ليست ضرورةُ إعادة قراءة منجز فرانز فانون اليوم مرتبطة بالحاجة إلى إحياء الذكرى فقط، بل إنها تتيح لنا بوجه خاص العودة إلى الرهانات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي كانت تسود وتهيكل نضال شعب من أجل حريته وتحرره وسعيه إلى استقلاله.
بيطابق العام 2025 الذكرى المئوية لميلاد فانون، وبالنسبة لنا نحن الجزائريين، يمثل تكريمه على التزامه، جسدا وروحا، بالثورة الجزائرية، فيما لم يكن ثمة ما يهيئه لهذه المهمة، واجبا أخلاقيا وسياسيا. لكن إعادة قراءة أعماله تتيح لنا أيضًا، في هذه الأزمنة حيث تسود كل ضروب النزعات التحريفية، إعادة وضع هذا النضال في بعده المحلي والإقليمي، وحتى العالمي والتاريخي. فإذا كانت نضالات الأمس من أجل الاستقلال عن الاستعمار قد أتت أكلها، فإن التناقضات والأزمات والصراعات الحالية ما هي إلا امتداد لأنظمة السيطرة والاستغلال التي تطفو كـ«عودة المكبوت»، كما قد يقول الطبيب النفسي فانون.
وثمة أيضاً أسباب برنامجية تحدو بكل عمل نضالي إلى العودة إلى «الفانونية». فقد منحت هذه، في الماضي، «النخب المناهضة للنخبوية» (تعبير مستعار من محمد حربي 1) عرضًا لقوانين التطور الاجتماعي مغايرا لما تروجه آنذاك ماركسيةُ الستالينيةِ المبتذلةُ والمنحطة. وقد دافعت عن العالم الثالث بطرح ”معذبي الأرض“ بديلا عن ”الطبقة العاملة“. لم يعد على بروليتاريا البلدان الغربية أن تقتاد الشعوب المضطهدة في النضال، بل إن نضال هذه الشعوب ما سيتيح تحررها من نير الاستعمار الآني، ويحدد القضية الثورية للبروليتاريا العالمية. وقد حظيت هذه الرؤية بأتباع، حتى في أوروبا. لكن فانون لم يدافع عن هذه الرؤية انطلاقاً من قراءة مفاهيمية وبرنامجية، بل من قراءة براغماتية للواقع الاستعماري. لم يكتفِ فانون بتحليل اقتصادي بحت للاستعمار. فقد قام أيضا بتنظير للصراع الهوياتي والثقافي وحاول إثبات أن «معذبي الأرض» الحقيقيين، المستغَلين بنحو مطلق، هم المستعمَرون.
الفكرة الأساسية التي تبني عمله هي فكرة الثورة، أي فكرة قطيعة جذرية، تبلغ مستوى العنف على الصعيد السياسي، مع الممارسات السائدة في عصره. نجد الفكرة هذه في جميع أعماله بما هي ضرورة لا غنىللمستعمَرين والمستغَلين، أو بشكل أدق لـ”معذبي الأرض“، من أجل القضاء على كل أوجه نظام السيطرة والاستغلال التي كانت، ولا تزال، تسود في العالم.
لذا، رافقت فكرة الثورة تفكيره وممارسته في مجال الطب النفسي، عالمه المهني، وعلى صعيد إنتاجه العلمي وكذا على الصعيد السياسي.
تطور الطبيب النفسي فانون
في الطب النفسي، المتخذِ مهنةً، بدأ فانون مسعاه إلى فهم الجنون، ذاك الذي يصيب البشر بمعنى الكلمة السريري، والذي يصيب المجتمع. ففي نظره، ليست أدواء الإنسان غير أدواء المجتمع الذي يعيش فيه. تستند أطروحته بالكامل إلى فكرة مؤداها أنه "لا يمكن اختزال الاغتراب في اضطرابات التركيب العضوي أو تاريخ الفرد، خارج أي رابط اجتماعي“ 2، كما يؤكد جان خالفا.
كان معاصرا لميشيل فوكو الذي يتناول هو الآخر، وفي الحقبة عينها، موضوع الجنون. ويحاول العديد من الباحثين تبين تقارب بينهما. فقد تفكر كلاهما، في سياقات مختلفة، في إمكان قيام علم أمراض عقلية جديد. ويشجبان في الواقع التيارين الرئيسيين اللذين يقسمان الطب النفسي. من ناحية، الطب النفسي الإيجابي الذي يعتبر الأمراض العقلية جواهر أبدية باعتبار الفصام والبارانويا والاكتئاب مفاهيم مجردة تخترق نفسية المريض وتغيرها. ومن ناحية أخرى، الطب النفسي الوجودي الذي يرفض اعتبار المرض مشكلة عضوية.
ولكن فانون، على عكس فوكو، غير معروف فيلسوفاً للجنون والطب النفسي. إنه مشهور أكثر بما هو مفكر سياسي بفعل كتاباته عن العنف. بيد أن هذه النظرة إلى الأمور بدأت تتغير مع نشر كتاباته في الطب النفسي. فقد أثارت هذه النصوص، بمجرد أن أصبحت معروفة ومتاحة، اهتمامًا متجددًا بالتفاعل بين طبّه النفسي الثوري وسياسته الثورية.
التجذر المناهض للاستعمار
سافر فانون، بعد تخرجه، إلى الجزائر في عام 1953، وكانت لا تزال تحت وطأة الاحتلال الاستعماري، بقصد العمل في مستشفى الأمراض النفسية في البليدة-جوينفيل. ركز في أبحاثه في الطب النفسي على السياقات الاجتماعية والتاريخية للميول النفسية المفترض أنها مرضية لدى المستعمَرين، وتناول التحديات التي تفرضها ممارسة الطب النفسي في المجتمع الاستعماري. تجذرت مواقف فانون بسبب عمله في الطب النفسي، فانضم إلى جبهة التحرير الوطني (FLN) في عام 1955. ولما بات وجوده في البليدة غير محتمل، استقال وانتقل إلى تونس في عام 1956.
وهناك، في عام 1958، افتتح أول عيادة في شمال إفريقيا، حيث بدأ في إعداد دورة دراسية مسيسة جدا حول علم النفس المرضي الاجتماعي، ”لقاء المجتمع والطب النفسي“ (1959-1960)، مستكشفا ترابط الجنون والحالة الطبيعية والعمل والاحتجاج ونظام العدالة الجنائية والعنصرية. نشر فانون، قبيل وفاته، كتاب ”معذبو الأرض“ (1961). يعرض فصل ”الحرب الاستعمارية والاضطرابات العقلية“ رسومات نفسية سياسية لحالات سريرية من البليدة وتونس، بالإضافة إلى نقد لمدرسة الجزائر. يقول عنه جاك دريدا إنه كان "استثنائيًا للغاية وغير نمطي ” في مجال الطب النفسي الفرنسي في شمال إفريقيا لأنه كان دائمًا “يثير مسألة ممارسته الخاصة في أبعادها السياسية". وبسبب هذه الأبعاد بالتحديد، لم يكن أحد، بحسب فوكو، مهتمًا بعمله قبل مايو 1968
طب نفسي دينامي
تصرف فانون، انطلاقاً من تخصصه وموضوعه العلمي، أي الطب النفسي، كمفكر زمانه، متطرقاً على الصعيد النظري والمنهجي إلى مجالات أخرى من العلوم الاجتماعية والإنسانية، ولا سيما علم الأجناس البشرية، الحاضر بقوة آنذاك في السياسة الاستعمارية. واتخذ فرويد مرجعا له. لكنه لم يتصرف كتلميذ بسيط. "لم يفكر فرويد ولا أدلر ولا حتى جونغ الكوني في السود في أبحاثهم [...] . غالبًا ما ننسى أن العُصاب ليس جزءًا من الواقع البشري. وسواء شئنا أم أبينا، لن تظهر عقدة أوديب قريبًا لدى السود "، كما كتب في كتاب "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء" 3. اكتفى فرويد، في نظر فانون، بشرح أن حالة راهنية لا يمكن أن توجد إلا في ماضي الفرد، متخليًا عن إدخال بُعد أساسي في رؤيته: بُعد مستقبله. لا يمكن فهم أي فعل بشري، بما في ذلك الأمراض النفسية، إلا باعتباره حالة ملموسة من التوتر بين قوى التوازن الدينامي الموجهة نحو المستقبل وعرقلة هذه القوى من قبل قوى تعمل في الاتجاه المعاكس وتسعى إلى منع هذا التطور.
واستنادًا إلى أعمال جاك لاكان، أبدى اختلافه مع مفهوم ”التكوين“ مستعيضا عنه بمفهوم ”البنية“ 4. ولكنه تمايز، في الآن ذاته، عن استخدام مفهوم ”البنية“العزيز على المدرسة البنيوية الرائجة في فرنسا آنذاك. كان كلود ليفي-ستراوس، ممثل هذه المدرسة الرئيس في فرنسا، يرى في بنيات المجتمعات البدائية بنيات دائمة وكونية غير دالة. وينطبق الأمر عينه على بنيوية ألتوسير الماركسية. ليست البنيات المكونة للسلوك البشري، بنظر فانون، حقائق كونية، بل حقائق محددة نشأت من أصل ماضي وتخضع لتحوّلات ترسم ملامح تطور (أو ثورة) مستقبلي.
في الحقبة نفسها في الجزائر، نافسته في هذا المجال أعمال جيرمين تيون Germaine Tillon في علم الأجناس البشرية حول السكان البربر في الاوراس (الشاوية) وأعمال بيير بورديو حول سكان القبائل، كل في مجاله وعالمه. كلاهما يعرضان بنية المجتمع الجزائري، الاجتماعية والثقافية، في جوهرها وليس في وجودها التاريخي 5. يرى فانون أن البنى التي يحللها نتيجةٌ لعملية هيكلة وتشكيل. وهي في حالة دراساته عن المجتمع الأسود والمجتمع الجزائري، نتيجة للهيكلة الاستعمارية. ويدعو، في مواجهة هذا التفكيك، إلى ضرورة إعادة هيكلة جديدة وليس العودة إلى البنية القديمة. ومن هنا انضمامه إلى العمل الثوري الذي بدأته جبهة التحرير الوطني.
الوجود بالنضال
يستند فانون، على الصعيد الاستدلالي 6، إلى فرويد وهيغل وماركس. ولكن، كما يشير فرانسيس جينسون، " من الخطأ البحث في ذلك عن نظام مفاهيمي " 7. و دون وقوع في نزعة تجريبية تامة، يعتمد على الاستقراء، بقراءة الواقع، أكثر من العمل بنموذج نظري ما . كما أكدنا أعلاه، يختلف فانون عن فرويد في تفسيره الأوديبي الذي لا ينطبق على تاريخ المجتمع الأفريقي الأسود. ويتمايز بوجه خاص عن غياب بُعد المستقبل في مواجهة هذه العقدة.
و يستعير فانون من هيغل فكرة أن ” الإنسان لا يكتسب انسانيته إلا بقدر ما يسعى إلى فرض نفسه على إنسان آخر، حتى يعترف به هذا الآخر". 8 ويعتبر، في تحليله للمجتمع الكاريبي، "أن الزنجي، الذي كان غارقا في العبودية، قد حرره سيدُه. لم يخض نضالا من أجل الحرية. الزنجي عبدٌ سُمِح له بتبني موقف السيد" 9. قال: الزنجي يجهل ثمن الحرية، لأنه لم يقاتل من أجلها. "الفرد الذي لم يخاطر بحياته قد ينال اعترافا بما هو شخص، ولكنه... لم يصل إلى حقيقة هذا الاعتراف بما هو اعتراف بوعي مستقل بالذات " 10.
لكنه سرعان ما يغير استنتاجه مشيرًا إلى أن "السود الأمريكيين يعيشون مأساة أخرى. في أمريكا، يقاتل السود ويُقاَتلون. هناك قوانين تختفي تدريجياً من الدستور. وثمة مراسيم تحظر بعض أشكال التمييز. ونحن على يقين من أن الأمر لا يتعلق بهبات”. “إذا كانت هناك معركة، فهناك هزائم وهُدنات وانتصارات"11.ولكن ما من حلٍّ سوى النضال. وسيخوض هذا النضال ويقوده ليس بعدَ تحليل ماركسي أو مثالي، بل ببساطة لأنه"لا يستطيع تصور وجوده إلا في شكل نضال ضد الاستغلال والبؤس والجوع" 12 .
يتبنى، من عند ماركس، إحدى أطروحاته عن فيورباخ "لم يعد الأمر يتعلق بمعرفة العالم، بل بتغييره " 13. وهذا ما حدا به إلى الانضمام دون تردد إلى نضال الجزائريين/ت من أجل استقلالهم/ن. لم يفعل ذلك على سبيل المساندة، بل باعتباره نضاله الخاص. يتحدث بصيغة «نحن» عندما يتعلق الأمر بجبهة التحرير الوطني.
طبَّق، في الجزائر، أطروحاته في حياته المهنية وفي منهجه النظري، ما دفعه إلى الانخراط في العمل السياسي. كان التحدي الرئيس يكمن عنده في التغيير الهيكلي للبلد والمجتمع. ورأى أن هذا التغيير يتحقق في الثورة التي أطلقتها جبهة التحرير الوطني في عام 1954.
كان هذا الانتقال إلى النضال بالنسبة لفانون حجر الناصية لفهم ديناميي وديالكتيكي للمجتمع الجزائري. لأنه، كما أكد، «لا يكتسب الإنسان انسانيته إلا بقدر ما يريد أن يفرض نفسه على إنسان آخر، لكي يعترف به هذا الآخر». ويستشهد بثلاثة أمثلة لدعم قوله، سنقدمها بإيجاز.
الحجاب
يشرح فانون، في فصل عنوانُه ”الجزائر التي تنزع الحجاب“، كيف أن المرأة، في أسرة منغلقة على نفسها ومجتمع منطوٍٍ في يأس طويل، ترى في دعوة الجبهة الوطنية الى الكفاح المسلح للانعتاق طريقاً للتحرر، فشرعت تزيل الحجاب. يتحول الحجاب، أحد عناصر نظام الدلالة، - الذي كان في الأصل لباساً معبِرا عن الانتماء إلى نطاق ثقافي معين، مدعوا إلى التغير والتطور مع تطور العالم - إلى رمز للمقاومة والقتال. وسيصبح رهانَ معركة عظمى. ستحشد قوات الاحتلال أقوى مواردها. وسيجند المستعمَرون قوة قصور مذهلة. ولكن لابد من عودة إلى الأصول.
أسهم تاريخ غزو فرنسا للجزائر، الذي يسرد اقتحام القوات للقرى ومصادرة الممتلكات واغتصاب النساء ونهب البلد، في ولادة الصورة الدينامية نفسها وتبلورها. يخلق استحضار هذه الحرية الممنوحة لسادية الغازي، وإيروتيكيته، على مستوى الطبقات النفسية للمحتل، ثغرات، ونقاط خصبة قد تنبجس منها سلوكيات حُلْمية وفي بعض الأحيان سلوكيات إجرامية. 14
وهكذا، يكون اغتصاب المرأة الجزائرية في حلم الأوروبي مسبوقا دائمًا بتمزيق الحجاب. إننا هنا إزاء افتضاضين. وبالمثل، لا يكون سلوك المرأة أبدًا انضماما أو قبولا، بل سجودا.
كانت استراتيجية الاستعمار لتفكيك المجتمع الجزائري، على صعيد الأفراد، تولي المرأة مكانةً بارزة. وستثير ضراوة المستعمر، وطرقه في القتال، بطبيعة الحال، سلوكيات رد فعل لدى المستعمَر. يضطر المستعمَر، في مواجهة عنف المحتل، إلى تحديد موقف مبدئي تجاه عنصر كان في السابق خاملاً في التكوين الثقافي الأصلي. إن سُعار المستعمر في رغبته في كشف النقاب عن المرأة الجزائرية، ورهانه على تحقيق النصر في مسألة الحجاب بأي ثمن، هما اللذان سيؤديان إلى تصدي السكان الأصليين. إن كلام المستعمر العدواني المتعمد حول الحجاب يعطي حياة جديدة لهذا العنصر الميت، لأنه مستقر، دون تطور في الشكل والألوان، من المخزون الثقافي الجزائري. نجد هنا أحد قوانين سيكولوجية الاستعمار. في البداية، إنها الأفعال، إنها مشاريع المحتل هي التي تحدد مراكز المقاومة التي تنظم حولها إرادة استمرار شعب ما. 15
" الأبيض هو الذي يخلق الزنجي. لكن الزنجي هو الذي يخلق الزنوجة"
يتصدى المستعمَر للهجوم الاستعماري حول الحجاب بعبادة الحجاب. ويكتسب ما كان عنصراً غير مميز في مجموعة متجانسة طابعَ طابو، وسيتم دوما ربط موقف هذه الجزائرية، او تلك، من الحجاب بموقفها الاجمالي من الاحتلال الأجنبي. ويرد المستعمَر، بوجه تركيز المستعمِر على قطاع معين من تقاليده، ردا بالغ العنف.
خلق اندلاع حرب التحرير ظروفا جديدة وردود فعل جديدة. حتى عام 1955، كان الرجال وحدهم من يخوضون المعركة. وطيلة حقبة السيطرة غير المنازع فيها، كانت المجتمع الجزائري - وخاصة النساء - يميل إلى الهروب من المحتل. وأدى إصرار المحتل على إماطة حجاب النساء وجعلهن حليفات في عملية التدمير الثقافي إلى تعزيز السلوكيات التقليدية. لكن هذا الطابع شبه المحرم الذي اتخذه الحجاب في الوضع الاستعماري كاد يختفي تمامًا إبان النضال من أجل التحرير. حتى الجزائريات اللائي لم يشاركن بنشاط في النضال أخذن يعتدن على التخلي عن الحجاب.
يُزال الحجاب ثم يُعاد، يجري استعمال الحجاب أداةً، ويُحوَّل إلى تقنية تخَفٍّ، إلى وسيلة نضالٍ. [...] في ظروف معينة، خاصة ابتداءً من عام 1957، يعود الحجاب للظهور. إذ تغدو المهام بالفعل أشدَّ صعوبة. بات الخصم يعلم، بعد أن اعترفت مناضلات تحت التعذيب، أن النساء ذوات المظهر الأوروبي للغاية يؤدين دوراً أساسيا في المعركة. علاوة على ذلك، تم القبض على بعض الأوروبيات في الجزائر، ما أدى إلى إرباك الخصم الذي أدرك أن جهازه ذاته ينهار. كان اكتشاف السلطات الفرنسية مشاركة أوروبيين في الكفاح من أجل التحرير أحد أهم أحداث الثورة الجزائرية. أصبحت الدوريات الفرنسية، منذ ذلك اليوم، توقف أي شخص. الأوروبيون والجزائريون مشبوهون على حد سواء. تلاشت الحدود التاريخية واختفت. يُطلب من أي شخص يحمل حزمة أن يفتحها ويُظهر محتواها. ويمكن لأي شخص أن يطلب من أيٍّ آخر تفسيراً عن طبيعة أي طرد يُنقل إلى الجزائر أو فيليبفيل أو باتنة. غدا ضروريا، في ظل هذه الظروف، إخفاء الحزمة عن أنظار المحتل والتستر مرة أخرى بالحايك الواقي. 16
هنا، يتخذ ارتداء الحجاب في المدينة بُعدًا جديدًا ومعنى آخر. عند حمل شيء ثقيل تحت الحجاب، "خطير المناولة" 17، يجب إعطاء الانطباع بأن اليدين حرتان، وأن لا شيء تحت هذا الحجاب سوى امرأة فقيرة أو فتاة تافهة. "لم يعد الأمر مجرد وضع حجاب. يجب اتخاذ ”هيئة المرأة العادية“ بحيث يطمئن الجندي”. ويعتقد أن، “هذه عاجزة تمامًا عن فعل أي شيء".
جسد المرأة الجزائرية، الذي جرى في البداية تجريده، يتضخم الآن. في حين وجب في الحقبة السابقة تنحيف هذا الجسد وتأديبه في اتجاه الوقار أو الإغراء، وجب هنا سحقه وتشويهه وجعله مجردا إلى أقصى حد. إنه، كما رأينا، طورُ القنابل والقنابل اليدوية وشواحن البنادق الرشاشة 18.
إن المبادئ العقائدية للاستعمار في سعيه لتبرير استمرار سيطرته تدفع المستعمَرين دائمًا إلى اتخاذ مواقف معاكسة حاسمة وجامدة وثابتة. وإذا أعيد استعمال الحجاب للضرورة، يُجرد نهائيًا من بعده التقليدي البحت. ويأخذ دلالة مغايرة.
ثمة إذن حركية تاريخية للحجاب يمكن ملاحظتها بشكل ملموس في مجريات الاستعمار في الجزائر. في البداية، كان الحجاب آلية مقاومة، لكن قيمته عند المجموعة الاجتماعية ظلت قوية جدًا. يُرتدى الحجاب بحكم التقاليد، بسبب الفصل الصارم بين الجنسين، ولكن أيضاً لأن المحتل يريد نزع حجاب الجزائر. في مرحلة ثانية، تحدث التغييرات إبان الثورة وفي ظروف محددة. ويتم التخلي عن الحجاب في أثناء العمل الثوري. ما كان في الأصل انشغالا بإحباط هجمات المحتل النفسية أو السياسية يغدو وسيلة وأداة. يساعد الحجاب المرأة الجزائرية على الإجابة على الأسئلة الجديدة التي يطرحها النضال. تخرج مبادرة ردود فعل المستعمَرين عن سيطرة المستعمِرين 19.
إن متطلبات النضال هي التي تثير في المجتمع الجزائري مواقفَ جديدة وسلوكياتٍ جديدةً وطرق ظهور جديدةً. هل لهذه المقاربة الديالكتيكية البارزة في ملاحظات فانون قيمة عالمية؟ بعبارة أخرى، هل لا تزال استنتاجاته حول الحجاب صالحة في مواجهة عودته البارزة في المجتمع الإسلامي المعاصر، إبان الثورة الإيرانية عام 1979 على سبيل المثال، أو في مواجهة العنف وصنوف التشنيع التي تتعرض له النساء؟ تجدر الإشارة إلى أن هذا الديالكتيك لا يزال، للأسف، يجعل من المرأة كبش فداء!
على أي حال، ملاحظات فرانز فانون مماثلة فيما يتعلق بالتقنيات الأخرى التي أدخلها الاستعمار، مثل الراديو والطب على سبيل المثال. ويمكن ملاحظة هذه الظاهرة أيضًا في موقف المستعمَرين تجاه استخدام اللغة الفرنسية.
اللغة الفرنسية والمستعمَرون
نجد، وراء موقف النساء الجديد الذي شهدناه في أثناء النضال من أجل التحرر، الوضع الاستعماري برمته موضع سؤال. يؤدي الاعتراض على مبدأ الاستعمار الأجنبي ذاته إلى تغييرات جوهرية في وعي المستعمَرين، وفي تصورهم للمستعمِر، وفي وضعهم كبشر في هذا العالم. تلك حال العلاقة بجهاز الراديو.
رفض المجتمع الجزائري بأسره أجهزة الراديو. رفض هذه التقنية التي تهدد استقراره وأنماطه التقليدية من التآنس الاجتماعي؛ والسبب المورَد أن البرامج، غير المتمايزة بفعل تقليد النموذج الغربي، لا تناسب التسلسل الهرمي الأبوي الصارم، بل والإقطاعي، المنطوي على محظورات أخلاقية عدة، الخاص بالأسرة الجزائرية.
لكن منذ بداية حرب الاستقلال، شعر الشعب الجزائري بالحاجة إلى تطوير شبكة المعلومات الخاصة به. آنذاك، حدثت التغيرات الأهم في اقتناء أجهزة الاستقبال، وفي المواقف الجديدة تجاه هذه التقنية المحددة للمعلومات. فمنذ الأشهر الأولى للثورة، سعى الجزائريون إلى إيجاد مصادر معلومات خاصة بهم بهدف حماية أنفسهم والهروب مما اعتبروه مناورات كاذبة من قبل المحتل. أصبحت معرفة ما يجري أمراً أساسياً. كانوا بحاجة إلى رفع مقام حياتهم إلى مستوى الثورة.
تعني حيازة جهاز راديو الحصول على حق الانخراط في هذه المعركة. مع جهاز الراديو، سيكتسب صوت الجزائر المكافحة أهمية قصوى على صعيد التماسك. كان لاستخدام اللغات العربية والقبايلية والفرنسية ميزة تطوير وحدة الشعب وتعزيزها، وإبراز جميع مناطق البلاد.
بدءا من عام 1954، فقدت الإذاعة وأجهزة الاستقبال طابعها العدائي، وتخلصت من طابعها الغريب، ونظمت نفسها في إطار متماسك مع الأمة التي كانت تخوض نضالها. في ظل الهواجس المهلوسة، اعتبارًا من عام 1956، أصبحت الأصوات الإذاعية حامية ومتواطئة. اختفت الإهانات والاتهامات وحلت محلها كلمات التشجيع. أصبحت التقنية الأجنبية، التي ”تم استيعابها“ إبان النضال الوطني، أداة قتال للشعب ووسيلة حماية من القلق 20.
على صعيد الاتصال، تجدر الإشارة إلى اكتساب اللغة الفرنسية قيما جديدة. إذ أدى بث برامج الجزائر المكافحة باللغة الفرنسية إلى تحرير اللغة المعادية من معانيها التاريخية. نفس الرسالة، التي تم بثها بثلاث لغات مختلفة، توحد التجربة وتضفي عليها بعدًا عالميًا. فقدت اللغة الفرنسية طابعها الملعون، وأثبتت قدرتها على نقل رسائل الحقيقة التي تنتظرها الأمة. وبقدر ما يبدو ذلك متناقضًا، فإن الثورة الجزائرية ونضال الشعب الجزائري هما اللذين سهلا انتشار اللغة الفرنسية في الأمة.
لم يعد التعبير باللغة الفرنسية وفهمها يعتبران خيانة أو تعاطفاً مع المحتل. أصبحت اللغة الفرنسية، بفعل استخدامها من قبل صوت المكافحين، الذي ينقل رسالة الثورة بشكل مؤثر، أداة تحرر.
قبل عام 1954، كانت معظم أعمال مؤتمرات الأحزاب الوطنية تجري باللغة العربية. وبشكل أكثر دقة، كان مناضلو القبائل أو والأوراس يتعلمون اللغة العربية خلال أنشطتهم الوطنية. قبل عام 1954، كان التحدث باللغة العربية ورفض اللغة الفرنسية كلغة وكوسيلة للقمع الثقافي شكلاً متميزاً ويومياً من أشكال التميز والوجود الوطني. وفي أغسطس 1956، أزالت حقيقة النضال وارتباك المحتل الطابع المقدس عن اللغة العربية، وأزالت الطابع الملعون للغة الفرنسية. عندئذ، أصبح من الممكن الإعلان عن اللغة الجديدة للأمة باستخدام شبكات متعددة ذات دلالات 21.
استنتاج عملي وذو نطاق أعم: "منذ أن استعاد جسمُ الأمة الحياة بشكل متماسك ودينامي، أصبح كل شيء ممكناً... الشعب الذي يأخذ مصيره بين يديه يستوعب بأسلوب غير معتاد أشكال التكنولوجيا الأكثر حداثة“.
العنف من أجل السعي إلى الحرية
يبني فانون تحليلاته على ملاحظة وقراءة ردود فعل الناس ”الذاتية“ أكثر مما يؤسسها على قراءة ”موضوعية“ وفقًا لقوانين التاريخ. لا يستند تطور الحجة إلى النظرية بل إلى التجربة، وهي نقطة انطلاق تطور فكره: «نعتقد، بعيدًا عن اقتراح حل، أن من الضروري أن نعيش حياة من الدراسة والملاحظة» 22. ويستنتج أن النضال العنيف وحده يؤتي ثمارا.
وتكمن أصالة السياق الاستعماري في أن الواقع الاقتصادي، والتفاوتات، والاختلافات الهائلة في أنماط الحياة، لا يمكنها أبدًا إخفاء الحقائق الإنسانية. عندما ننظر إلى السياق الاستعماري في آنيته، يتضح أن ما يقسم العالم هو في المقام الأول الانتماء أو عدم الانتماء إلى نوع معين أو عرق معين. في المستعمرات، تمثل البنية التحتية الاقتصادية أيضًا بنية فوقية. السبب هو النتيجة: الغني غني لأنه أبيض، والأبيض أبيض لأنه غني. لهذا السبب يجب أن تكون التحليلات الماركسية دائماً مُفسَحة قليلاً كلما تم التطرق إلى المشكلة الاستعمارية. 23
في هذا السياق، العنف كُـلـيُّ الوجود. أول ما يتعلمه السكان الأصليون البقاءُ في مكانهم، وعدم تجاوز الحدود.
في هذه الحالة، تكون أحلام السكان الأصليين أحلام فعل، أحلامًا عدوانية. هذه العدوانية المترسبة في عضلات المستعمَر، سيظهرها أولاً ضد قومه. إنها الفترة التي يتقاتل فيها المستعمَرون، السود، فيما بينهم. وطالما أن طرق التحرر تظل مظلمة، تستمر الصراعات القبلية. وبالانخراط في صراعات انتقامية، يحاول المستعمَرون إقناع أنفسهم بأن الاستعمار غير موجود، وأن كل شيء يسير كما كان من قبل، وأن التاريخ مستمر. وبواسطة الدين، ينجح المستعمَرون أيضًا في تجاهل المستعمِر. وبالقدرية، يتم تجريد المضطهِد من أي مبادرة، حيث يُعزى سبب الشرور والبؤس والقدر إلى الله. وهكذا يقبل الفرد الحلَّ الذي قرره الله، وينحني أمام المستعمِر وأمام القدر، ويصل إلى السكينة بواسطة ضربٍ من إعادة التوازن الداخلي.
أرشده المستعمر دائما إلى الطريق الذي يجب أن يسلكه إذا أراد التحرر. الحجة التي يختارها المستعمَر جاءته من المستعمِر، وبتقلب ساخر للأمور، أصبح المستعمَر الآن هو من يؤكد أن المستعمر لا يفهم سوى القوة. يستمد النظام الاستعماري شرعيته من القوة، ولا يحاول في أي وقت من الأوقات التحايل على طبيعة الأمور هذه. لا يكف كلِ تمثال، سواء كان لفايديرب أو ليوطي أو بوجو أو الرقيب بلاندان، كل هؤلاء الفاتحين المتربعين على الأرض الاستعمارية، عن إظهار معنى واحد: ”نحن هنا بقوة البنادق...“ 24
لكن ظهور الكفاح المسلح يشير إلى أن الشعب قرر ألا يثق إلا في الوسائل العنيفة. العنف ليس إذن خيارًا. إنه كلي الوجود في فعل السيطرة الاستعمارية.
من المقصود بالدعوة إلى النضال العنيف؟
هذا هو السؤال الذي النابع من ملاحظات قراءة مُنجَز فانون. إنه موجه إلى المعدمين، الذين لم يعودوا في الأساس شغيلة البلدان الصناعية في نهاية القرن التاسع عشر الذين يهتفون "انهضوا يا معذبي الأرض، انهضوا يا أسرى الجوع". معذبو الأرض الذين يخاطبهم فانون هم المحرومون في البلدان الفقيرة الذين يريدون حقًا في الأرض والخبز، في حين أن الطبقة العاملة في العالم الغربي آنذاك كانت تعتبر في كثير من الأحيان عنصرية وجاهلة بجلاء لسكان ما وراء البحار. وهي تشهد على لامبالاة نسبية تجاه مصير المستعمرات التي تستفيد منها بشكل غير مباشر.
ما يحدد ”الطبقة الحاكمة“ هو طابعها الأجنبي، قدومها من مكان آخر، وعدم شبهها بالسكان الأصليين. ليس القصد البحث عنها في المصانع التي تمتلكها، ولا في ممتلكاتها، ولا في حساباتها المصرفية. هناك فقط ”نحن“ و”الآخرون“.
الأرض أولا هي القيمة الأساسية لدى الشعب المستعمر، لأنها الأكثر واقعية: الأرض التي يجب أن تضمن الخبز، وبالطبع الكرامة. لكن هذه الكرامة لا علاقة لها بكرامة ”الشخصية الانسانية“. هذه القيمة الإنسانية المثالية لم يسمع عنها قط. ما رآه المستعمَر على أرضه هو أنه يمكن اعتقاله وضربه وتجويعه دون عقاب؛ ولم يأت قط أي أستاذ أخلاق أو قسيس ليتلقى الضربات بدلاً منه أو ليشاركه خبزه. 25
ينتقد العمل النضالي المنظم من خلال نقد المثقف. لأن المثقف الذي اتبع المستعمر على مستوى المثاليات المجردة سوف يناضل من أجل أن يعيش المستعمر والمستعمر في سلام في عالم جديد.
لكن ما لا يبصره، بفعل تسلل الاستعمار إليه بكل أنماط تفكيره، هو أن المستعمِر لم تعد لديه، بمجرد زوال السياق الاستعماري، مصلحة في البقاء والتعايش. ليس من قبيل الصدفة أن الأقلية الأوروبية التي تسمى «ليبرالية» قد أعلنت موقفها قبل أي مفاوضات بين الحكومة الجزائرية والحكومة الفرنسية: فهي تطالب، لا أكثر ولا أقل، بالجنسية المزدوجة. فبالاكتفاء بالجانب النظري، يُراد الحكم على المستعمِر بالقيام بقفزة ملموسة إلى المجهول. 26
وكما يدرك المستعمِر تمامًا أن لا وجود لعبارات قد تحل محل الواقع، لا يقاتل السكان الأصليون من أجل شعار مجرد: «السلطة للبروليتاريا». بشكل ملموس، يتخذ النضال مبناه ومعناه أولاً من خلال شعارات مرتبطة بالأمة. ومع ذلك، حتى هذا الشعار الأخير يحتوي بنظر فانون على قسط من التجريد.
يتم تجاهل الفلاحين بشكل منهجي من قبل دعاية معظم الأحزاب الوطنية. لكن من الواضح أن الفلاحين هم وحدهم الثوريون في البلدان المستعمرة. 27
بنظر فانون، يشعر الفلاحون بكراهية إزاء ”السياسة“ والديماغوجية. ولهذا السبب، نشهد في البداية انتصارًا حقيقيًا لعبادة العفوية.
كان الخطأ الكبير، والعيب الخلقي لأغلب الأحزاب السياسية في المناطق المتخلفة، وفقًا للنمط الكلاسيكي، هو توجيه اهتمامها في المقام الأول إلى العناصر الأكثر وعيًا: البروليتاريا في المدن، والحرفيين والموظفين، أي جزء ضئيل من السكان لا يمثل أكثر من واحد في المائة. [...] البروليتاريا هي نواة الشعب المستعمَر الأكثر تفضيلاً من قبل النظام الاستعماري. تحظى البروليتاريا الجنينية في المدن بامتيازات نسبية. في البلدان الرأسمالية، ليس لدى البروليتاريا ما تخسره، بل هي التي قد تكسب كل شيء. وفي البلدان المستعمَرة، البروليتاريا لديها كل شيء لتخسره. فهي تمثل في الواقع الجزء الضروري من الشعب المستعمر الذي لا غنى عنه لكي تسير الآلة الاستعمارية على ما يرام. 28
خاتمة لإعادة فتح النقاش
دعونا لا ننسى أن فانون كان طبيبًا نفسيًا. نادرًا ما كف عن ممارسة مهنته، سواء في فرنسا أو الجزائر أو تونس. ولكن لو كانت مهنته مجرد نشاط مهني منفصلا عن اهتماماته الرئيسية، لكان على الأرجح قد افتتح عيادة خاصة كالتي كانت مزدهرة وقتئذ 29. بواسطة الطب النفسي، بدأ في فهم الإنسان ثم المجتمع الذي يدفعه إلى الجنون. لذا، فإن إلهامه ينبع من الطريقة التي يفهم بها ممارسته بما هو طبيب نفسي. تبدو له المؤسسة النفسية آلةً لتطبيع «المجنون» وفرض معايير عليه لا علاقة لها بما تعبر عنه كلماته. انضم إلى الحركة المناهضة للطب النفسي، وركز على تحرير هذا الكلام من خلال قلب العلاقة بين الطبيب والمريض. ففي الجنون تكمن الحقيقة والأصالة اللتان يجب السماح لهما بممارسة حريتهما. هناك نوع من التوازي بين شعبوية ذات بعد التحرري وممارسته الطبية، كما يشير محمد حربي 30.
لا يمكننا اختتام هذا النقاش دون الإشارة إلى دعم الأممية الرابعة النضالي، ولا سيما التزامات بابلو Pabloورفاقه، ثم الصداقة التي طورها آلان كريفين (الرابطة الشيوعية الثورية ثم الحزب الجديد المناهض للرأسمالية) في شبابه النضالي مع نضال الجزائريين من أجل استقلالهم.
إذا كان هناك خيط موجه يخترق الفكر الماركسي، فهو بالتأكيد الطبقة العاملة بما هي قوة ثورية وتحررية، قادرة على فرض الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية عبر نشاطها الذاتي.
لا تستند هذه المقدرة، بحسب إرنست ماندل، إلى «مثالية» اعتباطية أو طوباوية أو إرادية، بل إلى الظروف المادية/الموضوعية لوجود هذه الطبقة في ظل الرأسمالية. ينبع الدور الذي تضطلع به هذه الطبقة من وضعها المطبوع بالاستغلال والاضطهاد والاستلاب، الذي يدفعها إلى المقاومة والنضال والتمرد. كما تشهد على ذلك الحقائق والأحداث. لا يوجد الوعي الجماعي الاجتماعي السياسي الذي تبديه بنحو مسبق؛ فهو لا ينبع مسبقاً من «طبيعتها الطبقية». (فرانسوا فيركامين)
إنما يدحض هذه المكانة قليلاً مع ما رأيناه للتو عند فانون وتحرر شعب الجزائر من الاستعمار. كما أنها مرفوضة من قبل رفيق نضال إرنست ماندل، ميشيل بابلو، الذي يعتبرها موقفاً أوروبي مركزيا للغاية، ويدافع عن أفكار قريبة من أفكار فانون.
ثمة في فلسفة فانون، كرد فعل أولي على الاستعباد والاستعمار، ما يندرج في إطار الذاتية. وهي تتمثل في الوقوف إلى جانب من يناضلون من أجل حريتهم في الوقت الراهن وبغض النظر عن الظروف. يبرز فرانسيس جينسون Francis Jeanson هذه الذاتية في نضال فانون:
إنه لا يكترث بأن يكون موضوعياً، لأنه منشغل جداً بحل المشكلة. «لم يكن بإمكاني أن أكون موضوعياً»، كما قال. «كانت الموضوعية العلمية محظورة عليّ، لأن المريض النفسي، العصابي، كان أخي، كان أختي، كان أبي». «استعصاء الموضوعية» هذا، هذا النوع من الالزام الحيوي الذي يُفرض على المستعمَر برفض كل من الطب والنظام الاستعماري، واللغة و«الوجود» الفرنسي، والراديو كأداة، وفكر المضطهد. الحرص على الشمولية، وعلى اعتبار جميع جوانب الموقف، وعلى تدقيق الحكم إلى ما لا نهاية، ترف لا يمكن أن يمنحه لنفسه من يتعرض للإنكار اجتماعياً: «بالنسبة للمستعمر، الموضوعية دائماً موجهة ضده". 31
لا يتعلق الأمر إذن بالتمسك بقوانين التاريخ الموضوعية من أجل اكتشاف الطريق الصحيح صوب التحرر. يتعلق الأمر ببناء تاريخه الخاص من خلال الالتزام، و رسم الطريق من خلال الالتزام. إن التطلع إلى خلاص مستقبلي للمجتمعات البشرية لا يقدم أي علاج لمصائب العبيد والمستعمرين المعذبين في الأرض في هذا الزمان. إن تحقيق التحرر البشري يوماً ما هو عزاء ضئيل لمن هو على وشك الموت. الإنسان الذي يجب إنقاذه ليس هذا المفهوم المجرد الذي لا ينتمي إلى أي زمان.
وقد دافع بابلو 32 عن نهج مماثل عندما انخرط في حرب الاستقلال الجزائرية. و انتقد بابلو، على عكس العديد من المناضلين الأوروبيين، الذين اعتقدوا أن قارتهم كانت حتماً مركزاً دائماً للثورة العالمية، هذا النزوع الأوروبي المركزي، ليقترب مما سيُعرف لاحقاً بـ«النزعة العالم الثالثية ". " ظللنا، في المقام الأول، برغم دعمنا النظري للثورات التي هزمت إمبراطوريات الماضي العظيمة، "أوروبيين مركزيين"، كما قال.
وهذا هو أيضًا موقف ف. جينسون، المناضل الآخر، التحرري، في الحرب الجزائرية. لأنه، كما يقول، يبدو لي أكثر فأكثر أننا، نحن الأوروبيين، نقضي وقتنا في لعب لعبة الاختباء مع الحقائق - باسم فكرتنا عن الثورة: عندما يتعلق الأمر بنا، لم يحن الوقت بعدُ؛ وعندما يتعلق الأمر بالآخرين، ما هكذا وجب التعامل مع الأمر".
ولكن إذا كان “معذبو الأرض" قد نجحوا في التحرر من نير الاستعمار، فإنهم لم ينجحوا في إطاحة الرأسمالية. السؤال الذي يطرح نفسه هو من نوع آخر: هل هم قادرون أيضًا على قلب الرأسمالية، والاستيلاء على السلطة السياسية و(بدء) بناء مجتمع مغاير قائم على ملكية وسائل الإنتاج الجماعية، والتخطيط الديمقراطي، والتنظيم الذاتي، وتلبية حاجات أغلبية السكان الاجتماعية؟ وبعبارة أدق علميا صاغها دانيال بنسعيد، ”يقول نفي النفي ما يجب أن يزول، دون أن يملي بالضرورة ما يجب أن يحدث“ 33.
إنه الانتقال من وعي حقيقي إلى وعي ممكن، حسب تعبير لوسيان غولدمان 34. لكن هذا موضوع نقاش آخر...
8 سبتمبر 2025
- 1Mohamed Harbi, postface à l’édition 2002 des Damnés de la terre, p. 305.
- 2Jean Khalfa, « Fanon, psychiatre révolutionnaire », in, Franz Fanon, écrits sur l’aliénation et la liberté, La Découverte, Paris, 2015, p. 106.
- 3F. Fanon, Peau noire, masques blancs, p. 158.
- 4Ibid, p. 92.
- 5
لكن، إنصافا لبورديو، يتمايز هذا الأخير عن مسعاه الجوهراني في بداياته لتفسير وضع الفلاحين الجزائريين بما هو ناتج عما تعرضوا له من اجتثاث بفعل الاستعمار
(Le Déracinement : la crise de l'agriculture traditionnelle en Algérie, Pierre Bourdieu et Abdelmalek Sayad, éditions de Minuit, 1964).
- 6L’heuristique est l’art d'inventer, de faire des découvertes en résolvant des problèmes à partir de connaissances incomplètes.
- 7F. Jeanson, préface à Peau noire, masques blancs, op cit., p. 15.
- 8Il reprend une assertion de Hegel, à savoir que « la conscience de soi est en soi et pour soi quand et parce qu’elle est en soi et pour soi pour une autre conscience de soi ; c’est-à-dire qu’elle n’est qu’en tant qu’être reconnu », ibid, p. 200.
- 9F. Fanon, Peau noire, masques blancs, op.cit. p. 216.
- 10Ibid.
- 11Ibid, p. 219.
- 12Ibid, p. 222.
- 13Ibid, p. 36.
- 14Onirique : relatif aux rêves. F. Fanon, Sociologie de la révolution (l’an 5 de la révolution algérienne), p. 28.
- 15Ibid. p. 29
- 16Ibid, p. 42.
- 17Résistance algérienne, organe officiel de communication du Front de libération nationale, publié en arabe et en français, 16 mai 1957.
- 18Ibid, p. 42.
- 19Ibid, p. 43.
- 20Ibid, p. 67. L’extranéité est le caractère de ce qui est étranger.
- 21Ibid, p. 70.
- 22F. Fanon, Altérations mentales…, cité par Jean Khalfa, op. cit. note 2, p. 167.
- 23F. Fanon, Les Damnés…, op. cit., p. 78.
- 24Ibid, p. 86.
- 25Ibib, p. 52.
- 26Ibid, p. 53.
- 27Ibid, p. 66.
- 28Ibid, p. 110.
- 29Remarque de Charles Geronimi, qui fut l’un des internes de Fanon, entretien du 24 mai 2014, cité par J. Khalfa, op. cit., p. 163.
- 30M. Harbi, postface…, op. cit. note 1.
- 31F. Jeanson, postface de Peau noire…, op. cit., p. 253.
- 32Voir Hall Greenland, Michel Pablo ou l’odyssée d’un trotskiste hérétique, éditions Syllepse, 2025.
- 33D. Bensaïd. La discordance des temps, essai sur les crises, les classes, l’histoire, éditions de la passion, 1995, p. 61.
- 34Voir sur cette question L. Goldman, La création culturelle dans la société moderne, éditions Denoël, 1971.