تمثل الحالة الاقتصادية الأوروبية، متضافرة مع ميزان قوى غير مُوات للغاية إزاء الولايات المتحدة والصين، أحد العوامل المساهمة في صعود اليمين المتطرف وسياسات التقشف.
هل يمكنك أن تعطينا توصيفا لوضع الاتحاد الأوروبي الاقتصادي في ضوء السوق العالمية؟
تواجه دول الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى بريطانيا، صعوبات كبيرة. أولاً، يقترب النمو الاقتصادي من الصفر. إننا لسنا من أنصار النمو الاقتصادي، ولكن من وجهة نظر الرأسمالية، يمثل النمو الاقتصادي القريب من الصفر مشكلة للرأسماليين الأوروبيين.
ثانياً، يوجد الاتحاد الأوروبي في وضع أدنى من القطبين الاقتصاديين الكبيرين، الصين والولايات المتحدة. تحظى الصين بميزة تكنولوجية، أي أنها تربح في تجارتها مع أوروبا لأنها تستطيع بيع منتجاتها بأسعار أقل من أسعار المنتجات المماثلة المصنوعة في الاتحاد الأوروبي. وهذه حال مجالات مثل السيارات الكهربائية والألواح الشمسية والمعدات الحاسوبية، إلخ. كما أن الاتحاد الأوروبي في وضع دوني إزاء الولايات المتحدة من الناحية التكنولوجية في مجال الذكاء الاصطناعي وخدمات أخرى.
من ناحية أخرى، يوجد الاتحاد الأوروبي وبريطانيا العظمى في وضع دونية مقارنة بقوة الولايات المتحدة الاقتصادية، التي تستخدم وسائل مختلفة، من قبيل التعريفات الجمركية. تقبل أوروبا أن تكون القيادة للولايات المتحدة، وكذا تحديات أو استفزازات ترامب على الصعيدين التجاري والاقتصادي. وهكذا، كان لقاء أورسولا فون دير لاين Ursula von der Leyen مع دونالد ترامب، على ملعب غولف اسكتلندي يملكه الأخير، دليلاً على ذلك. وفي المضمون، تشير التنازلات التي قدمتها باسم الاتحاد الأوروبي - مثل تلك التي قدمتها الحكومة البريطانية في اجتماعاتها مع ترامب - إلى الأمر نفسه.
من جهة أخرى، من المهم الإشارة إلى أن هناك نقطة مشتركة بين وضع الولايات المتحدة وأوروبا فيما يتعلق بالصين: أصبحت الولايات المتحدة وأوروبا – الاتحاد الأوروبي وبريطانيا العظمى– اللتان كانتا تؤيدان التجارة الحرة ومنظمة التجارة العالمية، من مؤيدي الحمائية في مواجهة منافسة الصين. رغم ذلك، تتفاوض أوروبا على اتفاقيات التجارة الحرة مع دول الجنوب، مثل أفريقيا أو ميركوسور Mercosur، مستفيدة من المزايا التي تمكنت من الحفاظ عليها. وبالتالي، يجمع الاتحاد الأوروبي بين الحمائية في مواجهة الصين والتجارة الحرة مع الدول التي تعاني من عجز تنافسي، لا سيما في مجال التكنولوجيا.
هناك صلة واضحة بين قبول أوروبا للقيادة الأمريكية والالتزام بزيادة الإنفاق على التسلح إلى 5٪ من الناتج المحلي الإجمالي. تشكل صناعة الأسلحة، الصناعة الأكثر "ازدهارًا" في أوروبا. حيث تقوم هذه الشركات، في بعض المناطق الصناعية، باستثمارات جديدة، وهو ما لم يحدث منذ فترة طويلة في قطاع الصناعات المعدنية. في المقابل، تتراجع الصناعة تماما في قطاعات مثل السيارات الكهربائية وتكتسب الصين حصصًا في السوق.
هل يأمل الاتحاد الأوروبي والدول المهيمنة فيه أن تلعب دوراً في المنافسة الدولية ومحاولة الارتقاء إلى مستوى الكتل الأخرى، أم أنها قد استسلمت؟
أعتقد أنهم يدركون تخلفهم، ويحاولون فقط الحد من الأضرار. بالإضافة إلى ذلك، يزيد هذا رغبتهم في الاستفادة مما تبقى لهم من مزايا مقارنة بدول الجنوب المتأخرة تقنيًا والغنية بالمواد الخام. ولكن هنا أيضًا، مثلا في القارة الأفريقية، تتراجع الدول الأوروبية بشكل واضح جدًا مقارنة بالصين. وهناك كذلك هجوم جديد من الولايات المتحدة، التي تتقدم الرأسماليين الأوروبيين فيما يتعلق بالموارد الطبيعية. ونرى ذلك في الاتفاق الذي أُبرم بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية تحت رعاية ترامب في غشت/ أغسطس 2025، والذي يضمن للولايات المتحدة الوصول إلى الموارد الطبيعية في شرق الكونغو، أو في الاتفاق الذي أُبرم بين زيلينسكي Zelensky وترامب بشأن الموارد الطبيعية في أبريل 20251. "يساعد" الأوروبيون حكومة زيلينسكي عبر تقديم الديون على أمل الحصول لاحقًا على بعض تخفيفات لديونها مقابل وصول أكبر إلى الأراضي الصالحة للزراعة والموارد الطبيعية ، لكن ترامب سبقهم إلى ذلك.
هل تعتقد أن هذا التخلف الشديد هو أحد أسباب صعود اليمين المتطرف؟ هل يتخلى جزء من الطبقات الحاكمة عن الاتحاد الأوروبي بحثًا عن مزيد من الحمائية؟
يوجد اليمين المتطرف في حالة صعود شبه عام في العالم، في ظروف مختلفة عن أوروبا، لذا فإن تفسير صعود اليمين المتطرف الأساسي لا يأتي من خصوصية وضع الاتحاد الأوروبي. لكن من الواضح أن تراجع الولايات المتحدة أدى إلى صعود مقترحات الانكفاء الوطني واليمين المتطرف من جانب ترامب وحملة «اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى». وفي أوروبا، يستند صعود اليمين المتطرف على تدهور ظروف العمل وتردي ظروف المعيشة المنسوب زيفاً إلى المهاجرين/ات. تشكل خيبة الأمل والارتباك الناجمين عن سياسة اليسار التقليدي أيضاً دافعاً لليمين المتطرف الذي يقدم نفسه على أنه قطيعة جذرية.
كان اليمين المتطرف في أوروبا بشكل تقليدي معادياً للاتحاد الأوروبي. هل تعتقد أن هذا الأمر آخذ في التغير؟
لقد تغير بالفعل. هذا واضح جدًا في حالة مارين لوبان Marine Le Pen التي كانت مُعارضة لليورو وأصبحت مؤيدة للعملة الموحدة، لا سيما من أجل الحصول على دعم رأس المال الفرنسي الكبير. ما كان قطاع رأس المال الفرنسي الكبير، الذي يقدم دعمًا مباشرًا للتجمع الوطني، ليفعل ذلك لو أن مارين لوبان حافظت على موقفها المناهض لليورو. واتخذت ميلوني Meloniنفس الخيار بالضبط.
تخلت معظم أحزاب اليمين المتطرف الأوروبي عن معارضتها للاتحاد الأوروبي. إنها تواصل انتقاداتها مُطالبةً بتشديد السياسات غير الإنسانية في مجال الهجرة، بينما تتجه بشكل أساسي نحو دعم الاتحاد الأوروبي. في هذا السياق، عقدت مجموعة ميلوني صفقة مع أورسولا فون دير لاين، مقابل منصب مفوض أوروبي وثلاثة مناصب رئاسية في اللجان. هذا أمر بالغ الأهمية لأن اللجان الثلاث التي حصلت عليها المجموعة البرلمانية الأوروبية لميلوني هي الزراعة والميزانية والالتماسات. وبالتالي، فإن الالتماسات التي ترفعها الشعوب الأوروبية، ومحاولات الحصول على استفتاء على سبيل المثال، ستدار من قبل لجنة يرأسها اليمين المتطرف.
هذا أمر لم يسبق له مثيل في الاتحاد الأوروبي منذ الحرب العالمية الثانية. مَثلت الدورة التشريعية الجديدة التي بدأت في يونيو 2024 انعطافة كبيرة نحو اليمين في المفوضية الأوروبية2.
إذن، بنظرك، هناك محاولة لدمج مصالح جزء كبير من البرجوازية في الاتحاد الأوروبي مع برنامج اليمين المتطرف؟
نعم، هذا يتوقف على البلدان، ولكن بشكل عام، هذا هو الاتجاه السائد، بالتأكيد.
هذا يسلط الضوء على الصعوبات الكبيرة بوجه تيار "تجديد أوروبا" التابع لماكرون، الذي يتبنى موقفاً تقليديا أكثر تجاه الليبرالية.
أنا أتفق معك تمامًا، وبالمناسبة، إذا نظرنا إلى نتائج الانتخابات، مُنيت مجموعة "تجديد أوروبا" التابعة لماكرون، على المستوى الأوروبي، بفشل كبير في يونيو 2024، حيث خسرت 21 عضوًا في البرلمان الأوروبي، وانتقلت من 98 مقعدًا إلى 77 مقعدًا. لكن ماكرون والأحزاب الأخرى الأعضاء في مجموعته في البرلمان الأوروبي كانوا يتجهون فعلاً بوضوح نحو تقديم تنازلات لليمين المتطرف.
كانت المجموعات البرلمانية التي حققت أكبر تقدم هي مجموعات اليمين المتطرف. وهكذا، فازت المجموعة التي تقودها مارين لوبان بـ 35 مقعدًا في البرلمان الأوروبي، لا سيما بفضل دعم حزب فيكتور أوربان Viktor Orban. وفازت المجموعة التي تقودها ميلوني بـ 9 مقاعد.
المجموعة البرلمانية الأوروبية الأولى لا تزال هي الحزب الشعبي الأوروبي (الحزب الشعبي الإسباني، الاتحاد الديمقراطي المسيحي-الاتحاد المسيحي الاجتماعي في ألمانيا الخاص بأورسولا فون دير لاين...) مع 188 نائباً، تليها المجموعة الاشتراكية مع 136 عضواً. ولكن إذا جمعنا المجموعات الثلاث اليمينية المتطرفة في البرلمان الأوروبي (ECR، المجموعة المحيطة بميلوني التي تضم 78 نائبًا، ومجموعة الوطنيين من أجل أوروبا بقيادة مارين لوبان وفيكتور أوربان التي تضم 84 نائبًا، ومجموعة أوروبا الدول ذات السيادة التي تشكلت حول حزب البديل من أجل ألمانيا الذي يضم 25 نائبًا)، يحتل اليمين المتطرف المرتبة الثانية في البرلمان الأوروبي بـ 187 نائبًا، بفارق نائب واحد فقط عن مجموعة الحزب الشعبي. يأتي بعدهم بفارق كبير مجموعة ماكرون تجديد أوروبا Renew بـ 77 مقعدًا ومجموعة الخضر التي خسرت 17 نائبًا/ة، حيث انخفض عدد مقاعدها في البرلمان الأوروبي من 70 إلى 53 مقعدًا. تجدر الإشارة إلى أن الخضر يدعمون فون دير لاين.
تحظى المفوضية الأوروبية، التي تنعطف أكثر فأكثر نحو اليمين، بدعم المجموعة الاشتراكية ومجموعة " تجديد أوروبا " ومجموعة الخضر، اللتين تضعفان معاً. كما ذكرت للتو، فقد الخضر 17 نائباً في الانتخابات الأوروبية الأخيرة. طلبت حركة الخمس نجوم الإيطالية، بعد انتخابات يونيو 2024، الانضمام إلى مجموعتهم، لكنهم رفضوا انضمامها لأن الخمس نجوم رفضت مطلبهم بالتصويت لصالح حلف شمال الأطلسي. لذلك انضمت إلى مجموعة اليسار الراديكالي (The Left) التي تضم 46 نائبًا، مع فرنسا الأبية في فرنسا، وPodemos، وEHBildu، وSumar في إسبانيا، وكتلة اليسار والحزب الشيوعي في البرتغال، وPTB في بلجيكا، وSinn Fein في أيرلندا، وSyriza في اليونان، إلخ.
في بلجيكا، وجدت رؤوس الأموال الكبرى حليفاً لها في شخص رئيس الوزراء بارت دي فيفر Bart de Wever الذي يقود حزب Nieuw-Vlaamse Alliantie (التحالف الفلمنكي الجديد، N-VA)، وهو عضو في مجموعة ميلوني، وبالتالي في اليمين المتطرف، والذي سيدفع بهجمات رأس المال على الشغيلة إلى أبعد من ذلك. نضيف إلى ذلك أنه في هذه المنطقة من بلجيكا، فلاندرن les Flandres ، في الانتخابات الأوروبية، جاء حزب الكتلة الفلمنكية Vlaams-Belang في الصدارة قبل N-VA... حزب Vlaams-Belang هو حزب نيوفاشي ويوجد في مجموعة مارين لوبان وفيكتور أوربان. لذا، يهيمن حزبان من اليمين المتطرف على الجانب الفلمنكي ويقود أحدهما الحكومة الفيدرالية. ومن ثم، يمكننا أن نرى بوضوح الاتجاه الذي يميل إليه رأس المال الكبير. على الجانب الفرنكوفوني البلجيكي، اتخذ الحزب الرئيس لليمين التقليدي، حركة من أجل الإصلاح (MR) العضو في تجديد اوروبا على المستوى الأوروبي، اتجاهاً قريباً جداً من اليمين المتطرف، ما يسمح له باحتلال مكانة هذا الأخير.
لذا، إذا أخذنا بلدانًا مختلفة، نرى أن توجه رأس المال الكبير يتمثل بوضوح في تقليص المساحة المتاحة للقطاعات التي تمثل خيارًا يمينيًا تقليديًا لصالح اليمين المتطرف لهذه التشكيلات السياسية، أو تعزيز التشكيلات المستقلة مثل RN و Vox و Chega و VB التي هي أكثر يمينية من هذه التشكيلات التقليدية.
وإذا كان عليك تلخيص برنامج اليمين المتطرف على المستوى الأوروبي في بضع نقاط؟
أعتقد أنهم لم يتمكنوا بعد من الاتفاق على برنامج مشترك، لكنه يتماشى إلى حد كبير مع سياسة ترامب. فيما يتعلق بروسيا، مثلا، فهم يؤيدون التفاوض مع بوتين من خلال منحه تنازلات كبيرة، وبالتالي لا يتبنون بالضبط نفس منطق الموقف السائد في المفوضية الأوروبية في الصراع بين أوكرانيا وروسيا. هناك أيضًا رغبة في تنفيذ تدابير حمائية أكثر أهمية. تحاول الأحزاب اليمينية المتطرفة أن تقوم بنفس ما يقوم به ترامب مع "اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى": مطالبة الشركات الأوروبية بإعادة جزء من إنتاجها إلى الأراضي الأوروبية. هنا، بالتأكيد، ستكون هناك توترات بين أحزاب البلدان المختلفة، لأن الديناميات الوطنية ستؤدي إلى الرغبة في إعادة الإنتاج إلى أراضيها، مع إعطاء الأولوية للمصلحة الوطنية، وليس لرؤية أوروبية مشتركة.
وبالتالي، فإن برنامج اليمين المتطرف الاقتصادي والسياسي الأوروبي يسير على خطى البرنامج الذي ينفذه ترامب في الولايات المتحدة وعلى الصعيد الدولي. وينطبق الأمر نفسه على مسألة الهجرة، حيث يرحب اليمين المتطرف بسياسة ترامب القاسية، ويرغب في أن تُشدد المفوضية والحكومات الوطنية السياسة غير الإنسانية التي تنفذ بالفعل. هناك نقطة اتفاق كبيرة بين مختلف أحزاب اليمين المتطرف، وتوجه المفوضية ومعظم الحكومات الأوروبية، وهي سياسة الهدايا الضريبية للأثرياء والشركات الكبرى، فضلاً عن الزيادة الكبيرة في الإنفاق على التسلح.
نشهد انهيار الخدمات العامة والحماية الاجتماعية، وزيادة الديون. كيف ترى التطور فيما يتعلق بهذه القضايا؟
جلي أن هناك زيادة كبيرة في ديون كل من القطاع العام والشركات الخاصة الكبرى. كما زادت مديونية الطبقات الشعبية، نظراً للضغط على انخفاض الدخل الحقيقي، سواء على الأجور أو التعويضات أو الإعانات الاجتماعية. ويجري تعويض فقدان القوة الشرائية بزيادة اللجوء إلى المديونية من قبل أسر الطبقات الشعبية.
فيما يتعلق بديون الدول العمومية. على مدى السنوات الأربعين الماضية، استجابت السلطات العمومية لأزمات رأس المال المختلفة بزيادة الديون العمومية. في ثمانينيات القرن الماضي، ارتفعت الديون العمومية بشكل كبير استجابة للأزمة الاقتصادية الكبرى في أواخر السبعينيات. ازدادت الديون بشكل خاص مع سياسة أسعار الفائدة المرتفعة لصالح رأس المال المالي الكبير، في سياق باعت فيه الحكومات ديونها العمومية في الأسواق المالية.
تمثلت بعد ذلك، خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، الاستجابة للأزمة المصرفية لعام 2008 في مضاعفة عمليات الإنقاذ المصرفي الضخمة التي أدت إلى زيادة كبيرة في الدين العمومي.
ثم، اعتبارًا من عام 2012، ظهر ما يسمى بالتيسير الكمي (quantitative easing)، الذي بدأه البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي (بالفعل في عام 2010) على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، وتبعه البنك المركزي الأوروبي بقيادة ماريو دراغي Mario Draghi، عندما تولى رئاسة البنك المركزي الأوروبي، خلفاً للفرنسي جان كلود تريشيه. وأدى التيسير الكمي إلى ضخ سيولة ضخمة، أكثر من ذي قبل، في القطاع المالي، مع معدلات فائدة منخفضة للغاية، وزيادة في الدين العمومي. استفادت البنوك الخاصة الكبرى من ذلك لأنها اقترضت بنسبة 0٪ من البنك المركزي وأقرضت هذه الأموال للدول، حيث لا يحق للدول الاقتراض مباشرة من البنك المركزي. كانت البنوك الخاصة تقرض بنسبة 2 أو 3٪ للاقتصادات المهيمنة و4 أو 5 أو 6٪ للبلدان الطرفية، محققة بذلك أرباحًا كبيرة.
ثم تعرضنا لصدمة أخرى مع جائحة فيروس كورونا في عام 2020. هناك، زادت النفقات العمومية، لأن الدول لم ترغب في تحميل تكاليف ذلك لقطاع الأدوية الكبير وشركات عمالقة التكنلوجيا الخمسة الكبار GAFAM التي استفادت من الإغلاق والوباء. وبدلاً من فرض ضرائب على الأرباح الفائقة، فضلت الحكومات اللجوء إلى الديون باتباع شعار "مهما كان الثمن". وبالتالي، استمرت الديون العمومية في الارتفاع.
ثم جاءت الصدمة الناتجة عن غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير 2022، وارتفاع أسعار الطاقة، وآثار العقوبات الأوروبية ضد روسيا، وبالتالي ارتفاع فاتورة الطاقة، وتأثير ذلك على أسعار المواد الغذائية على الأسر. وبالتالي، ارتفعت الديون العمومية مرة أخرى لأن الحكومات رفضت فرض ضرائب إضافية على الشركات الخاصة التي كانت تحقق أرباحًا فائقة في قطاعات الطاقة والتوزيع الكبير والتسلح... وجرى تمويل زيادة الإنفاق العام لصالح الشركات الكبرى والأثرياء من خلال اللجوء إلى الدين العمومي الذي يشكل مصدر دخل دائم لنفس الشركات الكبرى لأنها تشتري سندات الدين.
وأخيرًا، قررت البنوك المركزية، مثل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي والبنك المركزي الأوروبي وبنك إنجلترا، اعتبارًا من فبراير-مارس 2022، التخلي عن التيسير الكمي والانتقال إلى التشديد الكمي، أي زيادة أسعار الفائدة، وتقليص ضخ الأموال في الأسواق المالية، وتقليص ميزانية البنك المركزي الأوروبي والبنك الاحتياطي الفيدرالي. وبالتالي، هناك زيادة في أسعار الفائدة: فقد ارتفعت في أوروبا من 0٪ إلى 4.5٪ في عام 2023، ثم انخفضت إلى أقل قليلاً من 3٪ من سعر الفائدة الرئيس للبنك المركزي الأوروبي. في الولايات المتحدة، رفع الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة، الذي كان لا يزال عند 0٪ في بداية عام 2022، إلى 4.75٪ في عام 2024. وانخفض هذا المعدل قليلاً مؤخراً، حيث يبلغ حوالي 4٪. كان لزيادة أسعار الفائدة اعتباراً من عام 2022 تأثير كبير على تكلفة إعادة تمويل الدين العام. فقد ارتفعت أعباء سداد الدين العام بشكل كبير. وأدى ذلك إلى تفاقم العجز العمومي، حيث تواصل الحكومات تقديم الهدايا للرأسماليين.
إن الخطاب الذي يزعم أن الدين العمومي قد وصل إلى مستويات قياسية وأصبح غير محتمل بالنسبة للميزانية، يُستخدم مرة أخرى بشكل منهجي من قبل الحكومات التي هي في الواقع المسؤولة عن زيادة الدين. لقد زادت هذه الحكومات الدين العمومي لأنها رفضت أن تدفع تكاليف الأزمات التي تسببها الرأسمالية، للشركات الكبرى التي استفادت منها وأصحاب الأسهم الذين استمروا في الثراء. لقد تحدثت عن شركات الأدوية الكبرى وشركات GAFAM، وهناك أيضاً شركات إنتاج وتوزيع الطاقة، وشركات قطاع الأغذية والتوزيع، والبنوك، وشركات إنتاج الأسلحة التي حققت أرباحاً ضخمة.
لذلك، في ظل عدم زيادة الضرائب على الشركات الكبرى واستمرار منح الهدايا للأثرياء، رفعت السلطات العامة من الدين العمومي.
بلغت في عام 2025، فرنسا دينًا عمومياً يعادل 114٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وإيطاليا 138٪، واليونان 152٪، وبلجيكا 107٪، وإسبانيا 103٪، بينما تقل نسبة الدين العام في البلدان الأخرى عمومًا عن 100٪. تتجاوز الغالبية العظمى من دول الاتحاد الأوروبي بكثير نسبة 60٪ من الناتج المحلي الإجمالي المنصوص عليها في معاهدة ماستريخت. نحن نشكك في صحة المقارنة بين حجم الدين والناتج المحلي الإجمالي، ولكن بما أن هذه النسبة تستخدم من قبل الحكومات والمعاهدات التي تحكم الاتحاد الأوروبي، فإنها تشكل وسيلة قياس، مهما كانت معيبة.
ما هو مؤكد هو أنه على عكس ما يدعيه اليمين، فإن زيادة الدين العمومي ليست ناجمة عن الإفراط في الإنفاق الاجتماعي أو الإنفاق على رواتب الموظفين في الخدمة العامة أو الاستثمارات العامة في مكافحة تغير المناخ.
إن زيادة الدين العمومي هي نتيجة عاملين: 1. سياسة زيادة الإنفاق غير المشروع، مثل المساعدات العمومية للشركات الكبرى وزيادة الطلبات العمومية على صناعات الأسلحة، وشركات الأدوية الكبرى (أثناء الوباء)، إلخ. 2. سياسة الإيرادات العامة غير الكافية بسبب رفض فرض ضرائب على الأغنياء وأرباحهم (الهائلة).
استغل اليمين، الذي كان يبحث عن حجة لاتخاذ خطوة جديدة في سياسات التقشف والهجمات على المكتسبات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، هذه الحالة ليقول إنه يجب زيادة التخفيضات في الإنفاق الاجتماعي و في الاستثمارات العمومية، لا سيما تلك المتعلقة بمكافحة تغير المناخ والأزمة البيئية.
كما استغلوا الفرصة لتقليص الإنفاق على المساعدات الإنمائية. لم نكن نخادع أنفسنا بشأن كيفية تقديم المساعدات الإنمائية، لكننا ندرك أن تقليصها لا يصب في مصلحة شعوب الجنوب: عندما اوقف ترامب برنامج المساعدات الأمريكية (US Aid) بشكل كامل، كان لذلك آثار كارثية على الظروف الصحية لملايين الأشخاص في أفريقيا الذين كانوا يتلقون علاجًا لمكافحة الإيدز على سبيل المثال.
هل ترى أن هناك خطر حدوث انهيار اقتصادي، أي انهيار الدول التي ستصبح عاجزة عن سداد ديونها؟
هناك تهويل لمسألة الديون، وهو ما يجب أن ندينه. نحن لا نواجه احتمال انهيار أو عجز عن السداد. ما نحتاجه من وجهة نظر اليسار هو حكومة تعلن، على أساس افتحاص للديون بمشاركة المواطنين، أن جزءاً من الدين العمومي غير شرعي بل وحتى بغيض، وأنه يجب إجراء إلغاءات كبيرة له. نود أن تتخذ حكومة يسارية، تطبق سياسة مواتية للسكان وتقوم باستثمارات عامة ضخمة في مكافحة الأزمة البيئية، مثل هذا القرار.
على سبيل المثال، لا يزال البنك المركزي الأوروبي يمتلك ما يقرب من 5 تريليونات يورو من سندات الدين العام لدول منطقة اليورو، أي ما يعادل تقريباً 20٪ من الدين العام لكل دولة. إذا ألغى البنك المركزي الأوروبي هذه الديون، فسيكون هناك انخفاض بنسبة 20٪ تقريبًا وستسقط الحجة الداعية إلى اتباع سياسات التقشف. في الواقع، طالما أن البنك المركزي الأوروبي هو الدائن لجزء كبير من الديون، فإنه يمكنه ممارسة ضغط على الحكومات التقدمية التي ترغب في اتباع سياسة مناهضة للتقشف.
وهذا تحدٍ بالغ الأهمية عندما يتعلق الأمر بمناقشة البدائل. لكن هناك بالطبع الديون التي يطالب بها رأس المال الكبير الذي يشتري سندات الدين العمومي، وهنا يتعين على الحكومات التقدمية المنتخبة اتخاذ إجراءات لإلغاء/رفض هذه الديون.
الآن، إذا بقي اليمين في السلطة، فسوف يستخدم حجة مبلغ الدين العمومي لفرض سياسات تقشفية أكثر حدة. وهذا لن يحل المشاكل الاقتصادية للاتحاد الأوروبي بأي شكل من الأشكال، لكنه سيزيد من قدرة رأس المال الكبير على شن هجوم ضد الشغيلة.
لن يحل ذلك مشاكل الاتحاد الأوروبي الاقتصادية الهيكلية، ولكن في معركة رأس المال ضد العمال، سيحرز رأس المال نقاطاً بفضل الهجمات التي يشنها باسم ضرورة إجراء تخفيضات لسداد الدين العمومي.
لذا فإن مسألة الدين العمومي هي عنصر أساسي. وفي هذا الصدد، وبالنسبة لجزء من اليسار الذي يقول إنه لا توجد مشكلة في الدين العمومي، أعتقد أن اليسار الراديكالي يجب أن يقول إن هذا الرد قصير جداً، وأن هناك بالفعل مشكلة في الدين العمومي لأن جزءاً كبيراً منه غير شرعي. نعم، مبلغ الدين العمومي ليس كبيراً بشكل دراماتيكي، لكنه كبير جداً وغير مبرر. يجب الخفض من هذه الديون العمومية بشكل جذري. ليس عن طريق تسريع السداد، بل على العكس، عن طريق رفض السداد بشكل كبير، وجعل رأس المال الكبير - الذي استفاد منها بشكل منهجي - يدفع تكلفة إلغاء هذه الديون لتحرير الموارد لسياسة من نوع آخر ونموذج آخر للتنمية البشرية، يحترم التوازنات البيئية.
ما هي التدابير الاقتصادية الكبرى؟
أعتقد أن برنامج اليسار يجب أن ينطلق أولاً من واقع حياة السكان. لذلك، يجب خلق مناصب شغل جيدة، مفيدة اجتماعياً وأفضل أجراً بكثير من تلك الحالية، مع ظروف عمل أفضل. يجب الخفض من ساعات العمل بشكل جذري، مع تعويضات عن التوظيف وزيادة الدخل الحقيقي. يجب تطبيق سياسة ضريبية تصاعدية، مع تخفيض جذري، بل وإلغاء ضريبة القيمة المضافة على مجموعة من الخدمات الأساسية - بدءاً بالمياه والكهرباء - وزيادة جذرية في الضرائب على دخل وأموال الأغنياء. وهذا أيضاً جواب، عبر الإيرادات، على جزء من المسألة التي أثارتها الديون العامة.
ولكن هنا يوجد فرق كبير عن البرنامج الاجتماعي الديمقراطي: لا ينبغي أن يستخدم برنامج العدالة الضريبية لسداد ديون غير مشروعة. إذا جرت زيادة الإيرادات، فذلك من أجل زيادة الإنفاق المشروع، والاستثمارات العمومية لتحسين ظروف العيش في إطار مكافحة الأزمة البيئية. لذلك، هناك حاجة إلى استثمارات ضخمة في وسائل النقل العام، والتخلص من الطاقة النووية، ومجموعة كاملة من المشاريع التي تسمح أيضاً بخلق وظائف مؤهلة. هناك حاجة إلى زيادة الإنفاق على الخدمات العمومية، مع خلق وظائف على نطاق واسع، لا سيما في مجال الصحة. يجب ألا ننسى ما حدث خلال جائحة فيروس كورونا التي أدت إلى زيادة الوعي بأهمية الصحة العمومية وحقيقة أن شركات الأدوية الكبرى الخاصة لا تلبي احتياجات السكان على الإطلاق.
يجب وضع القطاعات الاقتصادية الكبرى تحت السيطرة العمومية. يجب مصادرة قطاع الطاقة وجعله قطاعاً عموميا. ومن خلال المصادرة، يجب أن يخضع قطاع البنوك والتأمين بالكامل للاحتكار العمومي، ويجب أن يجري تأميمه.
يجب إلغاء سلسلة من المعاهدات الجائرة المفروضة من قبل الاتحاد الأوروبي على بلدان الجنوب - معاهدات تضر ببلدان الجنوب باسم التجارة الحرة - وبالتالي إدخال نوع آخر من التجارة.
يجب أن تتغير علاقة الشمال، على سبيل المثال الاتحاد الأوروبي، مع شعوب الجنوب، لا سيما سياسة الهجرة. يجب استبدال المساعدة الإنمائية بتعويضات تدفع لشعوب الجنوب واستعادة الثروات التي حصل عليها الشمال بطريقة غير مشروعة على حساب شعوب الجنوب.
هناك أيضاً مسألة صناعة الأسلحة: يجب على اليسار أن يكافح ضد زيادة الإنفاق على الأسلحة وأن يقول إن قطاع الأسلحة يجب أن يخضع أيضاً للرقابة العامة وأن يكون خاضعاً لرقابة صارمة، من أجل التوجه نحو نزع السلاح، الأمر الذي يتطلب مفاوضات دولية.
هذه عناصر أساسية تمامًا في برنامج اليسار.
24 أكتوبر 2025