شعوبٌ عديدة، فلسطينيون وأوكرانيون وأكراد و أويغور وكاناك ومارتينيكيون - معنيةٌ مباشرةً باضطهاد استعماري مباشرٍ، فضلا عن شعوب كثيرةٍ، بخاصة في أفريقيا، أراضيها نهبٌ لأطماع الإمبرياليين الذين لا يترددون في استخدام السلاح للاستيلاء على ثروات الشعوب. إرتأينا ضرورة تناول المسألة القومية في عددين من مجلة ”إنبريكور“، هذا وتاليه، من أجل النظر في مختلف أبعادها المفيدة لنضالاتنا الحالية.
تُعزى عودةُ المسألة ”القوميةِ“ الملحةُ في الشؤون السياسية إلى كونها تطرح مشكلةَ تحرر أعمَّ، ألا وهي الاستلاب السياسي بحصر المعنى. ولا يتعلق هذا الاستلابُ، بما هو إقصاءٌ من كل اتخاذ قرار أساسي في المجتمع، بالشغيلة في مواجهة البرجوازية وحسب، بل بكل شكل هوية أو جماعة بوجه منطق تراكم رأس المال على صعيد عالمي.
في النقاش ”الكلاسيكي“ حول المسألة، المعروض بنحو جيد في مقالات مايكل لوفي وخايمي باستور (سينشر في عددنا القادم)، تتمثل قوة وجهة نظر لينين، بوجه الدقة، في رفضه إضفاء طابع جوهراني على ”الأمة“ بتركيز حجته على تعميم المبدأ الماركسي، مبدأ أن التحرر ”سيكون من صنع العمال أنفسهم“ - وليس مشروعاً تكنوقراطياً يضعُه”علماء“، حتى ثوريون. وكان مكمنُ ضعف منتقديه، حتى روزا لوكسمبورغ، بخسَ شأن الطابع الضروري لهذا الدمج، الذاتي، في كل اتخاذ لقرار سياسي، لصالح كفاءة اقتصادية مفترضة أو التقدم ،الخ.
وعلى العكس ، وبنحو مُفارق، رصدت روزا ما للتراكم الموسع لرأس المال من ميل ملازم وضروري إلى اختراق كل مجال غير رأسمالي، أو ما أسمته ” الأشخاص الأغيار“، لإتاحة الربحية، وفي الآن ذاته إعادة إنتاج شروط إعادة إنتاجها الاجتماعية. وتشمل هذه الشروط التنافس المعمم، أو ”حرب الجميع ضد الجميع“، وبالتالي الاستغلال والاضطهاد على حد سواء. لا ينطبق هذا الأمر على الاستعمار في شكله الكلاسيكي وحسب، بل أيضًا على العولمة الليبرالية الراهنة.
فضلا عن ذلك، كان إدخال النيوليبرالية ما دحض تكهنات هوبزباوم المتفائلة في سنوات 1980، مع انفجار النزعة القومية، حتى الحربية، في البلقان، حيث كانت ”المسألة القومية“ في القرن التاسع عشر مركز تفتُّت الإمبراطورية العثمانية. نتحدث عن ”مسألة“ لأن بناء الأمة ودولتها لم يعد منذئذ يتمحور حول دمج جميع السكان في جماعة سياسية (حتى مع استثناءات)، على عكس المجتمعات الإقطاعية والحكم المطلق والملكيات ،الخ بل على الإقصاء - سواء خارجيًا (الأمم الأخرى) أو داخليًا (العبيد والبروليتاريا والنساء و”الأقليات“ والمهاجرين، إلخ).
في بداية الثورات البرجوازية (الفرنسية بوجه خاص) وحدها، ولفترة وجيزة جدًا ورمزية للغاية، كان مفترضا أن توحد الأمة ودولتها جميع ”الشعوب“ ضد ”الطغيان“. وفي البلقان أيضًا، اصطدم الحلم الثوري بإنشاء أمة ضد السلطان بقوى برجوازية متنافسة”وطنية“ بمعنى ما. و يجب في كل حالة دراسة الظروف الملموسة والتطورات، بالنحو الذي تناول به بول مورفي حالة ايرلندا.
من شأن سكان أوقيانوسيا الأصليين، أو ”الشعوب الأولى“ في المناطق المستعمرة في أمريكا أو أفريقيا (وحتى في أماكن أخرى، مثل آسيا الوسطى) أن تعطينا أمثلة على جماعات بأكملها لا تزال مُستبْعَدة بشكل أو بآخر من ”الأمة“، أو تشعر بأنها مستبعدة بحد ذاتها. يتناول مقال ميشيل كاهين عن أفريقيا بالتحديد هذا الثراء المعقد للهويات، المسماة أحيانًا ”إثنية“، والتي تطرح أيضًا وبشكل أساسي - وتعيد إنتاج وتجديد - مشكلة الاستلاب السياسي الجماعي وشعور الإقصاء السياسي (وواقعه). وإذ يفضل الحديث عن ”درجات من الإثنية“،يبين أن الأمر يتعلق فعلا بــ ”مسائل قومية“، مائعة ومتغيرة، يعيد التاريخ والاستعمار والتحرر والظروف صياغتها وتعديلها، وتستند دائمًا إلى واقع إقصاء سياسي، داخلي أحيانًا، حتى داخل حركات التحرر! قد يختلف واقع الهويات ومشاعر الجماعات باختلاف ما يشكلها (أمة، عرق، نسب، عشيرة، قبيلة، طائفة، عرق، مشيخة... و أيضاً تبعا لمحاور من قبيل التخصص في العمل أو حتى الدين)، لكن الوجه الأهم هو الإقصاء السياسي (واحتكار الثروة أحياناً). وجلي أن العلاقة مع الدولة، التي ليست”دولة اجتماعية“، أو لم تعد كذلك، بل بالأحرى ”عرقية-زبونية“ أو ”كومبرادورية“ ، علاقة غير مساعدة. ولكن ألا ينطبق الأمر ذاته، بتفاوت، على الدول النيوليبرالية الراهنة؟
يكفي لذلك النظر على صعيد الاقتصاد الكلي إلى مسائل الديون؛ وعلى صعيد الاقتصاد الجزئي، إلى تحول البروليتاري، بائع قوة عمله، إلى مستثمر لذاته، مذرر وهش.
في مواجهة هويات ملاذات، حقيقية أو متخيلة، يبدو السؤال السياسي المناسب متمثلا في مقاربة لينين للمسألة القومية: ليس البحث عن جوهر الأمة، أو رسم وجهة للتقدم أو للاقتصاد، بل تمييز المضطَهَد عن المضطَهِد، ومنح دعمنا غير المشروط لذاتية الأول السياسية. و لا ينطبق هذا على ضحايا الاضطهاد القومي بحصر المعنى ومقاوميه، مثل سكان غزة أو الأوكرانيين اليوم، وحسب؛ بل على كل أشكال الاضطهاد – القائمة على القومية والثقافة واللغة والدين والجندر واللون... المنتشرة بفعل العولمة النيوليبرالية .