مجلة وموقع تحت مسؤولية المكتب التنفيذي للأممية الرابعة.

“إسرائيل الكبرى” والتحوّلات الجيوسياسية المرتقبة: قراءة تحليلية

بقلم هاني عضاضة
Des soldats libanais déployés dans le camp de réfugiés palestiniens de Bourj al-Barajneh dans le sud de Beyrouth pour une première remise d'armes de factions palestiniennes aux autorités libanaises, le 21 août 2025. © Anwar AMRO / AFP.

طموحات إسرائيل تعكس مخاطر تصعيد كبير يلوح في الأفق، في وقت تتباين فيه المواقف الدولية بين دعم إسرائيل، وبين الحفاظ على إطار تفاوضي لإعادة تفعيل مسار حلّ الدولتين، وبين تصعيد دبلوماسي متزايد بهدف كبح جماح أقصى اليمين الصهيوني ووضع حدّ للإبادة الجماعية الجارية في غزّة.

في أعقاب تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو حول تبنّيه مفهوم “إسرائيل الكبرى”، ومواصلته التلميح في أكثر من مناسبة بتوسيع حدود إسرائيل، تواجه المنطقة تحوّلات جيوسياسية لافتة. فطموحات إسرائيل تعكس مخاطر تصعيد كبير يلوح في الأفق، في وقت تتباين فيه المواقف الدولية بين دعم إسرائيل، وبين الحفاظ على إطار تفاوضي لإعادة تفعيل مسار حلّ الدولتين، وبين تصعيد دبلوماسي متزايد بهدف كبح جماح أقصى اليمين الصهيوني ووضع حدّ للإبادة الجماعية الجارية في غزّة.

ليس واضحاً بشكل حاسم بعد ما إذا كانت إسرائيل، بقيادة نتانياهو وقوى اليمين المتطرّف، تعمل على إعادة ترسيم مؤقّت لحدود السيطرة الأمنية والعسكرية مقابل انتزاع تنازلات سياسية وأمنية واقتصادية كبيرة من دول المنطقة، خاصّة في ما يتعلّق بالتخلّي الكامل والنهائي عن القضيّة الفلسطينية، ومنع وجود دولة فلسطينية مستقلّة، حتى لو تأسّست على جزء بسيط من حدود فلسطين التاريخية. الأكيد أن التصريحات حول “إسرائيل الكبرى” جادّة بشكل يستدعي أقصى درجات الاستنفار والتأهب للتعامل مع أخطار أمنية محدقة، خاصّة في الدول التي تخرق إسرائيل معها بنود اتّفاقيات السلام بشكل مستمرّ، وبالتحديد مصر والأردن.

جاء إحياء نتانياهو لهذا المخطط على مستوى الخطاب السياسي، تزامناً مع توغّل قوّاته العسكرية في الأراضي السورية، واستغلال مجازر السويداء، وصعود الإسلام السنّي المتطرّف في سوريا من جهة، وتمسّك إيران بميليشياتها التي تهدّد بإشعال حروب أهلية من جهة أخرى. بالتالي، فإن الوضعية القائمة اليوم في دول المنطقة تعمل كمحفّز لتسريع هذا المخطّط وتحويله إلى أمر واقع، حتى لو تطلّب تنفيذه بشكل ملموس عشرات السنوات من الحرب المستمرّة، وفرض التغيير الديموغرافي عبر التهجير والاستيطان.

“إسرائيل الكبرى” في عيون أقصى اليمين التوراتي

ليس لما يسمى “إسرائيل الكبرى” تعريف واحد وثابت في السياسة الإسرائيلية، بل هي مجموعة تصوّرات سياسية وأيديولوجية هجينة، لكن موضع التوافق الأساسي بين تلك التصوّرات هو ضمّ جميع أراضي فلسطين التاريخية إلى دولة إسرائيل. غير أن معسكر أقصى اليمين يتبنّى المفهوم التوراتي الذي يستند إلى “أرض الميعاد”، أو “أرض كنعان”، كخيار “ديني مقدّس”، وهي الأرض التي وعد الإله فيها إبراهيم بعودة اليهود إليها واستعادة أمجادهم بقيادة المسيا المنتظر والمخلّص (المشيح).

لا تحظى فكرة “إسرائيل الكبرى” بقبول واسع النطاق عالمياً، وما زالت الفكرة غير متبناة بشكلٍ رسمي إسرائيلياً، لكنّ طموحات نتانياهو تصاعدت كثيراً، خاصّة بعد تأييد الرئيس الأميركي دونالد ترامب توسيع مساحة إسرائيل في الصيف الماضي.

وفقاً للعهد القديم (سفر العدد: الإصحاح 34) فإن حدود “إسرائيل الكبرى” تمتدّ جنوباً من البادية الأردنية المتداخلة مع صحراء شبه الجزيرة العربية حتى خليج العقبة (3: جانب مملكة إدوم Edom) وتمرّ بالجبال والوديان التي تفصل غور البحر الميت عن جنوب فلسطين التاريخية (4: عقبة عقربيم، أو مدينة أقربتّين Akrabattene وقادش برنيع وحصر أدار وعصمون) ومروراً بوادي العريش في سيناء وصولاً إلى البحر (5: مِنْ عصمون إِلى وادي مصر) – رغم أن بعض التفسيرات غير الدقيقة تشير إلى أن المقصود بوادي مصر هو نهر النيل، تشير مراجع الكنيسة القبطية الأرثوذكسية إلى أن المقصود هو وادي العريش، وهو الحدّ الجنوبي الغربي لأرض كنعان، وفيه مجرى للمياه يجفّ في الصيف.

وتمتدّ غرباً في اتّجاه البحر الأبيض المتوسط (6: وأما تخم الغرب فيكون البحر لكم تخماً) وصولاً إلى مدينة صيدا (حتى صور وصيدا وفقاً لمراجع دير القديس أنبا مقار الكبير).

ثم تمتدّ شمالاً من البحر الأبيض المتوسط إلى جبل هور هاهور (7: البحر الكبير إلى جبل هور) – وهو ليس جبل هارون حيث دُفن هارون في البتراء في الأردن، بل أحد جبال سلسلة جبال لبنان الغربية المطلّة على البحر الأبيض المتوسط، ومن ثم من جبل هور هاهور مروراً بالأراضي السورية وصولاً إلى مدخل حماة وبلدة صدد السريانية التاريخية في محافظة حمص (8: وتكون مخارج التخم إلى صدد) مروراً ببلدة الزعفرانة الشرقية في ريف حمص الشمالي بجانب منطقة الرستن (9: ثم يخرج التخم إلى زفرون) وصولاً إلى بلدة القريتين في وسط سوريا جنوب شرق حمص من جهة البادية السورية (9: وتكون مخارجه عند حصر عينان، أو بما معناه قرية الينابيع، والقريتين تقع على واحة في البادية السورية).

أما شرقاً، فتمتدّ من وسط سوريا إلى بلدة رأس العاصي في قضاء الهرمل على ضفاف نهر العاصي (10: من حصَر عينان إلى شَفامَ) وصولاً إلى بلدة ربلة في محافظة حمص (11: من شَفامَ إلى رَبْلة شرقي عينٍ) ثم إلى بحيرة طبريا (11: بحر الجليل) وصولاً إلى البحر الميت (12: بحر الملح).

لكن بحسب القديس إيرونيموس نحو عام 400 ميلادي، فإن “إسرائيل الكبرى” تمتدّ شمالاً حتى جنوب تركيا، وصولاً إلى سلسلة جبال طوروس ومدينة مرسين (زفيريوم الكيليكية Zephyrium) بما معناه وفقاً لهذا التفسير أنها تشمل جميع الأراضي اللبنانية والأراضي الساحلية السورية دون استثناء.

“إسرائيل الكبرى” كواقعٍ متطوّر منذ العام 1967

وفقاً لمعهد “عكفوت” لأبحاث الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، في 18 تشرين الأوّل/ أكتوبر 1967، قدّم ييغآل آلون، حين كان وزيراً للعمل، وقبل أن يتبوّأ منصب نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي بثمانية أشهر، اقتراحاً للجنة الوزارية لشؤون الأمن، يقضي بحذف الخطّ الأخضر من الخرائط الإسرائيلية الرسمية، وبإلغاء اتّفاقيات الهدنة لعام 1949، وبإعادة ترسيم الحدود، لتشمل الخريطة الجديدة آنذاك الضفّة الغربية وقطاع غزّة وهضبة الجولان السورية وشبه جزيرة سيناء.

تبنّت اللجنة الاقتراح وصادقت على القرار بعد ثلاثة أسابيع، وحمل القرار الرمز ب/21.  وفي 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 1967، اقترح الوزير نفسه، في إطار اجتماع مجلس الوزراء الإسرائيلي، فرض رقابة مشدّدة على نشر قرار طباعة الخرائط دون خطوط الهدنة، ووافق عليه الوزراء بأغلبية كبيرة، فصدر عن مجلس الوزراء القرار الرمز ب/9. وصُنِّف حينذاك القرار بشأن حذف الخطّ الأخضر من الخريطة “سرّياً للغاية” ولم يُنشر لسنوات طويلة.

هذا المخطّط الذي كان يهدف إلى توسيع الحدود الرسمية لإسرائيل بعد حرب 1967، بدأ بالتراجع بعد حرب تشرين الأوّل/ أكتوبر 1973، وتركّز تطبيقه في مناطق فلسطين التاريخية، حيث نشأت حركات استيطانية متشدّدة مثل “غوش إيمونيم” وقامت إسرائيل بمضاعفة عمليّات الاستيطان وتوسيع المستوطنات. تراجُع المخطّط مقابل فرض عمليّات هدنة وسلام وتطبيع كان الخطوة التي تناسب الجانب الإسرائيلي على الصعيد المرحلي، أي منذ توقيع سوريا لاتّفاقية “فضّ الاشتباك” في الجولان في العام 1974، ثم تمكّن مصر من استرداد سيادتها الكاملة على شبه جزيرة سيناء في العام 1982. وذلك رغم الاجتياح الإسرائيلي للبنان في حزيران/ يونيو 1982، وما نتج عنه من احتلال عسكري مباشر دام 18 عاماً حتى 25 أيّار/ مايو 2000. إلا أن ذلك الاحتلال لم يتحوّل إلى وضعية استيطانية فعلية كما حدث في حالة مرتفعات الجولان.

غير أن هذا المخطّط استعاد راهنيته بالنسبة إلى معسكر أقصى اليمين الصهيوني الذي يحاول نتانياهو استمالته، بعد النجاحات العسكرية التي حقّقها منذ تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023. فمن الواضح أن نتانياهو أصبح يعتبر نفسه قائداً عظيماً للحركة الصهيونية بمنزلة ثيودور هرتزل، وأنه بدأ يؤسّس بالفعل لمرحلة نشوء “إسرائيل الكبرى”، حيث صرّح لقناة “i24NEWS” منذ أيّام، بأنه يحمل “رسالة تاريخية وروحانية”، وبأنه يتّفق مع رؤية “أرض الميعاد”، في مقطعٍ سارعت القناة الإسرائيلية إلى حذفه من المقابلة على جميع منصّاتها. تسبّبت تصريحات نتانياهو بموجة استنكار من الدول العربية المعنيّة مباشرة، تبعها بيان إدانة مشترك أصدرته 31 وزارة خارجية عربية وإسلامية.

يمكن في هذا السياق تفسير التوغّل الإسرائيلي التدريجي في الأراضي السورية، منذ عمليّة “سهم باشان” في كانون الأوّل/ ديسمبر 2024، بحجّة إنشاء “منطقة عازلة”، رغم توفّر منطقة عازلة محتلّة أساساً، على أنه تنفيذ عملي، بطيء ولكن ثابت، لمخطّط “إسرائيل الكبرى”، التي لا تشترط حدوث توسّع استيطاني بشري، لكنّها بالتأكيد تفرض التحكّم المباشر بالموارد والثروات الطبيعية، وعلى وجه التحديد الموارد المائية. فلو كان الاستيطان هدفاً مباشراً خلال هذه المرحلة، لما قام الجيش الإسرائيلي باعتقال مستوطنين من مجموعة “رواد باشان” المتطرّفة، بعد أن قاموا باختراق الأراضي السورية، ووضعوا “الحجر الأساس” لأوّل مستوطنة إسرائيلية أطلقوا عليها تسمية “نيفيه هاباشان”.

استغلّت إسرائيل فترة غياب الدولة السورية بعد سقوط نظام الأسد لتبرير توغّلاتها دولياً، ومن المحتمل أن تعاود فعل الشيء نفسه في لبنان، على نطاق أوسع، في لحظة نشوب نزاع داخلي تفقد فيه الدولة اللبنانية توازنها الهشّ أساساً. ومحاولات فرض إسرائيل منع التمديد لقوّات “اليونيفيل”، وتحديد مهلة زمنية معيّنة لإنهاء مهامّها، وهي القوّات الوحيدة التي يمكن أن يمثّل وجودها على الأرض اللبنانية إشكاليّة سياسية، وبالتالي عائقاً أمام أي مخطّط لاجتياح إسرائيلي واسع النطاق لا يحظى بموافقة دولية، هي جانب من هذا السياق.

ليس هناك ما يتعارض مع بقاء قوّات “اليونيفيل” تزامناً مع اكتمال انتشار الجيش اللبناني في مناطق جنوب لبنان. أما السردية الأميركية التي تدعو إلى خفض تكاليف قوّات “اليونيفيل” لأن مهامّها “لم تعد مجدية”، أو بسبب شبهات فساد، فهي باطلة، ولا تنظر بعين الجدّية إلى حجم الاختلال في توازن القوى. بقاء قوّات “اليونيفيل” بالغ الأهمية، لحين تمركز قوّات الجيش اللبناني في جميع أنحاء المناطق الجنوبية، وحصول الجيش على القدر الكافي من السلاح الدفاعي لتشكيل قوّة ردع قادرة على التسبّب بأضرار حقيقية لأي طرف مهاجم، حتى لو لم تكن كافية لمنع الهجمات من تحقيق أهدافها النهائية، حتى تصير معادلة الغزو أكثر تعقيداً وتتزايد كلفتها البشرية والمادّية.

انتشار الميليشيات وتحدّي تفكّك الدولة الوطنية

يقع تثبيت الميليشيات المسلّحة الطائفية والقومية وشرعنتها في صلب هذا الاختلال التاريخي في التوازن، الذي تستثمره إسرائيل اليوم على أكمل وجه تمهيداً لمرحلة جديدة من التوسّع. فتلك الميليشيات، رغم إنجازاتها في لبنان والعراق وسوريا، وأهمّها تحرير مناطق الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي، وقتالها إلى جانب قوّات التحالف الدولي ضدّ تنظيم “داعش”، ومن ثم إسقاط نظام الأسد؛ إلا أنها، كحالة عامّة، بصرف النظر عن الفروقات الصغيرة والكبيرة في ما بينها، ورغم تداخلها مع الدولة، إلى هذا الحدّ أو ذاك، وفي هذه الحالة أو تلك، تشكّل رافعة استراتيجية لمخطّط “إسرائيل الكبرى”. يخضع التنفيذ العملي لهذا المخطّط لعلاقة التناسب العكسي مع تفكّك الدولة الوطنية، في حين يخضع تعزيز دور الدولة الوطنية وقوّتها لعلاقة تناسب عكسي أخرى مع نموّ الميليشيات المسلّحة، وبخاصّة تلك المدعومة من الخارج والعصيّة على الحلول الوطنية.

حصر السلاح في يد الدولة في العراق ولبنان، لا يعني فشل الأجندة الخارجية الإيرانية في المنطقة فحسب، بل يعني كذلك نزع أوراق تفاوض حاسمة من يد إيران في مرحلة حسّاسة، بعدما تعرّضت لضربات جوّية موجعة استهدفت برنامجها النووي. فبعد تراجع البرنامج النووي، عادت الميليشيات المدعومة من إيران لتمثّل نقطة القوّة الأساسية في السياسة الخارجية الإيرانية، رغم تعرّض “حزب الله” على وجه التحديد لضربات قاسية جدّاً، في حين تحاول الحكومة العراقية احتواء قوّات “الحشد الشعبي”. لكن سياسة التصدّي للنفوذ الأميركي التي تعتمدها إيران، ستقود في نهاية المطاف إلى توسيع هذا النفوذ بدلاً من تقليصه، بالإضافة إلى تكريس السطوة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية.

الخاصرة الضعيفة هي الدولة. فمسار تعزيز الميليشيات في المنطقة على حساب الدول الوطنية، بصرف النظر عن سياساتها داخلياً وخارجياً، هو مسار تفكيك هذه الدول لمصلحة المخطّط الإسرائيلي ذاته، وهذا المخطّط ليس بإمكان إسرائيل ترجمته عملياً على أرض الواقع من خلال القوّة الساحقة وحدها؛ بل تحتاج إلى إنضاج ظروف تتأجّج فيها الحروب الأهلية والنزاعات الداخلية، تماماً كما في حالة منطقة السويداء اليوم، حيث تظهر إسرائيل بمظهر المنقذ للدروز بوجه الميليشيات السنّية المتطرّفة التي لبست لبوس الدولة.

هذه الظروف تُنضجها الميليشيات الطائفية والقومية، وعلى رأسها تلك المدعومة من إيران وتركيا. فهي كانت، وما زالت، وستظلّ تُحدث الاضطرابات والتوتّرات في النسيج المجتمعي العربي، بخاصّة في العراق وسوريا ولبنان، التي من شأنها تغذية التطرّف السنّي والشيعي، وتسريع مخطّط “إسرائيل الكبرى” من بوّابة “حماية الأقلّيات” و”الدفاع عن الحضارة بوجه الهمجية”، كما فتح الباب للمزيد من التدخّلات الخارجية الأميركية والبريطانية والروسية وغيرها.

سطوة الميليشيات المدعومة من القوى الإقليمية تضع مجتمعات الشرق الأوسط في حالة تصادم دائمة لأسباب طائفية وقومية متداخلة، وفي الوقت نفسه تعمل على توسيع نطاق النفوذ السياسي والأيديولوجي للدول الداعمة والمموّلة لها. انتشار هذه الميليشيات هو الذي يجعل الحلم الإسرائيلي الكبير في حالة من التفاعل الإيجابي في أذهان الكثير من الإسرائيليين، فهذا الحلم لا يقوم سوى على تقسيم المنطقة على أنقاض الدول الوطنية. لذا، فإن كلّ سردية “المقاومة” التي تحاول بعض هذه الميليشيات إعادة إنتاجها على المدى القصير، لا تنفكّ تنقلب إلى نقيضها على المدى البعيد، على الرغم من التضحيات الكبيرة.

ليست الحالة السورية سوى مثال واحد عن الانقسام الحادّ الذي تسبّب به تدخّل “حزب الله” عسكرياً لإنقاذ نظام الأسد. فتحوّلت مشاعر الكراهية في المجتمع السوري، من كراهية تاريخية تجاه إسرائيل إلى كراهية مضاعفة تجاه إيران وحلفائها. امتدّ أثر ذلك ليؤسّس لتغيّر جذري في الخطاب السياسي المعارض الذي تحوّل بنهاية العام 2024 إلى خطاب السلطة الجديدة، من اعتبار إسرائيل العدوّ الأوّل إلى اعتبار إيران العدوّ الأوّل. ورغم أن مشاعر العداء لإيران كانت حاضرة لأسباب مختلفة، إلا أن تدخّل الميليشيات الشيعية في وحل الحرب السورية أوصلها إلى نقطة اللا عودة، كما فاقم من نفوذ تنظيم “القاعدة” ممثّلاً بـ”جبهة النصرة” (هيئة تحرير الشام).

يقبع اللبنانيون بين وهمين كبيرين يُعاد إنتاجهما منذ زمن الحرب الأهلية. أوّلهما: الوهم الذي روّجت له قوى اليمين وما يزال معظمها يتمسّك به، وهو اعتبار إسرائيل صديقة للبنان، وبناءً عليه نفي أطماعها والخطر الذي تمثّله، لمجرّد استغلالها ظروف الحرب الأهلية وتناقضاتها. يتكثّف هذا الوهم في سردية حصر السلاح بيد الدولة من منطلق تحجيم الخطر الإسرائيلي، وأن إسرائيل ستكفّ شرّها عن لبنان تلقائياً بعد تفكيك الميليشيات. أما الوهم الثاني، فهو الوهم الذي روّجت له قوى اليسار وما يزال معظمها يتمسّك به بشراسة أيضاً، وهو يستند إلى مقولة أساسية مفادها أن “الدولة اللبنانية غير قادرة على مواجهة إسرائيل عسكرياً”. بالتالي، يجب على اللبنانيين الانتظام في ميليشيات وفصائل عسكرية خارج الدولة. وهذا التوجّه الثاني لا يقلّ خطورة عن الأوّل، إذ يتركّز في منع قيام الدولة، أي إنه، كما نظيره الأوّل، يصبّ في خدمة المخطّطات الإسرائيلية.

حتى في الحالة الفلسطينية، فإن إسرائيل ليس لديها مشكلة سياسية استراتيجية بوجود فصائل فلسطينية مسلّحة، بل في معظم الأحيان تقوم بتضخيم قوّتها وخطورتها لتحقيق أهداف استيطانية أكبر، وقتل الآلاف من الفلسطينيين بذريعة حماية السكّان الإسرائيليين. لكنّ مشكلتها الأصلية، على المستوى الاستراتيجي، هي إقامة دولة فلسطينية مستقلّة، لها جيشها المستقلّ، ومؤسّساتها المستقلّة، وغير خاضعة للإدارة الإسرائيلية، ومعترف بها دولياً، حتى لو كان ذلك على 22% فقط من مساحة فلسطين التاريخية.

وبحساب ميزان الخسائر والأرباح، لو وافقت إسرائيل على حلّ الدولتين، لكانت ربحت معاهدة سلام تاريخية مع المملكة العربية السعودية تمكّنها من اختراق العمق العربي بشكل شبه تامّ. لكنّها رأت في الاعتراف بدولة فلسطينية من خلال حلّ الدولتين، بما يعنيه ذلك من ترتيبات أمنية جديدة تتضمّن تفكيك جميع المستوطنات التي بُنيت بعد العام 1967، وعودة اللاجئين الفلسطينيين – حتى لو لم تكن عودتهم إلى أراضيهم الأساسية وأصبحوا لاجئين في الدولة الفلسطينية الجديدة – خسارة أكبر من بناء علاقات سياسية واقتصادية مع المملكة العربية السعودية. بل حتى إن وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر، وفقاً لصحيفة “يسرائيل هيوم”، قد أوصى بإقفال القنصليّة الفرنسية في القدس ردّاً على قرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الاعتراف بدولة فلسطينية.

هذا الأمر يستدعي التوقّف وإعادة التفكير، فإسرائيل قامت بالتفريط بفرصتها التاريخية لإقامة علاقات تطبيعية مع كافّة دول الخليج العربي، وهي مستعدّة أيضاً لقطع علاقاتها الدبلوماسية بدولة فرنسا، وما يعنيه ذلك من احتمال تأزيم علاقتها بشكل تدريجي ببعض دول الاتّحاد الأوروبي، مقابل عدم اعترافها بوجود دولة فلسطينية، حتى على أقلّ من 22% من مساحة فلسطين التاريخية بكثير، وفي ظلّ تحكّم أمني وسياسي إسرائيلي شبه تامّ بالسلطة الفلسطينية الحالية. فهذا يعني أن مخطّط “إسرائيل الكبرى” قائم بالفعل، لكنّه لا يزال في مراحله الأوّلية منذ عقود، والمرحلة الأولى هدفها تهجير سكّان غزّة والضفّة الغربية بشكل كامل.

استنفار عربي وبوادر تغيّرات جيوسياسية؟

بدأت بعض الدول العربية باستشعار الخطر الإسرائيلي المتزايد، الذي بدأت إشاراته المبكّرة بالظهور في مناطق سوريا ولبنان الجنوبية، ومع استشراس إسرائيل بالتمسّك بتهجير سكّان غزّة واحتلال القطاع بشكل كامل، بالإضافة إلى الحديث المتزايد عن “إسرائيل الكبرى” مما يعني أن الخطر يمكن أن يشمل مناطق غرب الأردن وشبه جزيرة سيناء في مرحلة ليست ببعيدة جدّاً. يبدو أن إسرائيل لم تعد مهتمّة بالالتزام بمعاهدات السلام، فهي لا تنفكّ تخرق بنودها، وكأنها تريد إعادة تشكيل المعاهدات على أساس توازن القوى الجديد الذي فرضه السلوك العسكري الإسرائيلي العنيف في المنطقة.

في هذا السياق، جاء إعلان إعادة تفعيل التجنيد الإجباري في الأردن بعد أيّام قليلة من إدانة وزارة الخارجية الأردنية تصريحات نتانياهو بشأن “إسرائيل الكبرى”. ليس لدى دولة مثل الأردن قدرة على التصعيد ضدّ إسرائيل طبعاً، بل حتى إنها حاولت تقديم فروض الطاعة لإسرائيل، خاصّة خلال المعركة الإيرانية الإسرائيلية الأخيرة. لكنّ شعور الأردنيين بالخطر الإسرائيلي حقيقي، لم يعد يقتصر على بيانات الاستنكار، وبدأ يُترجَم أمنياً بخطوات وقائية ملموسة، على الرغم من معرفة الأردنيين أنها غير كافية.

أما في مصر، فيبدو الوضع أكثر تعقيداً بكثير، بخاصّة مع دعم إسرائيل المطلق لإثيوبيا لبناء سدّ النهضة الذي يهدّد الأمن الغذائي، بل جميع أشكال الحياة، في كل من مصر والسودان. تعتمد مصر على نهر النيل بنسبة 90% من مواردها المائية، مما يجعل هذا التهديد مسألة حياة أو موت بالنسبة إلى المصريين. تزيد التهديدات الإسرائيلية المسألة تعقيداً، خاصّة بعد التقرير الذي نشره موقع nziv.net الإسرائيلي في 10 شباط/ فبراير 2025، حول سيناريو نسجه الذكاء الصناعي في حال قُصف السدّ العالي في مدينة أسوان المصرية، وما يمكن أن ينتج عن ذلك من دمار في البنية التحتية وقتل فوري لآلاف المصريين.

أتت محاولات تهجير سكّان غزّة إلى سيناء، ومن ثم التصريحات حول “إسرائيل الكبرى”، لتجعل الخطر ماثلاً أمام أعين المصريين، وذلك على الرغم من دعم مصر لإسرائيل في حصار غزّة. لم تكتفِ مصر أيضاً بإصدار بيانات الإدانة، بل بدأت بتنفيذ إجراءات أمنية عملية وتكثيف التحرّكات العسكرية في المنطقة الشمالية. جاءت هذه التطوّرات في سياق يتّصل أيضاً بتعزيز التحالف العسكري بين مصر وتركيا، وتنفيذ مناورات عسكرية مشتركة، وإعلان اتّفاقيات تصنيع وتطوير عسكري، أهمّها مشروع طائرات TAI TF Kaan المقاتلة، بالتعاون مع الشركة التركية لصناعات الفضاء، التي من المقرّر أن تدخل الخدمة في العام 2028. يضاف إلى ذلك، إصرار الجيش المصري على تنويع مصادر تسلّحه، واستيراده أنظمة دفاع جوّي متطوّرة وصواريخ مضادّة للدبابات من بلدان مختلفة، أهمّها الصين، وربما يكون ذلك هو السبب الرئيسي في استفزاز إسرائيل وتلميحها بتدمير السدّ العالي.

إسرائيل تتلاعب بالولايات المتّحدة… ولكن!

تبدّلت ديناميات العلاقة بشكل كبير بين إسرائيل والولايات المتّحدة بعد عودة ترامب إلى الرئاسة خلفاً لجو بايدن. ورغم قدرة ترامب على وضع حدّ لجنون نتانياهو في حالات معيّنة، علماً أنه أشدّ جنوناً منه في حالات أخرى، لكنّ المسار الذي تمكّن نتانياهو من فرضه على الولايات المتّحدة، عبر تحكّمه شبه التامّ بالإدارة السابقة، لا يمكن لترامب التراجع عنه حتى لو أراد ذلك. في هذا السياق، تبدو دعوات الحكومة اللبنانية للولايات المتّحدة للضغط على إسرائيل لتنفيذ بنود اتّفاق وقف إطلاق النار غير منطقية.

في المرحلة الحالية، يبدو أن إسرائيل لا تنوي البقاء في الأراضي اللبنانية من دون مقابل سياسي وأمني مباشر، فالثغرة الحقيقية التي تمكّنت من إحداثها في الجنوب السوري، سواء من خلال توغّلها البرّي في مناطق واسعة، أو من خلال كسب علاقات مباشرة مع دروز السويداء نتيجة الإجرام الذي مارسته السلطات السورية والميليشيات الحليفة لها، هذه الثغرة ستمكّنها من جرّ السلطات السورية الجديدة إلى التفاوض على الملفّ الأمني بما يخدم المصلحة الإسرائيلية، ويفاقم من تأثيرها في السياسة السورية. فإسرائيل لن تستطيع الاستمرار في خوض الحرب على عدّة جبهات بشكل متزامن، خاصّة من ناحية التوغّل العسكري البرّي، لكنّها ستعمل على تعزيز حضورها السياسي والأمني كلما تقدّمت خطوة، وبهذا فهي لن تكرّر أخطاء احتلالها السابق للبنان.

إسرائيل هي اليوم المحرّك الفعلي للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، وهي التي تجبرها على خوض الحروب الجديدة، بخاصّة الحرب الأخيرة ضدّ إيران، وربما ستجبرها على خوض حروب إضافية في المستقبل القريب، ضدّ حلفاء سابقين. هذا التحوّل النوعي يتعارض مع الصورة السائدة حول قيادة الولايات المتّحدة لإسرائيل. فالأخيرة وصلت إلى مرحلة أصبحت تستغلّ فيها التكامل الأمني والتكنولوجي مع الولايات المتّحدة، وتداخل الأمن القومي الأميركي مع مصالحها الإقليمية، لتراكم وتكثّف عمليّة استنزاف الولايات المتّحدة بجميع الأشكال الممكنة. وربما لهذا السبب بالذات، يلهث ترامب اليوم خلف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للتوصّل إلى اتّفاق لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية.

ليست إسرائيل مجرّد “مستعمرة” أو امتداد ميكانيكي للاستعمار الغربي، كما يلحّ اليسار “الووكيزمي” الذي يبني سرديته الواهمة انطلاقاً من كراهية “الرجل الأبيض”، أصل الشرور، بل هي دولة استعمارية قائمة بذاتها، تفرض سياقات توسّعية جديدة بقرارتها الذاتية، تُجبر من خلالها حلفاءها الغربيين على الانضمام إلى حروبها، حتى لو تسبّبت لهم بخسائر اقتصادية ومالية كبيرة، واضطرابات اجتماعية عنيفة. لكن لا شيء يضمن تجدّد هذه الوضعيّة بالشروط نفسها إلى الأبد، خاصّة إذا تجسّدت “إسرائيل الكبرى” في الواقع عبر ملحمة أرماغدونية لا مصلحة لأي قوّة “حضارية” في العالم الغرق في وحولها.

السياسة الخارجية الأميركية معقّدة تاريخياً، رغم الحروب العديدة التي خاضتها الولايات المتّحدة، حيث إنها اعتمدت على “القوّة الناعمة” منذ وصول باراك أوباما إلى الحكم، فكانت الحرب استثناءً، بعكس السياسة الخارجية الإسرائيلية العدوانية المحض، المعتمدة على العنف والقتل الجماعي، حيث يبدو الحلّ السلمي هو الاستثناء، خاصّة مع سيطرة اليمين الصهيوني المتطرّف على الحكم. هذا التمايز بين السياستين الخارجيتين جوهري، رغم تكاملهما لحدود معيّنة، إلا أن هذا التكامل سينقلب تناقضاً متفجّراً عند نقطة محدّدة، إذ إن الولايات المتّحدة لن تكون مستعدّة لخسارة جميع حلفائها، ودفع العالم للتحالف ضدّها، من أجل إسرائيل.

إذا قمنا، على نحوٍ مجازي، باستبعاد إيران وميليشياتها من المشهد الجيوسياسي، فإن الانسداد المتزايد، والتحوّلات التي بدأت تطرأ على العلاقات بين إسرائيل ودول المنطقة، حيث تتغيّر من علاقات تطبيع سياسي و/ أو اقتصادي شبه طبيعية، إلى علاقات يشوبها التوتّر والحذر المتبادل، هذا الانسداد هو باكورة المسار التراكمي الذي سيفرض تباعداً استراتيجياً لا بدّ منه بين إسرائيل والولايات المتّحدة. سياسة الإخضاع التامّ التي تنتهجها إسرائيل في علاقتها مع جيرانها، خصوماً وحلفاء على حدّ سواء، ستتعارض مع المصلحة الأميركية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على المدى البعيد. فهذا الإخضاع، يتطلّب المزيد من الاستنزاف الإسرائيلي لموارد الولايات المتّحدة من جهة، وتعريض المصالح التجارية والمالية الأميركية، خاصّة في دول الخليج، لآثار سلبية من جهة أخرى، وربما تكون إحدى تبعاتها صدمة اقتصادية عالمية لن يكون باستطاعة الولايات المتّحدة تحمّلها.