يناقش أو لونغ يو Au Loong-Yu في هذه الحوار مع فيديريكو فوينتيس Federico Fuentes لـ LINKS مجلة الأممية للتجديد الاشتراكي International Journal of Socialist Renewal، عوامل أدت إلى صعود الصين الاقتصادي الهائل وكيف أصبحت هذه العوامل قيد الأفول، وأهمية «حركة الأوراق البيضاء» التي يرى أنها مؤشر على حلول حقبة جديدة في سياسة الصين.
حوار من اعداد فيديريكو فوينتيس مع أو لونغ يو
هل يمكن تقديم العوامل الرئيسية التي تتيح تفسير النمو الاقتصادي الهائل الذي حققته الصين أثناء العقود الأخيرة؟
كان صعود الصين مذهلاً. بلغ متوسط نمو الناتج الداخلي الخام للصين سنوياً، على مدار العشرين إلى الثلاثين عامًا الأخيرة، ما يناهز نسبة 10%، أو أدنى من ذلك بقليل. مما يعني أن الصين توصلت إلى مضاعفة ناتجها الداخلي الخام كل ثماني سنوات. وعموماً، فإن أي بلد متخلف يتمكن من تحويل عدد كبير من صغار المزارعين إلى عمال في المصانع في مثل هذه الفترة الزمنية القصيرة يشهد نمواً اقتصادياً قوياً، بسبب وجود فارق كبير في الإنتاجية بين القطاعين. مع ذلك، ليس من السهل بلوغ ذلك لكونه يتطلب مبلغا رساميل هائلاً. توجد في اعتقادي ثلاثة عوامل مهمة -غالبًا ما تكون موضع تجاهل- ضرورية لتفسير هذا النمو السريع، على الرغم من عدم كفايتها لتوضيح هذه الظاهرة بشكل تام.
يتمثل العامل الأول في معدل الاستثمار في الصين، والذي يعد الأعلى في العالم، قياساً إلى ناتجها الداخلي الخام. إن مقدرة الصين على صون معدل استثمارات مرتفع لهذه الدرجة على مدى حقبة طويلة الأمد بلا مثيل. ظل معدل الاستثمار في الصين، على مدى السنوات العشرين إلى الثلاثين الأخيرة، متجاوزًا نسبة 40%، ليصل إلى ذروته عند نسبة 45-46% في 2014-2015. ولعل بعض القراء يتذكرون ما سمي بـ «المعجزة الاقتصادية» لدى «التنانين الأربعة»: كوريا الجنوبية وتايوان وهونغ كونغ وسنغافورة. كانت معدلات الاستثمار في البلدين الأولين بوجه خاص مرتفعة للغاية. لكن حتى هذه المعدلات لم تبلغ بأي وجه سوى ما يفوق نسبة 30% من الناتج الداخلي الخام بقليل. نتحدث والحالة هذه عن نسبة ضخمة من الناتج الداخلي الخام مخصصة للاستثمار في مصانع وبنى تحتية جديدة. هذا هو التفسير الأول لصعود الصين: معدل استثمار مرتفع بشكل غير عادي على مدى حقبة زمنية ممتدة.
لكن لفهم هذا العامل بوضوح، أود إضافة ضرورة التفكير فيما حدث في عهد ماو تسي تونغ Mao Zedong. كان معدل الاستثمار في الصين مرتفعًا جدًا أيضًا في العقود الثلاثة الأولى من حكم الحزب الشيوعي الصيني PCC: بلغ معدل الاستثمار، بين عامي 1958 و1980، ما يناهز نسبة 30% سنويًا (دون الأخذ في الاعتبار الحقبة التي أعقبت المجاعة في مطلع سنوات 1960). كان البلد في حالة إنهاك حين توفي ماو عام 1976، لكن الصين كانت أرسَتْ أسس اقتصادها الحديث. كانت تتمتع ببني تحتية وصناعة تحويلية متنوعة وقادرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي أكثر من معظم البلدان التي كانت في مستوى مماثل من التطور. كما كان تمتلك يدًا عاملةً ذات مستوى عال نسبيا من إلمام بالقراءة والكتابة. ما كان ممكنًا تصور حدوث الازدهار الاقتصادي في الصين لاحقًا، بدون وجود هذه العناصر.
كانت الصين بحاجة إلى مزيد من الرساميل، لصون معدلات استثمار أعلى أيضاً، وهذا ما لم تستطع تأمينه باستغلال مواردها المحلية وحسب. كانت التسوية التاريخية التي توصل اليها دنغ شياو بينغ Deng Xiaoping مع الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العظمى مندرجة في هذا السياق، مما أتاح للصين البدء في جذب رساميل أجنبية والاندماج في الرأسمالية العالمية. كان الرأسمال الغربي بداية متردداً في الاستثمار بشكل كبير، خاصة بعد مذبحة 4 حزيران/يونيو في ميدان تيانانمن عام 1989. لذا، كانت الرساميل الأجنبية في أول طور من أطوار «الإصلاح والانفتاح»، تأتي من هونغ كونغ وتايوان، المستعمرتان السابقتان، لبريطانيا العظمى واليابان على التوالي.
يؤدي بنا هذا إلى العامل الثاني، المتمثل في إرث الصين الاستعماري، الذي يكتسي أهمية، لكن أحياناً يتم تجاهله في تحليل صعود الصين بقوة. قد تثير هذه الفكرة حيرة القارئ، نظراً لاعتبار إرث الاستعمار عموماً عائقاً جوهرياً بوجه تطور البلدان النامية. لكن علينا تحليل هذه المسألة بطريقة ملموسة. قد يحدث العكس أيضًا، في بعض اللحظات، ولأسباب معينة. وهذا بالضبط ما حدث في الصين بعد التسوية التاريخية التي أبرمها دنغ شياو بينغ مع الإمبراطورية الأمريكية وإحلال اقتصاد رأسمالي مكان اقتصاد ماو تسي تونغ المخطط.
أتاحت تايوان وهونغ كونغ اقلاع الصين عن طريق مدها بالرأسمال الصناعي والخدماتي (مما أتاح خلق مناصب شغل لعمال الصين المهاجرين من المناطق القروية)، وعبر تكوين الجيل الأول من أرباب المقاولات والمدراء (الذين كانوا نادرين بوجه خاص في الصين في عهد ماو تسي تونغ). اضطلعت هونغ كونغ بدور مهم من نواحٍ أخرى. كانت بكين أثناء الحرب الباردة، تكسب ثلث عملتها الأجنبية من التجارة مع هونغ كونغ. على الرغم من صرامة القيود التي كان الغرب يفرضها. واصلت هونغ كونغ منذ ذلك الحين، أداء الدور الحيوي كمركز مالي لـ «الصين الكبرى»، مما ساعد مقاولات الصين على الحصول على مبالغ ضخمة من الرساميل وتثبيت أسس طموحاتها العالمية. كانت هونغ كونغ بين عامي 2010 و2018، مقراً لثلثي عمليات إدراج مقاولات الصين القارية في البورصة. يمر اليوم ما يفوق نصف الاستثمار الأجنبي المباشر الداخل إلى الصين والخارج منها عبر هونغ كونغ IDE. وبالإضافة إلى ذلك، تعمل هونغ كونغ أساسًا كآلة طباعة للدولار الأمريكي لصالح الصين، نظرًا لأن دولار هونغ كونغ مرتبط بالدولار الأمريكي. قامت ماكاو أيضًا بدورها، حتى وإن كان دورًا أكثر رمزية. عندما وافق دنغ شياو بينغ على ترك المدينة الكازينو مفتوحة بعد إعادتها للصين، كانت تلك طريقته في مخاطبة الغرب: «إذا كان بوسعنا إتاحة وجود مدينة كازينو ضخمة تضم مئات دور القمار على مقربة من حدود الصين، فتصوروا مدى ترحيبنا بالرأسمالية».
تبرز أهمية هذه الموروثات الاستعمارية من خلال سعي دنغ شياو بينغ إلى إبقاء «القوى الأجنبية» في هونغ كونغ وماكاو مع التزامه بمبدأ «بلد واحد ونظامان» (ومن ثم تمتع هونغ كونغ بالحكم الذاتي)، حتى بعد انتهاء عقدي إيجار هاتين المنطقتين في عامي 1997 و1999 على التوالي. اقترح دنغ شياو بينغ تسوية مماثلة على تايوان لكن الأخيرة رفضتها. صحيح على كل حال أن لولا هونغ كونغ وتايوان وماكاو لما شهدنا صعود الصين بقوة، بالأقل ليس بنفس الحجم.
يتمثل العامل الثالث في الدولة- الحزب، التي استطاعت دمج العاملين الآخرين وإتاحة المجال لإرساء دعائمهما. على عكس ما حدث في روسيا مع انهيار الاتحاد السوفيتي، عندما أعاد دنغ شياو بينغ إدخال الرأسمالية إلى الصين، احتفظ بالدولة- الحزب القائمة. مما أتاح لنظامه إمكانية ممارسة مزيد من القسوة وسحق أي معارضة من أسفل. يكيل المعجبون ببكين المديح للصين باعتبارها نموذج «دولة حريصة على تحقيق التنمية»، لكنهم يتجاهلون الثمن الذي دفعه الصينيون لبلوغ مثل هذه المعدلات العالية من الاستثمار. يجب تقليص الاستهلاك والأجور لتأمين مثل هذا المعدل المرتفع من الاستثمار، مما يعني قمع العمال للتأكد من عجزهم عن التنظيم أو خوض إضرابات. مما يفسر سبب بقاء الأجور مجمدة في عهد ماو تسي تونغ على الرغم من تجاوز متوسط معدل النمو الاقتصادي السنوي نسبة 4%.
هنا تكمن الاستمرارية بين ماو تسي تونغ ودنغ شياو بينغ. لم يكن دنغ شياو بينغ أكثر اعتدالاً إلا قليلاً في أعقاب وفاة ماو تسي تونغ، لكن سرعان ما عاد وخلفاؤه إلى سياسة ماو تسي تونغ القائمة على بلوغ معدلات استثمار عالية للغاية. على الرغم من خطاب الحزب الشيوعي الصيني عن «خدمة الشعب»، منذ عهد ماو تسي تونغ، كان الحزب يمنح دومًا الأولوية لتحقيق التصنيع المذهل - الذي لخصه شعار ماو تسي تونغ في «تجاوز بريطانيا العظمى واللحاق بالولايات المتحدة الأمريكية»، على حساب رفاهية الشعب ومستوى معيشته. عندما يكون العمال ساخطين، تقوم آلة الدعاية الحزبية بمجرد نشر شعار «الإنتاج أولاً، ثم الاستهلاك لاحقاً»، أو ما يعادله عسكرياً «القنبلة الذرية أولاً، ثم السراويل لاحقاً».
يوجد بالطبع مبرر منطقي لكي تستثمر البلدان الفقيرة موارد في البنى التحتية ووسائل الإنتاج. لكن في حالة الحزب الشيوعي الصيني، كانت مبالغة في هذه الاستثمارات إلى حد كبير. لم يكن معدل استثماره المرتفع بشكل غير طبيعي ناتج عن الاشتراكية وبرنامج التحديث العقلاني بقدر ما كان ناجماً عن غرور أبرز قادته وأوهامهم الزائفة. في هذا الصدد، تجمعهم قواسم مشتركة كثر مع الأباطرة المتطوعين مثل تشين شي هوانغ Qin Shi Huang، مؤسس أول دولة صينية موحدة عام 221 قبل الميلاد، والذي أشاد ماو تسي تونغ بجسارته الصارمة.
من المهم الإشارة إلى انسياق البيروقراطية دوما وراء حلمها الخاص في تحقيق الثراء الشخصي، بالموازاة مع الدعاية الرسمية حول «الحلم الصيني»، المُستخدم لتبرير سعي الحزب الشيوعي الصيني الحثيث لتحقيق النمو الاقتصادي. مما أدى إلى استيلاء البيروقراطية على «الحلم الصيني» لتحقيق طموحاتها الدنيئة. استغل البيروقراطيون غير الخاضعين للمساءلة أمام أي شخص إلا قادة الحزب، جميع أنواع برامج التحديث لنهب ثروات البلد عبر الفساد والرشوة أو إنشاء مقاولات.
لا يعد هذا الأمر جديدًا بتاتاً. لكن بينما كانت بيروقراطية ماو تسي تونغ عاجزة عن الاستيلاء على الفائض الاجتماعي في شكل قيمة استعمالية، تمكنت بيروقراطية ما بعد ماو تسي تونغ من الجمع بين ممارسة الدولة للإكراه وسلطة المال لتحقيق إثرائها الخاص في شكل قيمة تبادلية. توطدت صفوف البيروقراطية، عبر هذه السيرورة، بطبقة حاكمة جديدة تستولي على فائض الإنتاج –طبقة ترى في إعادة إنتاجها الدائم أولويتها المطلقة. وحرصًا منها على ذلك، عملت باستمرار على إتقان آليات الإكراه التي تعتمدها الدولة- الحزب لانتزاع أكبر قدر ممكن من الفائض الاجتماعي.
أود العودة إلى طبيعة هذه البيروقراطية، لكنكم أشرتم بدايةً إلى التسوية التاريخية التي توصل إليها دنغ شياو بينغ مع الولايات المتحدة الأمريكية. أقدمت الولايات المتحدة الأمريكية، بسبب هذه التسوية، على نقل الإنتاج إلى الصين بعد ذلك بفترة وجيزة. ما تأثير ذلك على إقلاع الصين؟ وكيف يمكن تفسير التوترات الحالية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، بالنظر إلى سيرورة التكامل الاقتصادي التي حدثت في العقود الأخيرة؟
أقدمت الرساميل الغربية واليابانية، بعد عشر سنوات من بدء شركات هونغ كونغ وتايوان في الاستثمار في الصين ونقل الإنتاج إليها، على الشروع في اتباع نفس النهج. شن اليمين المتطرف في بريطانيا العظمى حملات خجولة تدعو إلى خلق «مناصب شغل بريطانية للعمال البريطانيين» احتجاجًا على هذه العمليات الخاصة بترحيل وحدات الانتاج. حدثت ظاهرة مماثلة في الولايات المتحدة الأمريكية. لكن الفكرة القائلة بأن عمال/ات الصين استولوا/ن على مناصب شغل العمال/ات الأمريكيين/ات أو البريطانيين/ات خطأ فادح. ما حدث في الحقيقة أن الرأسماليين الغربيين واليابانيين سلبوا مناصب شغل من «مواطنيهم/تهم»، وبتواطؤ مع نظام الصين خلقوا مناصب شغل بظروف أسوأ بكثير في الصين. على الرغم من أن المصنع نفسه وعدد العمال/ات ذاته، لم تكن مناصب الشغل نفسها، عندما تم نقل وحدات تصنيع المنتجات ذات جودة منخفضة إلى الصين. ليس لأن الأجور وظروف العمل كانت أسوأ بكثير وحسب، لكن أيضًا لأن العمال/ات في الصين كانوا محرومين من الحريات المدنية الأساسية والحق في التنظيم، مما يجعلهم عاجزين إلى حد كبير.
وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن هذه السيرورة الخاصة بترحيل وحدات الانتاج ترافقت في الصين مع خصخصة مقاولات صغيرة ومتوسطة عديدة تابعة للدولة وتسريح ما يفوق 30 مليون عامل/ة. وبهذا المعنى، تحقق تأمين ضمان صعود الصين بقوة كورشة عالمية من خلال تقليص عدد العاملين/ات في قطاعها العام وتشغيل طبقة عاملة جديدة تمامًا قادمة من المناطق القروية لاستغلالها في المصانع الجديدة التي يمولها الرأسمال الأجنبي.
استفاد الرأسماليون الغربيون واليابانيون والنظام الصيني بشكل كبير، في آخر المطاف، من عمليات ترحيل وحدات الإنتاج إلى الصين وفرط استغلال 250 مليون عامل/ة مهاجر/ة (داخل الصين) قروي/ة أعزل/اء فيها. وفي الوقت نفسه، أدى تراجع التصنيع في الغرب واليابان، والخصخصة وعمليات التسريح الجماعي للعمال في الصين إلى خلق أوضاع غير مواتية للعمال في كلا الطرفين. كان ذلك جوهر الاتفاقية التي أبرمها دنغ شياو بينغ مع الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش.
مع ذلك، من المهم إدراك أن تأثيرات هذا الاتفاقية كانت بالفعل قيد التلاشي عندما وصل شي جين بينغ إلى السلطة في عام 2012. كان الطرفان يعتقدان في تلك المرحلة، أن شهر العسل انتهى، خاصة وأن الإمبراطورية الأمريكية لم تكن تتوقع بزوغ الصين بهذه السرعة. يمكن النظر إلى صعود شي جين بينغ ومشروعه المسمى «طرق الحرير الجديدة» من نواحٍ عديدة، على أنه رد على استراتيجية «محور آسيا» الذي أقرتها وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك هيلاري كلينتون عام 2009. أعقبت هذه المبادرة مباشرةً الحروب التجارية التي شنها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الذي كان يؤكد ضرورة فرض الولايات المتحدة الأمريكية رسومًا جمركية على الصين لتحقيقها فائضًا تجاريًا بينما تعاني الولايات المتحدة الأمريكية من عجز تجاري ضخم في ميزانها التجاري.
لكن حجة ترامب خادعة لأنها لا تأخذ في الاعتبار أحد العناصر المهمة: يتكون جزء كبير من صادرات الصين ببساطة من تجميعات مكونات ومواد وتقنيات مستوردة من جميع أنحاء العالم. مما يعني بقاء نسبة ضئيلة للغاية من الأرباح في الصين. وبالتالي كانت الذريعة المطروحة لتبرير الحرب التجارية واهية؛ إذ كان سببها الحقيقي متمثلًا في أن الولايات المتحدة الأمريكية، بصفتها إمبراطورية، لا يمكن أن تتيح بأي حال من الأحوال للصين في غمرة ازدهارها، فرصة تهديد مكانتها الاعتبارية كقوة عالمية.
لكن من المهم أيضًا الإشارة إلى أن الصين تتحمل نصيبها من المسؤولية عن تصاعد التوترات. دأب دنغ شياو بينغ على الاعتقاد دوما بضرورة أن يقوم موقف الصين تجاه الولايات المتحدة الأمريكية على شعار «الابتعاد عن الأضواء وانتظار الفرصة المواتية»، وعدم محاولة تحدي هيمنتها العالمية، بالأقل ليس على مدى قصير أو متوسط. أما شي جين بينغ، من جانبه، فقرر أن الأوان حان لتحدي هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية، استنادًا إلى التقييم الذي عبر عنه شعار «ينهض الشرق، ويتراجع الغرب». أصبح شعار سياسته الخارجية والحالة هذه «التجرؤ على خوض النزاع». تمثلت خطوة شي جين بينغ الأولى نحو هذا الاتجاه في قرار عزمه على عسكرة بحر جنوب الصين في عام 2015. لم يعد ممكناً منذ تلك اللحظة، تعريف ممارسات الصين على أنها دفاعية. لم تكن الصين تحارب الإمبراطورية الأمريكية؛ عبر عسكرة بحر جنوب الصين، بل كانت قبل كل شيء تسلب الحقوق الاقتصادية للبلدان المحيطة بها في المناطق الساحلية لهذه الأخيرة. يلزم والحالة هذه معارضة مثل هذه الأعمال.
كيف أثر المنعطف الذي قام به شي جين بينغ على الصعود الصيني القوي؟
لم يؤد تحليل شي جين بينغ إلى معارضة الولايات المتحدة الأمريكية مباشرةً وحسب، بل أيضًا إلى سحق هونغ كونغ. يعتبر تجرؤ سكان هونغ كونغ على تحدي قانون بكين بشأن تسليم المجرمين أمرًا مرفوضًا، من وجهة النظر الاستبدادية بالطبع، ولا بد من معاقبة المسؤولين عن ذلك. تكمن المشكلة، من وجهة نظر مصلحة النظام الجماعية، في تمادي شي جين بينغ كثيراً. لم يكتفِ بالقضاء على المعارضة وحسب، بل قام أيضاً بتدمير المؤسسات ذاتها التي تجعل من هونغ كونغ مركز الصين المالي. وبالتالي يقوم شي جين بينغ بقتل أوزة بكين التي تبيض ذهبًا، عن طريق إلغاء الحكم الذاتي في هونغ كونغ.
يحدث شيء مماثل مع تايوان. تكمن الحقيقة في تمكن الحزب الشيوعي الصيني من دمج تايوان اقتصاديًا في فلكه. إذا ما قطعت تايوان علاقتها الاقتصادية مع الصين، قد يتعرض اقتصادها لضربة قاصمة للغاية، وحتى قد ينهار تمامًا. علاوة على ذلك، نجح تكتيك الحزب الشيوعي الصيني في جذب حزب الكومينتانغ (الحزب القومي الصيني) إلى معسكره. لكن موقفه العدائي تجاه تايوان يؤدي إلى نتائج عكسية بشكل مطرد.
كان الغرب سابقاً يركز اهتمامه على دور تايوان الاستراتيجي في جيوسياسية شرق آسيا. لكن مع التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي، باتت البلدان المتقدمة تعرب عن قلقها أيضًا بفعل قيام شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات المحدودة (TSMC) بإنتاج نصف الرقائق الإلكترونية في العالم وزهاء نسبة 90% من أكثر الرقائق تطورًا. وهنا تكمن قوة تايوان كوسيلة للمساومة. وعلى عكس هونغ كونغ، تتمتع تايوان بنفوذ أكبر بكثير لصد عدوان بكين، لأن استيلاء بكين على تايوان بالقوة قد يزعج بلداناً عديدة. وهنا مرة أخرى، لم يؤد ما قام به شي جين بينغ من استعراض قوة سابق لأوانه بوجه الولايات المتحدة الأمريكية إلا إلى تفاقم موقف الصين، حيث ردت واشنطن بمنع الصين من استيراد المنتجات المتطورة للغاية وخاصة التكنولوجيا الفائقة الدقة. وما يؤكد كل ذلك أننا في بداية نهاية التسوية التاريخية بين دنغ شياو بينغ والولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا العظمى.
ستواجه الصين صعوبة في مواصلة نموها كما فعلت حتى الآن. تراجع معدل نموها السنوي من نسبة 10% إلى نسبة 5%. والأكثر من ذلك، يعاني اقتصاد الصين من أزمة دورية وهيكلية على حد سواء. كان بوسع الصين سابقاً الاكتفاء بإنفاق مبالغ طائلة على شراء مقاولات أجنبية ذات تكنولوجيا فائقة أو تشغيل أمهر المهندسين من جميع أنحاء العالم للحاق بالغرب. لكن هذا الخيار أصبح أقل فأقل جدوى. لجأت الصين بدلاً من ذلك إلى إنتاج منتجات عالية الجودة في شروط غير مربحة، بفضل دعم الحكومة وفرط استغلال العمال والبيئة. لكن هذا الخيار يصطدم أيضًا بعقبات جمة، ليس بسبب الإجراءات التي اتخذتها واشنطن وحسب، بل أيضًا بفعل تباطؤ اقتصاد الصين، مما يزيد من صعوبة استثمار الأموال بقدر ما كان يحدث من قبل. كما أود إضافة تنافي منطق الابتكار مع الاستبداد الصيني ومجتمعه الشمولي وفق تصور جورج أورويل في رواية 1984.
على الرغم من كل ذلك، من المهم استحضار أن لا الإمبراطورية الأمريكية ولا الصين «شرطيان جيدان». تشهد الإمبراطورية الأمريكية تراجعاً مستمراً، لكن صعود الصين لم يبلغ درجة قدرة بكين على فرض إرادتها على الغرب. لكن بدلاً من الأخذ بنصائح دنغ شياو بينغ، سعى شي جين بينغ إلى الضرب بقوة، وبالتالي خلق أعداءً له. لم يكن عهد شي جين بينغ كارثة على شعب الصين وحسب، بل أصبح بمثابة شوكة في عنق النظام. يجب أن يتحمل شي جين بينغ والحالة هذه نصيبه من المسؤولية عن الصعوبات الجسيمة التي تواجهها الصين في داخل البلد وخارجه.
يؤدي بنا كل ذلك إلى طرح مسألة بيروقراطية الدولة-الحزب. لماذا لا تبذل البيروقراطية أي جهد لعزل شي جين بينغ من منصبه، بالنظر إلى ما قلتم عن سلوكه على رأس البلد؟ وبشكل أعم، ماذا نستشف من كل ذلك عن طبيعة البيروقراطية؟
من المهم بداية الإشارة إلى عدم إمكانية إلقاء مسؤولية كل المشاكل على شي جين بينغ. تشير بعض الشائعات إلى لوم شي جين بينغ أسلافه على ترك اقتصاد الصين في حالة يرثى لها، ردًا على الانتقادات داخل الحزب. هذا صحيح إلى حد ما. اعتقد بيروقراطيون عديدون امكانية نهبهم ثروات البلد دون ضابط ولا رادع، بعد أن ضربوا مثالاً يحتذى به من خلال سحق الاحتجاجات الشعبية بمجزرة 4 حزيران/يونيو عام 1989.
أتاحت الأزمة المالية العالمية في عامي 2007-2008 فرصة ذهبية للسلطات المحلية للإثراء عن طريق تحويل الأموال المخصصة لخطة الإنقاذ التي أقرتها الحكومة المركزية إلى مشاريع ضخمة وصفقات عقارية، مع استحواذ تلك السلطات المحلية لنفسها على مبالغ مالية مجهولة. أدى ذلك إلى خلق الظروف الملائمة لحدوث الفقاعة العقارية وانفجارها، وأصبح شي جين بينغ اليوم ملزمًا بتدبير عواقب ذلك.
تُعتبر كل هذه النخب الحاكمة متواطئة في اندلاع الأزمة التي تشهدها الصين اليوم. تدرك أيضًا أن اتاحة بقاء شي جين بينغ في السلطة يضر البلد والنظام أكثر مما ينفعهما. وينتابها في الوقت نفسه، الذعر الشديد مما قد يحدث إذا ما تآمرت ضد شي جين بينغ: وما الذي سيحصل إذا ما أفضى ذلك إلى بروز حركة جماهيرية من أسفل؟
لفهم ما يجري، من الضروري استيعاب طبيعة البيروقراطية الصينية بشكل جيد. يحمل النظام الصيني جزءًا كبيرًا من الثقافة السياسية التي كانت سائدة قبل الحداثة، مثل تقديس الأشراف وتعظيم «الحقوق» الوراثية «للجيل الثاني أو الثالث الأحمر [الحزب الشيوعي الصيني]»، بالإضافة إلى ما يخترق البيروقراطية برمتها من آليات الولاء الشخصي. مما يعني أن نسخة النموذج الصيني ذات طابع شخصي للغاية، على عكس النموذج المثالي لماكس فيبر الذي يرى أن السمة المميزة للبيروقراطية متجسدة في طبيعتها غير الشخصية.
يؤدي ذلك إلى بروز آلية ثانية متمثلة في الاختيار السلبي للموظفين: يحظى أسوأ الأشخاص بفرص الاستفادة من الترقية أكثر من غيرهم، بينما يتعرض من يقولون الحقيقة أو يتمتعون بمزيد من النزاهة واستقلالية الفكر والموهبة للتهميش. وعلى هذا النحو نصبح في آخر المطاف، مع كبار البيروقراطيين الذين تتمثل أبرز مهامهم في إرضاء الإمبراطور والعمل على تحقيق أكثر أحلامه جنونًا، بينما يحيكون في الخفاء مؤامراتهم الخاصة لتحقيق مكاسب شخصية.
ولذلك لم يكن الابتكار متوافقًا مع الاستبداد الصيني. لا يمنع ذلك الصين بتاتاً من إحراز تقدم في مجال الابتكار، لكنه يحول دون استغلال الصين القسم الأكبر من قدراتها. لم تتضح بعد عواقب ذلك على الأوساط العلمية والتكنولوجية على سبيل المثال. لكن إذا ما نظرنا إلى سياسة «صفر كوفيد» التي اعتمدها شي جين بينغ، يمكن رؤية مدى ضآلة دور الأخصائيين الطبيين، على سبيل المثال، في صياغة سياسة الدولة. بالإضافة إلى أن كل تقدم تكنولوجي يتطلب تكلفة مالية متزايدة باستمرار، لأنه يستتبع فساداً رهيباً.
وباختصار، يمر النظام بحقبة عصيبة للغاية لم يستوعب فيها بعد أنه لا يمثل حلاً للمشاكل، لكنه مسؤول عنها إلى حد كبير. لا يعني ذلك أنه سينهار بسهولة من تلقاء نفسه. لكن هذا يقصد أن أي إجراء متخذ في إطار سباق الاقتصاد والتسلح والتكنولوجيا الجاري حاليًا مع الولايات المتحدة الأمريكية سيؤدي إلى معاناة هائلة للسكان.
ماذا عن حالة اقتصاد الصين بعد انفجار فقاعة العقارات وأزمة الديون في الصين؟
إذا نظرنا إلى نسبة ديون الصين إلى الناتج الداخلي الخام - والتي تمثل إجمالي الديون، بما في ذلك ديون الحكومة وديون الأسر الخاصة - يتضح أنها كانت تناهز نسبة 87% في مطلع سنوات 1990، لكنها انتقلت إلى نسبة 211% في عام 2010، أي بزيادة تتجاوز نسبة 100% في 20 عامًا. تشير الأرقام الصادرة في أواخر عام 2023 إلى أنها تقترب من نسبة 300%، مما يعني أن مستوى استدانة الصين يعادل ثلاثة أضعاف ناتجها الداخلي الخام. تعد الصين البلد الوحيد من فئة البلدان ذات الدخل المتوسط الأعلى الذي يعاني من مثل هذه الدين المرتفع، في حين تشهد بعض الاقتصادات الغربية المتقدمة واليابان نسبة مماثلة من الدين إلى الناتج الداخلي الخام. يبلغ متوسط نسبة الدين إلى الناتج الداخلي الخام للبلدان النامية متوسطة الدخل ما يناهز نسبة 124%. مما يعني تمويل معدل الاستثمار المرتفع في الصين جزئيًا بواسطة كمية ضخمة من الديون. ويُعد سوق العقارات مثالاً على ذلك.
يمثل انفجار هذه الفقاعة العقارية، في رأيي، منعطفًا في صعود الصين. يرجع ذلك إلى استنفاد العوامل الثلاثة التي ذكرت سابقًا باعتبارها ساهمت في صعود الصين لجميع مقدرتها بالفعل. لنستحضر على سبيل المثال إرث الصين الاستعماري: كان هذا العامل دومًا مدعومًا بالتسوية التاريخية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية أو بريطانيا العظمى. لم يؤد قيام شي جين بينغ بالإجهاز على الحكم الذاتي لهونغ كونغ وإصراره على المضي قدمًا في استعراض القوة ضد الولايات المتحدة الأمريكية، إلى حرمان الصين من مركز مالي دينامي - تشتد حاجتها إليه في هذا الحقبة التي تشهد تباطؤًا اقتصاديًا - وحسب، بل تركها أيضًا عرضة لعداء الولايات المتحدة الأمريكية.
ينطبق الأمر نفسه على ارتفاع معدل الاستثمار في الصين. كان هذا العامل دومًا معتمدًا على معدل النمو المرتفع، والذي كان يغذيه سابقًا تحويل أعداد كبيرة من صغار المزارعين إلى عمال في المصانع. لكن برنامج التمدين السريع للنظام أدى إلى نضوب خزان اليد العاملة القروية هذا: في حين كانت نسبة 76% من السكان يعيشون في مناطق قروية قبل 40 عامًا، لم تعد هذه النسبة تبلغ سوى نسبة 35% اليوم، ومعظمهم نساء وأطفال ومسنون. ومن سخرية الأقدار أن معدل الاستثمار المرتفع للغاية الذي اعتمده النظام أدى إلى انهاء ميزته الأولية المستفيدة من عدد سكان الصين الهائل في المناطق القروية. تفاقمت هذه المشكلة بسبب سياسة الطفل الواحد، التي حفزت في حد ذاتها معدل النمو المرتفع في الصين من خلال توفير التكاليف المالية لتعليم عدد كبير من الأطفال، حتى لو كان ذلك على حساب الأجيال اللاحقة. أدى الاتجاه المتسارع نحو شيخوخة السكان، وما نتج عن ذلك من نقص في العمال/ات الشباب/ات، إلى انخفاض معدل النمو في الصين.
علاوة على ذلك، لم يكن معدل الاستثمارات المرتفع سابقًا ممكنًا إلا على حساب استهلاك الأسر المعيشية وبفعل انخفاض الأجور.
انخفض مستوى استهلاك الأسر الصينية إلى حد كبير منذ مطلع سنوات 1990، حيث انتقل من حوالي نسبة 50% من الناتج الداخلي الخام في مطلع سنوات 1990 إلى أدنى مستوى له عام 2014 بنسبة 34-35%. ارتفع بشكل طفيف منذ ذلك الحين، لكنه لم يبلغ نسبة 40%. تواجه الصين، نتيجة لذلك، حالة دائمة من فرط الإنتاج والقدرة الإنتاجية، بينما تتقلص سوقها المحلية نسبيًا، لمعاناة السكان من الفقر المدقع الذي يحول دون شراء المنتجات.
كان رد حكومة الصين عمليًا كالتالي: «لا نحتاج إلى فعل أي شيء حيال ذلك، نستطيع وحسب تصدير فائض إنتاجنا ورساميلنا». وهنا يكمن أحد الأسباب في جعل الصين من أبرز مصدري السلع، ومنذ مطلع القرن، من أكبر مصدري الرساميل. كما أن ذلك يشكل أيضًا السبب في أن «طرق الحرير» ليست مجرد مشروع جيوسياسي، بل أيضًا منفذاً لهذه المقدرات المفرطة. سعت الصين، إذا جاز التعبير، إلى تصدير مشكلتها.
لكن لا يمكن أن يستمر ذلك إلى الأبد، لسبب بسيط متمثل في أن حربًا تجارية جديدة تلوح في الأفق. تتذمر بلدان أوربا من السيارات الكهربائية الصينية الرخيصة للغاية بسبب دعم حكومة الصين، وصرحت الحكومة الأمريكية بالفعل قائلة: «إذا دعمتم سياراتكم، سندعم سياراتنا أيضًا». نشهد والحالة هذه جولة ثانية من الحرب التجارية. لكنها جولة مختلفة عن الأولى. لا أشعر بأي تعاطف مع حكومة الصين: كيف يمكن مواصلة تخصيص ما يفوق نسبة 40% من الناتج الداخلي الخام للاستثمار في الوقت الذي يضطر فيه 600 مليون صيني/ة للعيش بدخل شهري يبلغ 1000 رنمينبي (الاسم الرسمي ليوان؛ ما يناهز 140 دولارًا أمريكيًا)؟ هذا هو الاستغلال المفرط ونقيض الاشتراكية تمامًا.
لا تتسم الاشتراكية بطابع إنتاجي؛ إذ لم يكن هدفها النهائي بأي وجه زيادة القوى المنتجة بلا حدود. تبقى هذه هي الحالة الذهنية الرأسمالية، وليست الحالة الذهنية الاشتراكية. تلحق حكومة الصين الضرر بشعب الصين والبيئة والعالم، عبر صون مستوى استثمار عالٍ إلى هذه الدرجة. لا يعني ذلك أن التدابير الانتقامية التي اتخذتها الحكومات الأمريكية والأوربية لها ما يبررها. تُعد الحرب التجارية الجديدة نتاج رأسماليتها السامة ونزعتها الإنتاجية. لكن الصين قامت بدورها أيضًا عبر الذود عن الرأسمالية والنزعة الإنتاجية السامتين.
صحيح أن إحدى الأوراق الرابحة التي تمتاز بها الصين متمثلة في عدم كون جزء كبير من هذه الديون ديوناً خارجيةً. تبدي الحكومة الصينية حساسية شديدة تجاه فكرة بسط قوى أجنبية نفوذها في الصين، بما في ذلك عن طريق الديون. لذلك فضلت حكومة الصين دومًا الاقتراض بشكل كبير من الشعب. يُعد ذلك أكثر أمانًا بالنسبة للنظام، إذ يدرك وسعه دومًا إلقاء العبء على كاهل شعب الصين بطرق مختلفة. عندما بدأت الحرب التجارية في عام 2016، على سبيل المثال، أكدت الصين عدم توجسها من حرب تجارية. حتى أن أحد ممثلي الدولة تمادى إلى حد القول بأن الصينيين/ات على استعداد لأكل العشب لمدة عام كامل عند الضرورة، للإشارة إلى درجة أشكال المعاناة التي كان الصينيون/ات مهيئين/ات لتحمّلها.
يفضي ذلك إلى العامل الثالث، المتمثل في الدولة-الحزب. إذ شكل هذا العامل الفاعلَ الرئيسي في تضافر جهود العاملين الآخرين لإتاحة فرصة تحديث الصين بوتيرة جامحة، أصبح المجتمع والسكان والبيئة لا يطيقها بشكل مطرد. واليوم، خلق المنطقان الداخليان للدولة- الحزب - نهم لامحدود للفساد وشهية جامحة لإتقان الدولة ممارسة الإكراه - وحشًا يقتات فيه المنطقان. كلما كان إكراه الدولة «محكماً»، تحررت البيروقراطية من أي التزام بالمساءلة عن تصرفاتها. وهذا يخلق مزيدًا من حوافز الإثراء عبر الفساد، مما يتطلب بدوره ممارسة الدولة مزيدًا من الإكراه لحماية البيروقراطية. لكن لكل شيء حدوداً.
تبرز أزمة سوق العقار حدود المنطق الأول. فبالنظر إلى أن الأراضي في المناطق الحضرية تابعة للدولة وتديرها السلطات المحلية، قامت هذه الأخيرة و«أدواتها المالية» LGFV [أداة للحصول على تمويل الحكومة المحلية-المترجم-] وزملاءها المصرفيون والمنعشون العقارين بالهيمنة على هذه السوق. كانوا جميعاً سبب تراكم ديون بمليارات الدولارات. خلقوا فقاعة عملاقة حيث تم بناء عدد كبير من شقق جديدة منذ عام 2009، قد تتيح مساكن لـ 250 مليون شخص، بينما يصل معدل المساكن الشاغرة حاليًا إلى نسبة 25%.
من ناحية أخرى، يشكل بروز «حركة الأوراق البيضاء»، ردًا على سياسة "صفر كوفيد" التي اعتمدتها الحكومة، مثالاً على حدود المنطق الثاني. لم يشكل ذلك بأي وجه «حجراً صحياً»، منظمًا قانونياً لمنع انتشار الفيروس. بل كان ما أسميته «حبساً»، لأن الناس ظلوا لمدة ثلاث سنوات مسجونين في أحيائهم أو منازلهم بسبب مجرد وجود حالة كوفيد دون اهتمام بمدى توفر الطعام أو الدواء الذي يحتاجونه. لماذا؟ بسبب الفكرة الساذجة التي مفادها امكانية الوصول إلى مستوى الصفر من كوفيد. وفي الوقت نفسه، لم يكلف النظام نفسه عناء استيراد كميات كافية من لقاحات أكثر فعالية من البلدان الغربية. مع ذلك، أدت هذه السياسة إلى منح النظام فرصة ذهبية لإحكام قبضته على السكان. كان ثمة سبب آخر لهذا الجنون الواضح: كانت سياسة مربحة للغاية للقائمين على البلديات والمقربين إليهم، سواء موزعي المواد الغذائية أو الشركات المسؤولة عن إجراء اختبارات كوفيد.
لكن الحقيقة المزعجة بالنسبة للنظام متمثلة في وجود حدود لمقدار الألم الذي قد يتحمله شعب الصين قبل أن ينتفض. أصبح هذا النظام لا يطاق على نحو متزايد، كما رأينا مع حركة الأوراق البيضاء.
هل يمكن توضيح أهمية حركة الأوراق البيضاء إلى حدما؟
بدأت حركة الأوراق البيضاء كرد فعل مباشر على الحبس بسبب سياسة صفر-كوفيد، لكنها أصبحت لحظة تاريخية مهمة لكونها حققت انتصارًا بينما تكبد النظام هزيمة إلى حد ما. عند الحديث عن هذه الحركة، من المهم الاعتراف بالدور الذي قام به بينغ زايتشو Peng Zaizhou الذي تظاهر بمفرده على جسر سيتونغ Sitong في بكين صباح يوم 13 تشرين الأول/ أكتوبر، أي قبل ثلاثة أيام فقط من انعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني، وذلك في خضم جائحة كوفيد وحجر صحي مطبق. وقد علّق لافتتين على الجسر، كُتب على إحداهما شعار «نحتاج إلى الطعام وليس اختبارات PCR (سلسلة تفاعل البوليمراز). نريد الحرية، لا الحبس. نبغي الاحترام لا الكذب... نرغب في أن نكون مواطنين لا عبيدًا». وعلى الرغم من عدم استجابة أحد لدعوته في ذلك الفترة، أدى اندلاع الحريق في مبنى أورومتشي في 24 تشرين الثاني/نوفمبر إلى بروز موجة تظاهرات في ما يفوق 20 مدينة ضد الحبس الناجم عن سياسة صفر -كوفيد التي ينتهجها الحزب الشيوعي الصيني. كان سبب سخط المتظاهرين/ات إلى حد كبير متمثلاً في أن الوفيات العشر التي وقعت في الحريق كانت عاقبة مباشرة لانتهاج النظام سياسة الحبس، مما يعني عدم وجود أية آليات إطفاء جاهزة بما يكفي لإنقاذ الضحايا.
لكن سرعان ما رددت التظاهرات مطالب بينغ زايتشو وأجبرت الحكومة في نهاية المطاف على التراجع عن سياسة «صفر -كوفيد». بالطبع، قد يعترض البعض على وجهة النظر هذه، ويقولون: «نعم، لكن الخبير الحكومي كان ينصح بالفعل بوضع حد لسياسة صفر كوفيد»: «حسناً، كان متخصصو الحكومة ينصحون بالفعل بإيقاف هذه السياسة لعدم نجاعتها ولاستحالة تنفيذها» يلزم حذف إحدى الجملتين. قد يكون ذلك صحيحًا. لكن كل ما يحدث في الصين ناتج عن قرارات سياسية، وليس عن قرارات متخصصين؛ إذ يتحمل كبار القادة، أي المكتب السياسي، مسؤولية اتخاذ القرار النهائي. يؤدي بنا ذلك إلى طرح سؤال مشروع: لماذا هذا التغير المفاجئ في السياسة؟ لا نملك معلومات كافية لتحديد العامل الحاسم: هل الأصوات المعارضة داخل قيادة الحزب أو توصيات المتخصصين أو التظاهرات الجماهيرية. لكن هذه الأصوات المعارضة وتوصيات المتخصصين ينبغ عدم مقارنتها بما قامت به التظاهرات الجماهيرية من دور. ومن الخطأ السعي إلى التقليل من شأن الحركة أو تجاهلها.
كان هذا الانتصار مهمـّا لأن شعب الصين كان مضطهدًا إلى درجة حرمانه من التمتع بحق احترام الذات. ويستخدم البعض الآخر مصطلح «المعادن البشرية» التي يستغلها الحزب الشيوعي الصيني. يطلق أناس كُثر على أنفسهم اسم «الكراث»، أي الخضروات التي يلتمس نظام الحزب الشيوعي الصيني محصولها باستمرار. يطرح ذلك فكرة عن التشاؤم العميق السائد بين السكان والإحساس بتعذر فعل أي شيء بوجه القمع والاستغلال. بالطبع، لا يعتقد الجميع نفس الشيء. كانت هناك حركات مقاومة - على سبيل المثال إضرابات وردت على شبكات التواصل الاجتماعي - لكنها كانت ذات طابع مشتت وجزئي للغاية ونادراً ما كانت ذات أبعاد سياسية.
تكمن أهمية حركة الأوراق البيضاء في أنها أدت إلى استيقاظ همم الشباب، بالرغم من عدم إمكانية الجزم بعكسها تغيرًا كاملًا في ذهنية الشعب، من القبول بالوضع القائم إلى مقاومة باسلة. لم تحفز المواطنين العاديين على الاحتجاج على الحبس والعمال على الاعتراض على إلزامهم بالعمل والنوم والأكل في نفس المكان وحسب، بل أتاحت لهم أيضًا انتزاع حقهم في الحرية، ولو مؤقتًا. أدت إلى فتح أعين كثر، خاصة بين الشباب.
كانت إحدى العواقب الوخيمة للقمع الذي أعقب عام 1989 متمثلةً في إزالة طابع التسيس. لم يتجرأ الشباب طيلة 30 عامًا على الحديث عن السياسة. كانوا يركزون فقط على دراستهم ومسارهم المهني. لكن مع حركة الأوراق البيضاء، أخذ الطلبة/ات الشباب/ات زمام المبادرة في الحركة الاحتجاجية وأصبحوا/ن على نحو أكثر مباشرة ووضوحًا في هجومهم/ن على النظام. أقدموا/ن على عقد اجتماعات على شبكة إنترنت وبدأوا/ن يقولون/ن في التظاهرات: «يجب معاتبة أنفسنا على التزامنا الصمت أثناء الانتفاضة والقمع في هونغ كونغ، وأيضًا أثناء القمع ضد الأويغور. ينبغي عدم السماح للحكومة بنشر الانقسامات بيننا وإخضاعنا». هذا أمر مهم للغاية.
بالطبع، علينا توخي الحذر بشأن حجم هذه الصحوة - إذ أنها ذات طابع متفاوت للغاية، وفي الواقع، خبت زخم الحركة منذ نهاية سياسة صفر -كوفيد. في حين كان آلاف الطلبة/ات الصينيين/ات المقيمين/ات بالخارج يتظاهرون/ات في نيويورك ولندن وغيرهما، تضاءلت أعدادهم/ات بسرعة كبيرة، حيث لم يعد يشكل المناضلون/ات النشطون/ات في الميدان سوى دوائر صغيرة جدًا. لا يعد ذلك أمرًا مفاجئًا نظرًا لشراسة القمع وعدم استعداد هؤلاء الشباب. لكن حدوث نقاشات على شبكات التواصل الاجتماعي مثل تويتر وإنستجرام وتليجرام وغيرها، بين طلبة/ات صينيين/ات مقيمين/ات بالخارج وآلاف الصينيين/ات من القارة الصينية، وتمكنهم من تبادل كل هذه الأفكار والآراء السياسية وتقاسمها فيما بينهم، يعد تقدمًا دالا مقارنة بما حصل في الثلاثين عامًا الأخيرة المتسمة بعدم التسيس، حتى وإن كان الطريق لا يزال طويلًا.
كيف يؤثر كل ذلك على مسألة صعود الصين؟ وكمال نعتقد، أدى التحديث والتصنيع السريعين في الصين أيضًا إلى تغيير الهياكل الطبقية والثقافات في البلد. لم يعد من السهل على أرباب العمل خداع العمال/ات اليوم، بسبب تمركزهم/ن في المدن من جهة، ومن جهة أخرى بفعل نضالاتهم/ن العفوية - فضلاً عن العمل الذي قامت به المنظمات غير الحكومية دفاعا عن العمال في المرحلة السابقة. أما بالنسبة للطبقة الوسطى الحضرية، إذا افترضنا إمكانية توليها قيادة الحركة الديمقراطية، فإن ذلك الاحتمال لم يتجسد بأي وجه. لكنها أخذت بالتدريج تتبنى أفكارًا أولية للغاية حول مفهوم المسؤولية وحقوق الإنسان، الخ.
في حين أن برنامج تحديث الحزب الشيوعي الصيني لم يؤد بعد إلى خلق القوى القادرة على هز أسس النظام بشكل جوهري، فإنه أثار تنامي نفاد صبر الحزب نفسه. أصبح صعبًا باطراد على الحزب الشيوعي الصيني صون مشروعه التحديثي بأي ثمن. وعلى الرغم من عدم انتزاع الصينيين/ات حقوقهم/ن الديمقراطية حتى الآن، أظهرت حركة الأوراق البيضاء تطور ذهنيتهم/ن وتنامي وعيهم/ن السياسي - ببطء شديد، انطلاقًا من مستوى متدنٍ جدًا وبطريقة غير متوازنة للغاية، لكنه وعي يحرز تقدماً.
لا أحد يستطيع تحديد ما سيحدث بعد ذلك. لا يمكن تقديم توقعات حول نوع من أنواع التقدم الخطي عندما نتحدث عن مستقبل الصين. يدرك الحزب الشيوعي الصيني تمامًا ما يحدث ويفكر في طرق لقلب مسار الوضع. وتتمثل أحد الرهانات المطروحة أمامه في تحويل انتباه الشعب عن المشاكل الداخلية باتجاه أعداء خارجيين - حقيقيين أو خياليين. ولذلك تعتمد حكومة الصين بشكل مطرد موقفًا ذا نزعة حربية في دبلوماسيتها. يعتقد الحزب الشيوعي الصيني امكانية حل مشاكله الداخلية عبر الدخول في حرب مع دولة أجنبية، وبالأخص بشأن مسألة تايوان، أو عبر مفاقمة تصعيد حدة التوترات القائمة.
يتعذر تصور ما الذي سيفعله النظام فيما بعد. من الواضح، مهما يكن الأمر، أننا ندخل مرحلة جديدة، وعلينا الاستعداد لها.