحدود؟
يُعدّ الاستفتاء بشأن الحدود، من نواحٍ عدة، الطريقة الأكثر حدة التي تُطرح فيها المسألة القومية اليوم. فالاستفتاء على جانبي الحدود مع إجابة بنعم/لا (أو خيار الامتناع عن التصويت) لا يسمح بالمراوغة أو الإجابات التي لا نهاية لها. لا يمكن الرد ببساطة بالإشارة إلى الحل الاشتراكي الذي نؤيده. بل يتطلب الأمر ردًا ملموسًا. عند وضع برنامج لتوحيد الطبقة العاملة والنضال من أجل الإطاحة بالرأسمالية، فإن الطريقة التي نرد بها على الاستفتاء حول الحدود أمر بالغ الأهمية.
ليس الاستفتاء بشأن الحدود بموجب اتفاق الجمعة المقدس جوابنا على المسألة القومية، تماماً مثلما لم يكن اتفاق الجمعة المقدس جوابنا على الصراع الطائفي في الشمال. إنه "حل" ابتدعته الأحزاب السياسية والدول الرأسمالية، وهو ينطوي على مخاطر كثيرة من وجهة نظر النضال من أجل توحيد الطبقة العاملة وهزيمة الإمبريالية والرأسمالية.
إلا أنه موجود قانونيًا - وبالتالي سياسيًا - كنقطة مرجعية للأشخاص من الطوائف الكاثوليكية الساعين إلى إنهاء اضطهادهم القومي. يجب على الاشتراكيين أن يدركوا أنه من المعقول تمامًا أن يتوقع الكاثوليك في الشمال، المجبَرين على العيش في دولة تضطهدهم على أساس أنهم أقلية، انتهاء اضطهادهم حينما يصبحون أغلبية. ويُعتبر الاستفتاء بشأن الحدود بالفعل أكثر الطرق وضوحًا لتحقيق ذلك، وربما يصبح كذلك باطراد.
من ناحية أخرى، ينظر البروتستانت من الطبقة العاملة بقلق إلى الاستفتاء بشأن الحدود. وذلك بسبب التوترات الطائفية المتزايدة التي يمكن أن تنجم عن ذلك وبسبب عواقب التصويت بنعم، وهو ما يعني أنهم سيضطرون إلى الدخول في دولة لا يريدون أن يكونوا جزءًا منها.
إن إمكانية أن يصبح هذا الأمر نقطة تحول نحو تصعيد العنف والمواجهات الطائفية أمر حقيقي. ومع ذلك، بالنسبة للاشتراكيين، وهم أقلية صغيرة في هذه المرحلة، فإن الرد بأنهم "يعارضون" إجراء استفتاء بشأن الحدود سيكون مثل النفخ في إعصار سعياً لإبعاده. سيحدث ذلك سواء أحببنا ذلك أم لا، وعلى الاشتراكيين أن يكونوا مستعدين له.
إن معارضة الاستفتاء بشأن الحدود، أو الدعوة إلى الامتناع عن التصويت أو مقاطعة الاستفتاء في حال الدعوة إليه، ليست استراتيجية قادرة على توحيد جزء كبير من الطبقة العاملة وتوجيهها نحو الاستيلاء على السلطة. والأسوأ من ذلك أنها ستكون بمثابة تعليق من الهامش. ومن شأن ذلك إفساح المجال للقوميين من كلا الجانبين لتولي زمام المبادرة في النقاش والنتائج.
حملة الطبقة العاملة المستقلّة
لن يحل الاستفتاء بشأن الحدود القضية القومية ولا ينبغي لنا أن ندعي أنه سيحلها. في الواقع، كما أشرنا، يمكن أن يؤدي ذلك إلى تفاقم الطائفية والتوترات بين الجماعات المجتمعية. غير أنه لا يمكننا القول للكاثوليك، وهم أقلية على وشك أن يصبحوا أكثرية، أن يقبلوا بالوضع الراهن إلى أن يصبح النضال من أجل الاشتراكية جاهزاً لحل المسألة القومية.
بالمقابل، يجب أن ندعم الاستفتاء بشأن الحدود، كحق ديمقراطي وكآلية للكاثوليك لإنهاء اضطهادهم القومي. وينبغي علينا اتخاذ موقف بشأن القضية الملموسة للاستفتاء الحدودي - بما يتماشى مع رغبات الغالبية العظمى من العمال الأيرلنديين، مع مضمون تقدمي لمعظمهم - لصالح إعادة توحيد الجزيرة. وبهذا، سنكون في وضع أفضل بكثير لإثبات قضيتنا الأوسع نطاقًا بشأن الحاجة إلى التغيير الاشتراكي، ولا سيما بالتركيز على حقوق الأقلية البروتستانتية.
وبينما يدعم الاشتراكيون مثل هذا الاستفتاء ويدعون إلى التصويت بنعم، يجب أن يحذروا من المخاطر التي ينطوي عليها. فثمة خطر كبير من زيادة التوتر وحتى الصراع المفتوح في الفترة التي تسبق مثل هذا الاستفتاء. إذا جرى الاستفتاء وظهرت أغلبية مؤيدة لتوحيد الجزيرة، فربما يؤدي ذلك ببساطة إلى تغيير دينامية الاضطهاد، بحيث يشعر البروتستانت أنهم مضطرون للانضمام إلى دولة لا يتماهون معها، في ظروف تتصاعد فيها التوترات الطائفية.
ولتفادي هذه النتائج، يتعين إطلاق حملة مناهضة للطائفية مستندة إلى الطبقة العاملة من الكاثوليك والبروتستانت، ومستقلة عن القوى القومية، بما في ذلك الشين فين الذي سيطالب بإجراء استفتاء حدودي والتصويت بنعم. وفي الجنوب، يقع على عاتق الاشتراكيين واجب خاص للتوعية بشأن مخاوف البروتستانت من أن يصبحوا أقلية مضطهَدة داخل دولة موحدة، وشرح مخاوفهم من فقدان، ليس فقط هويتهم، بل أيضًا الخدمات العامة التي تفوق تلك التي يحصل عليها سكان الجنوب. يجب علينا الإصرار على ضرورة حماية حقوق الأقلية البروتستانتية، وكذلك الأقليات الأخرى، داخل هذه الدولة.
وينبغي ألا ندعو إلى توحيد دولتين رأسماليتين طائفيتين، بل إلى إنشاء أيرلندا علمانية اشتراكية، تكون فيها حقوق البروتستانت محمية، بما في ذلك الحق الدائم في ازدواج الجنسية. وبدلاً من المواءمة التنازلية لضريبة الشركات التي يتصورها حزب الشين فين وإنشاء ملاذ ضريبي في جميع أنحاء أيرلندا، ينبغي أن ندعو إلى المِلكية العامة الديمقراطية لمصادر الثروة الرئيسية في الجزيرة، واستخدامها لضمان خدمة صحية وطنية عالية الجودة في جميع أنحاء الجزيرة، والاستثمار في الإسكان العام اللائق والخدمات للجميع، وتحسينات كبيرة في مستويات معيشة الناس.
لا يمكن دعم هذا التغيير الاشتراكي في جزيرة أيرلندا وحدها. بل يتوجب إدراجه ضمن حركة أممية لإنهاء هيمنة الطبقة الرأسمالية ووضع السلطة في أيدي الطبقة العاملة. إن بناء أوروبا ديمقراطية اشتراكية، تشمل التعاون والعلاقات الوثيقة بين الطبقات العاملة في جميع أنحاء القارة، يُعَد جزءًا حاسمًا من هذه الحركة.
[1]James Connolly, Labour and Partition, 1914
[2]الاشتراكية الأممية البيئية الثورية "رايز"Rise هي منظّمة منضوية في ائتلاف "الناس قبل الربح" في إيرلندا.
[3]سيُستخدم مصطلحا ”بروتستانتي“ و”كاثوليكي“ في هذا المقال للإشارة إلى أشخاص من المجتمعات البروتستانتية والكاثوليكية. وفي حين أن هذا الاختيار للغة إشكاليّ، لأسباب ليس أقلها أنه يوحي بأن هذا الصراع ”ديني“ بطريقة ما، فإن البديل المتمثل في وصف الناس بالقوميين والنقابيين يطبق تسميات سياسية على الناس على أساس أصولهم فقط ويفشل في تصوير الطبيعة الطائفية للانقسام الطائفي.
[4]التاريخ الموجز الموصوف هنا مأخوذ بشكل أساسي من T.A. Jackson, Ireland HerOwn, 1946, et de D. R. O'ConnorLysaght, « British Imperialism in Ireland », contenu dans Ireland : Divided Nation, Divided Class, 1987.
[5]لمعرفة المزيد Christopher Hill, The English Revolution 1640, 1940.
[6]نفس المرجع.
[7]James Connolly, Labour in Irish History, 1910.
[8] رسالة إلى اللورد جاستسفيتزجيبون، 16 فبراير 1886.
[9]ماركس وإنجلز، بيان الحزب الشيوعي، 1848.
[10]لمعرفة المزيدGeorges Haupt, Michaël Löwy, Weill Claudie, Les marxistes et la question nationale 1848-1914, L’Harmattan, 1997.
[11]John Riddell, Lenin’s Struggle for a Revolutionary International, 2002, p. 40.
[12]Eugene V. Debs, The Negro In the Class Struggle, 1903.
[13]Léon Trotsky, Histoire de la révolution russe, 1930.
[14]12) Joseph Staline, Le marxisme et la question nationale, 1913.
[15]13) « La question noire aux États-Unis », 28 février 1933.