سلطت الاشتباكات العنيفة، التي اندلعت بين الميليشيات في مايو 2025 في حي طرابلس السكني، الضوء على عدم الاستقرار المزمن في ليبيا. فقد ظل البلد مقسمًا بين حكومتين، وسادت تلك الجماعات المسلحة، في سياق الفساد المتفشي. ومع ذلك، قد تقلب الأحداث الأخيرة هذا الوضع القائم.
شهدت ليبيا، منذ عام 2014، وجود سلطتين متنافستين. تسمى الأولى، المتمركزة في العاصمة طرابلس، والتي تغير اسمها على مر السنين، حكومة الوحدة الوطنية… يترأسها الوزير الأول عبد الحميد الدبيبة والمجلس الأعلى للدولة، وهو نوع من البرلمان معترف به دولياً، يحكم قسم البلد الغربي . والثانية بقيادة المشير خليفة حفتر، على رأس جيش وطني ليبي مزعوم، يساند حكومة استقرار وطني وبرلماناً يسمى مجلس النواب. يمتد نفوذ حفتر إلى القسم الشرقي و إلى نسبة عالية من جنوب البلد. فإذا كانت السلطتان قد توطدتا اعتمادا على الميليشيات، فإنهما تختلفان من حيث درجة توحيدها والسيطرة عليها، وبدرجة أكثر أهمية من جانب حفتر.
نجمت هذه الجماعات المسلحة عن خصوصية الثورة الليبية، المنبثقة من تنظيم السلطة، حيث تظل القبائل فاعلاً رئيسياً في حياة البلد الاجتماعية والسياسية. انضافت إلى ذلك سهولة الحصول على الأسلحة بعد سقوط القذافي. وعلى هذا النحو، توطدت تدريجياً سياسة اقتصادية فريدة من نوعها، قائمة على السطو على موارد البلد، والتسلل إلى هياكل الدولة، وبناء توازن سلط بين الميليشيات ظل هشاً سيما في غرب البلد.
ميليشيات طرابلس...
تستمد هذه التشكيلات في طرابلس قوتها جزئياً من قدرتها عسكريا على مرافقة ودعم حكومة الوفاق الوطني (التي ستصبح، بعد العديد من التقلبات، حكومة الوحدة الوطنية) المنبثقة عن اتفاقات الصخيرات (1) والمفترض أن تعد الانتخابات. لم تعد الميليشيات تظهر بما هي مجموعات مسلحة، محظورة بموجب الاتفاقات، لكنها تعرّف نفسها على أنها قوات شرطة معتمدة من قبل وزارة الداخلية.
ستطرد هذه الوحدات عسكريا جماعات مصراتة المسلحة (2) من طرابلس، بفضل استقوائها بهذه الشرعية المعترف بها دوليا. وستقوم بمجرد الاستيلاء على الأرض بتعزيز انشطتها البوليسية ضد الجريمة والاتجار في الممنوعات بمختلف أنواعها، وإن كانت بدورها تتعاطى لهذه الأنشطة غير القانونية. كما سوف تُرضي الأممُ المتحدة والدول الغربية على السواء بقدرتها على الظهور كضامن لقطب الاستقرار والأمن الضروري لمكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية. ثمة ست ميليشيات تؤدي دوراً بارزاً في طرابلس.
• كتيبة ثوار طرابلس بقيادة هيثم التاجوري وهاشم بشير، متمركزة في حي سوق الجمعة، مسؤولة عن حالات اختفاء وتعذيب في مراكز احتجاز غير رسمية. تورط هذان القائدان في اختلاس أموال، بالعنف أحياناً للحصول على خطابات اعتماد (وثائق مالية تصدرها المصارف- م).
• تتمركز أيضا كتيبة نوازي، التي تقودها عائلة قدور، في سوق الجمعة. وهي من تولت تجهيز جهاز الاستخبارات. أعضاؤها مسؤولون عن قمع المظاهرة التي جرت عام 2020.
• قوات عبد الغني الكيكلي الملقب بـ ”غنيوة“، والمعروفة باسم قوات الأمن المركزية ثم جهاز دعم الاستقرار ، متمركزة في حي أبو سليم. وقد كانت حاسمًة في صد هجمات قوات حفتر على طرابلس عام 2020، لكنها خسرت في اشتباكات 13 مايو الماضي.
• تأثرت قوات الردع الخاصة، المعروفة عادة باسم قوة الردع، والمتمركزة بمطار معيتيقة بقيادة عبد الرؤوف كاره، تأثرا كبيرا بالمقاتلين المنتسبين للتيار المدخلي (3). وهي متخصصة في مكافحة الإرهاب وتهريب المخدرات والمس بالإسلام. وقد منع هؤلاء المقاتلون الدورة الثانية من Comic-Con Libya، مهرجان رسوم متحركة يتهمونه بالشيطانية، وهاجموا المهرجانات الشعبية، بوصفها أماكن فساد أخلاقي. قوات الردع هذه مسؤولة عن مركز احتجاز بمطار معيتيقة حيث شاعت جرائم القتل والتعذيب. وهي حاليا في مواجهة مع حكومة طرابلس.
تنضاف إلى ذلك الكتيبة 301، تضم مقاتلين من غرب البلد ويتحدر قادتها من مصراتة، والفيلق 444، الذي سيؤدي دوراً حاسماً في المواجهات الأخيرة وهو تابع لوزارة الدفاع.
تستند سلطة عبد الحميد الدبيبة كثيرا الى هذه الجماعات، سيما وأن انتخابه مثير للجدل. فقد تم تنصيبه في فبراير 2021 رئيسا للوزراء في منتدى الحوار السياسي الليبي بفضل توزيع رشاوي خفية. وقد جمع خبراء الأمم المتحدة أدلة على أن ثلاثة أعضاء على الأقل تلقوا أظرفة تحتوي على 200 ألف دولار مقابل تصويتهم.
… إلى جيش بنغازي الوطني الليبي
يخضع الجيش الوطني الليبي، بخلاف طرابلس، لقيادة موحدة. في البداية، تشكل الجيش الوطني الليبي من تكتل عسكر قدامى موالين للقذافي ومدنيين، انضم إليهم جنود محليون ومقاتلون أجانب مثل السودانيين والتشاديين وميليشيات مدخلية. تمكن حفتر من إخراج جيشه للعلن في معركة بنغازي عام 2016 ضد الإسلاميين، بفضل دعم الإمارات العربية المتحدة الكبير. تبنى المشير حفتر خطابا منسجما مع الرؤية السياسية التي ترغب الإمارات تحقيقها في المنطقة. مشروع متمحور حول الاستقرار، وسلطة استبدادية تقود الحرب ضد الإسلام السياسي.
تمكن هذا الجيش من الانتشار تدريجياً في جنوب البلاد، والسيطرة على الهلال النفطي حيث تتواجد أهم آبار الذهب الأسود.
تُخاض في كل مرة معاركه المختلفة باسم مكافحة الإرهاب والجهادية، ما يمكنه من كسب دعم دولي عريض. منحت مصر دعمها التقني، ونشرت روسيا مرتزقة فاغنر، ومولت الإمارات العربية المتحدة، وتدخلت فرنسا بقواتها الخاصة، في سرية تامة.
تنتشر ميليشيات أخرى عبر البلد. ، تتميز في أقصى الجنوب بطابعها الدفاعي المجتمعي، سيما بالنسبة للتبو والأمازيغ. وتجدر الإشارة أيضًا إلى ميليشيات مدينة مصراتة الساحلية التي تؤدي دورًا مهمًا من خلال تحالفاتها المتقلبة.
مخططات سلام متواترة وعديمة الفعالية
يتمثل العنصر المشترك بين الجماعات المسلحة والحكومات المختلفة والمؤسسات الأخرى، سواء في طرابلس أم بنغازي، في سعيها إلى إفشال كل حل سياسي قد يخلص البلد من حالة الفوضى، ويهدد مصالحها الاقتصادية. لخص عبد الله باثيلي، مبعوث الأمم المتحدة السابق، الوضع جيدا عندما قال:” لا يريد معظم القادة الليبيين إجراء انتخابات“.
وقد أجهدت هذه الوضعية أكثر من تسعة مبعوثين خاصين للأمم المتحدة، حاولوا جميعهم، دون جدوى، إنشاء سلطة مشتركة تروم تنظيم الانتخابات. المبعوثة الحالية، وهي العاشرة تواليا، هي وزيرة الخارجية الغانية السابقة، هانا سيروا تيتيه. وقد عرضت للتو خارطة الطريق الخاصة بها، التي لا تختلف كثيرًا عن الأخريات. والهدف إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية تنظمها حكومة موحدة في غضون 12 إلى 18 شهرًا. ليس ثمة سبب موضوعي لكي تلاقي هذه الخطة نجاحاً ما. ومع ذلك، ثمة رغبة مشتركة لدى غالبية الليبيين/آت في تحقيق حكامة ديمقراطية، كما دلت الانتخابات البلدية في القسم الغربي من البلد، والتي شهدت مشاركة انتخابية بلغت 74٪. جرى إلغاء الانتخابات في المنطقة الشرقية حيث يتحكم المشير حفتر، كما تعرضت بعض مكاتب الاقتراع في القسم الغربي للحرق على يد جماعات مسلحة، ما يكشف رغبة إبقاء على الوضع القائم ومن تم تكميم أفواه السكان.
اقتصاد سياسي فريد
برغم انقسام ليبيا، تظل بعض المؤسسات موحدة، مع كونها موضوع خلافات عنيفة أحيانا. ومن بينها المؤسسة الوطنية للنفط . وهي البنية الوحيدة المخولة ببيع النفط الليبي في الخارج. وتودع العائدات في البنك المركزي الليبي. ويساهم هذا الأخير في ميزانية كلا كياني طرابلس وبنغازي، بما في ذلك رواتب مقاتلي الميليشيات التابعة - على الأقل رسمياً - للهياكل الحكومية.
تمر مختلف عمليات الاختلاس التي تمول الميليشيات في المقام الأول عبر تسريب الوقود المكرر. هذا الأخير مدعوم بصورة مفرطة، لكن معظم الشحنات لا تصل أبداً إلى محطات وقود البلد حيث يعاد بيعها في الخارج، مدرة على هذا النحو أرباحاً طائلة على هؤلاء المهربين. نظام آخر هو الاحتيال في بطاقات الائتمان. يمنح البنك المركزي الليبي العملات الأجنبية، بالدولار أو باليورو على السواء، على قاعدة سعر الصرف الرسمي بقصد حفز استيراد السلع. يستفيد منها قادة الميليشيات، سواء في طرابلس أو بنغازي، دون استيراد أي شيء، ويتداولونها في السوق السوداء، مضاعفين قيمتها بالدينار ثلاث بل أربع مرات. لا يمكن القيام بهذه الممارسات غير القانونية على نطاق واسع إلا بتواطؤ من السلطات.
ينضاف إلى هذه الأنواع المختلفة من التهريب الاتجار في البشر، الذي يستخدم الأموال الأوروبية الموجهة لمكافحة الهجرة السرية.
إذا كان بإمكان جميع الفصائل والقادة السياسيين إيجاد ضالتهم في هذا الفساد المستشري، فإنه مع ذلك لا يلغي تنافس كلا الجانبين، مع رغبة كل طرف في زيادة سلطته بل التحكم في مجمل السلطة في ليبيا. هكذا حاول حفتر الاستيلاء على طرابلس عام 2019 في حرب استمرت قرابة عام. من جانبه تهجم الدبيبة على محافظ البنك المركزي، ملقيا باللوم على سياسته المكلفة، سيما قربه الشديد من سلطات بنغازي من خلال تمويل إعادة إعمار شرق البلاد المتضرر بشدة من إعصار دانيال، خصوصا في درنة، حيث انهارت السدود. حاول إبراهيم الدبيبة، حفيد رئيس الوزراء، بدعم من الميليشيات، إبدال صادق الكبير، محافظ البنك المركزي الليبي، بشخص موالٍ لعشيرتهم. فر الكبير، منددا في الآن ذاته بعمليات اختطاف أطر البنك كوسيلة للضغط من أجل اختلاس الأموال. وسرعان ما وجد الدبيبة البديل العميل نفسه عاجزاً، حيث أن البنوك الدولية الكبرى جمدت جميع المعاملات، وأوقف حفتر صادرات النفط. وبذلك تم تعيين ناجي عيسى بلقاسم، مدير الرقابة النقدية والشخصية التوافقية، على رأس البنك المركزي الليبي تحت اشراف الأمم المتحدة.
الرغبة في تعزيز مواقعه
عزز المشير حفتر في بنغازي سلطة عشيرته العائلية بتعيين أبنائه في مناصب استراتيجية أو مربحة. يدير المنتصر حفتر شركات عقارية في فرجينيا بالولايات المتحدة الأمريكية، تقدر أصولها بثمانية ملايين دولار. ويتولى بلقاسم حفتر رئاسة الصندوق الإنمائي لإعادة إعمار شرق ليبيا بميزانية 10 مليارات دينار ليبي. وتم تنصيب صدام حفتر نائباً لقائد الجيش الوطني الليبي، وهو الوجه البارز لخلافة والده. وعين خالد حفتر رئيسا أركان قوات الشرق. كبار قادة الجيش الوطني الليبي هم أيضًا رجال أعمال يستنسخون النظام الاقتصادي السائد في مصر أو السودان، حيث استحوذ كبار الضباط على أهم الشركات الصناعية والتجارية والزراعية في البلد.
وثمة في طرابلس تقاسم بين النخب المنبثقة عن الميليشيات أو الوزارات أو البرلمان، مكونة نوعًا من التوازن عبر إقامة تحالفات هشة. وسوف تجازف كل ميليشيا تحاول السيطرة على زمام الأمور بتعريض نفسها لخطر تحالف الميليشيات الأخرى ضدها. ففي سبتمبر 2021، هاجمت ميليشيا جهاز دعم الاستقرار، التابعة لغنيوة ثكنة خليفة التكبالي، مقر اللواء 444 تحت اشراف وزارة الدفاع. إن رائد اللواء 444 العقيد محمود حمزة هو الذي اختطف سنتين فيما بعد، على يد قوات الردع مسفرا عن مقتل حوالي خمسين شخصا أثناء الاشتباكات بين الجهازين. كان تحريره ثمرة لمفاوضات بين المجموعتين تحت اشراف سلطات طرابلس.
اشتباكات 13 مايو
حدثت آخر مواجهة مهمة في 13 مايو الماضي، أسابيع قليلة قبل العيد. اغتيل غنيوة، زعيم جهاز دعم الاستقرار، في مقر كتيبة 444، التي هاجمت الجهاز على الفور، مسببة تفكيكه.
لقد اكتسب غنيوة، مع مضي الوقت، بصفته مجرما سابقا، نفوذاً متزايداً في جهاز طرابلس الأمني، ونجح في التسلل إلى جهاز الدولة والبنك المركزي والشركات العامة الرئيسية. تدهور التحالف القائم بين الدبيبة وغنيوة. فقد تحولت ميليشيا جهاز دعم الاستقرار من حليف إلى منافس قوي لرئيس الوزراء، على الأقل على المستوى الاقتصادي. تمثل موضوع النزاع في التحكم في شركة الاتصالات الوطنية، بغنيمة حربية تقدر بعدة مليارات من الدنانير. أراد الدبيبة، مستقويا بنجاح العملية ضد جهاز دعم الاستقرار، تمديده ضد قوات الردع، بدعوى مكافحة الميليشيات، التي ترجمت عمليا إلى مكافحة إحدى الميليشيات. لكن قوات الردع قاومت بدعم من عدة ميليشيات مصراتية أخرى قادمة لتعزيزها. أعلن عن وقف إطلاق النار بعد يوم من المعارك، تلاه اتفاق بين الفرقاء بإشراف مسؤول عن المخابرات التركية. كانت قوات الردع في مرمى نيران الدبيبة لأن هذه القوة عارضت رئيس الوزراء بشكل متزايد، وساندت محافظ البنك المركزي.
ساد مجددا هدوء مشوب بالحذر في طرابلس. جلي أن الدبيبة خرج ضعيفاً من هذه المواجهة. فقد كشف تعيين محمد المنفي، رئيس المجلس الرئاسي الليبي، حسن بوزريبة على رأس ما تبقى من جهاز دعم الاستقرار، برغم ضعف سلطة هذه المؤسسة، وجود خلافات. في الواقع، يتحدر حسن بوزريبة، ذراع غنيوة الأيمن السابق، من عائلة كبيرة وكان معارضا جريئا للدبيبة. وله علاقات جيدة مع المشير حفتر ولديه القدرة على إعادة بناء جهاز الأمن الوطني. علاوة على تشكل تحالف بين ميليشيات مصراتة والردع. أخيرًا، فقد رئيس الوزراء مصداقيته تمامًا أمام أعين السكان الذين يرون فيه المسؤول الأول عن الاشتباكات العنيفة باستخدام الأسلحة الثقيلة في وسط حي سكني، في حين أنه سبق أن وعد بإعادة السلام والنظام.
تشكك حاليا الدوائر الدبلوماسية الرئيسية في قدرة الدبيبة على القيام بدوره كزعيم لطرابلس وكضامن للتوازن بين القوى المختلفة المتواجدة بالعاصمة.
إعادة تشكل محتملة
إذا كانت تركيا المساند الرئيس لحكومة الوحدة الوطنية في طرابلس، فإن هذا التشكل بصدد التحول. فسياسة الدعم هذه مدفوعة في المقام الأول بمصالح تركيا الاقتصادية والجيوسياسية الخاصة. وهكذا، اشترط رجب أردوغان دعمه العسكري للجيش الوطني الليبي – الذي كان حاسماً في هجوم قوات حفتر على العاصمة – بتوقيع اتفاق اقتصادي مواتٍ للغاية لأنقرة لاستغلال نفط البحر الأبيض المتوسط.
دفع إضعاف رئيس الوزراء على الساحة الليبية السلطات التركية إلى تنويع تحالفاتها، سيّما مع عشيرة حفتر. لذلك توجه صدام حفتر إلى اسطنبول، حيث التقى بوزير الدفاع التركي ياشار غولر ورئيس الأركان سيلجوك أوغوز. انعقد، بعد هذه الزيارة غير المسبوقة، لقاء آخر، هذه المرة بين المشير حفتر ووزير الخارجية هاكان فيدان - أحد كبار مسؤولي حكومة أردوغان - وإبراهيم كالين، رئيس جهاز الاستخبارات الوطنية التركي. المقابلات التي تجري في إطار حملة حفتر الدبلوماسية في اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية، بل ايضا فرنسا وإيطاليا، التي لازالت داعمة لطرابلس.
ثمة عامل آخر غالباً ما يستهان به، متمثل في قوة التيار الإسلامي المدخلي المتنامية. حاضر، كما رأينا، مع تأثير بارز في قوات الجيش الوطني الليبي التابعة لحفتر، ويسيطر على ميليشيا الردع في طرابلس. وله أتباع أيضا داخل ميليشيات أخرى عبر البلد، كما له مقدرة على تخطي الانتماءات القبلية.
لعل اشتباكات 13 مايو قد فتحت فصلاً جديداً حول إضعاف الدبيبة. فقد تدمر معسكره بفعل معارضة بعض ميليشيات مصراتة والردع التي من شأنها أن تصبح حصان طروادة حفتر في طرابلس. تآكلت مصداقية رئيس الوزراء السياسية ولم يعد أنصاره الدوليون يترددون في إقامة علاقات مع خصمه الرئيس، المشير حفتر. وقد توصل هذا الأخير إلى تحقيق نجاحات موسعا نفوذه في الجنوب، ومسيطرا على أهم حقول النفط، ومحافظا على علاقات جيدة مع قسم من قادة مؤسسات البلد العامة الرئيسية التي تتخذ من طرابلس مقرا لها.
مهما بدا ذلك متناقضاً، فإن خارطة الطريق الجديدة للأمم المتحدة التي تروم إعادة توحيد السلطتين السياسيتين في البلد قد تكون مناسبة لحفتر لإثبات قدرته على تقديم ضمانات لمختلف الفاعلين الدوليين، حتى لو كانت أجنداتهم متعارضة. ويمكن أن يوفر لدول الخليج، استقرارًا سياسيًا قائمًا على قمع الحركات المدنية بقدر ما هو قائم على التيار الإسلامي المحافظ المتمثل في المدخليين. كما يمكنه أن يضمن لروسيا دوام سيطرتها على جنوب البلد لتنظيم التدفقات اللوجستية لمرتزقتها في أفريقيا ويوفر للبلدان الأوروبية رقابة صارمة للهجرة. يتوج كل ذلك بزيادة صادرات النفط. جلي أن حفتر بعيد عن الحصول على دعم بالإجماع، سيما من جانب قادة الميليشيات الذين يواجهون، في ظل هذه الظروف، خطر فقدان سلطتهم ومصادر تمويلهم. ولكن في غياب دعم من الخارج، يتجه ميزان القوى الدبلوماسي والعسكري في غير صالح الميليشيات، خاصة إذا ما هددت القوى الغربية بفرض عقوبات اقتصادية وتجميد الأصول بدعوى عرقلة وحدة البلد.
ظل السكان الخاسر الأكبر. إنهم سيواجهون، بعد المعاناة من دكتاتورية القذافي، ثم من دكتاتورية الميليشيات المختلفة، محسوبية استبدادية كما دلت على ذلك انتهاكات حقوق الإنسان الممنهجة التي ذهب ضحيتها المعارضون/آت في المناطق التي يسيطر عليها آل حفتر.
سوف تسهم إعادة التشكل في ليبيا، بالنسبة للقوى الرجعية في المنطقة، في طي صفحة الربيع العربي تماما مثل الحرب في السودان. لكن دون حساب رغبة الشباب في التغيير، التي نراها في كل مكان عبر العالم، والتي من شأنها أن تكتب فصلاً جديداً.
4 أكتوبر 2025
- وقعت هذه الاتفاقيات يوم 17 ديسمبر 2015 بين ممثلي المؤتمر الوطني العام وممثلي مجلس النواب في مدينة الصخيرات المغربية. وتنص هذه الاتفاقيات على تشكيل حكومة أُعلن عنها في يوم 19 يناير 2016 وتتألف من اثنين وثلاثين عضواً. ويرأسها فايز السراج، الذي يشغل أيضاً منصب رئيس المجلس الرئاسي. وتنص الاتفاقية أيضًا على إنشاء مجلس رئاسي ومجلس أعلى للدولة.
- مصراتة مدينة ليبية تقع على بعد 200 كم شرق العاصمة طرابلس.
- يستند هذا الاتجاه إلى العلامة السعودي ربيع المدخلي (1933-2025)، وهو متشدد للغاية في تطبيق المبادئ الدينية. وهو يعارض الديمقراطية بشكل خاص ويدعو إلى إقامة نظام حكم قائم على الشريعة، لكنه يعارض بشدة الإسلام السياسي. ويحث المؤمنين على الخضوع للسلطة السياسية القائمة ويحظر أي شكل من أشكال التمرد.