
يبدو عملكم حول الصناعة العسكرية ووظيفتها الجيوسياسية متناغماً مع الوضع الحالي. نشهد، منذ عقود عديدة، أزمة مردودية الرأسمال، واستمرار الحروب وحتى تفاقمها. تقع بؤر التوتر في الشرق الأوسط وأفريقيا، وباتت أيضًا في أوروبا مع عدوان روسيا على أوكرانيا. في أعقاب انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية العسكري، يبدو أن دول أوروبا، بعد تخلّيها عن منظور رأسمالية خضراء، مستعدة للانخراط في «منعطف حربوي» تحت ذريعة مواجهة تهديد روسيا.
أرى ضرورة الانطلاق من فكرة أن انتخاب ترامب وما اتخذ من تدابير تفتتح مرحلة فوضى وسير نحو مناطق غير خاضعة للتحكم. لا يعرف ترامب نفسه إلى أين سيؤدي ذلك، لكن كما يقولون، «إما فوز ناجز أو اندحار». يجب، عوض التركيز على سمة الشخص النفسية أو المرضية ، إعادة وضع دور الأفراد في التاريخ قياسا بالوضع. لم يمكن أن يوجد سوى شخص مثل ترامب لتدمير ما يجب تدميره من أجل مصالح الرأسمالية الأمريكية.
منذ متم سنوات 2000، دخلت الرأسمالية وضعاً جديداً – هو ما أسميه «لحظة 2008» – تجلّى في أزمة اقتصادية ومالية في الآن ذاته، وتباطؤ كبير في تراكم الرأسمال، كما ذكرتم للتو. ويتمثل العنصر الأساسي الثاني في تراجع الولايات المتحدة الأمريكية على الصعيدين الجيوسياسي والاقتصادي بوجه بزوغ الصين، في حين يكمن العنصر الثالث في القيود المادية والبيئية التي تضعها الطبيعة بوجه طموحات الرأسمال. وبالتالي، لا يمكن تحقيق التراكم إلا بانتهاك قوانين الطبيعة بشكل مطرد. تستهلك قواعد بيانات الذكاء الاصطناعي نسبة 3% من إجمالي استهلاك الطاقة في الولايات المتحدة الأمريكية في العام 2024.وتشير توقعات السنوات القادمة، أي قبل عام 2030، إلى بلوغ ذلك نسبة 8٪، وحتى نسبة 12٪ وفقًا لوزارة الطاقة الأمريكية. تترتب على ذلك عواقب على تدمير الطبيعة ونضوب الموارد، ما يفسر الحاجة الملحة التي أدت بترامب إلى إعلان رغبته في ضم غرينلاند وكندا بوجه التحديد لتوسيع قواعد الموارد المعدنية للولايات المتحدة الأمريكية.
هذا الوضع قائم منذ «لحظة 2008»، لكن الإجابات التي أتتها الإدارة الأمريكية، في عهد أوباما وبعد ذلك في ظل بايدن، كانت تسعى إلى احتواء صعود الصين الذي لا يقهر على الصعيد الاقتصادي والجغرافي السياسي، وبالتالي العسكري، مع استمرار الاعتماد على ما أسميه «الكتلة عابرة المحيط الأطلسي»، أي بإعادة إنتاج النظام الليبرالي والاقتصادي العالمي السائد منذ العام 1945. لم تتح هذه الإستراتيجية احتواء صعود الصين أو تراجع الولايات المتحدة الأمريكية، ولا حتى الحد من الدمار البيئي الذي يجعل الوصول إلى الموارد صعباً بشكل متزايد. وبالتالي، في هذا السياق، يندفع شخص مزاجي مثل ترامب في عملية هروب إلى أمام تؤدي إلى هاوية تعرض الاقتصاد العالمي والبشرية لخطر الانهيار. يزرع ترامب بذور الفوضى، لكنه غير متأكد بتاتاً من جني مكاسب منها. هنا تلتقي الشخصيات مع قوانين التاريخ: يعبر نزوع ترامب إلى التفكير قصير المدى عن محدودية أفق الرأسمال الأمريكي. لم يعد لدى هذا الأخير رؤية استراتيجية، سوى تقويض ازدهار الصين على الصعيدين الاقتصادي والجيوسياسي قبل العام 2030. يقول هلفيتيوس، كبير الموسوعيين الفرنسيين في عصر التنوير، إن «يحتاج التطور الاجتماعي إلى رجال عظماء، وعندما لا يجدهم، يخترعهم». اعتمد ماركس هذه الصيغة في كتابه النضال الطبقي في فرنسا بين عامي 1848 و1850. وتلخص هذه العبارة بشكل جيد العلاقة بين الرجال العظماء في التاريخ والقوانين الهيكلية الأساسية للرأسمالية.
تستخدم، بعد تجهيزها بالسلاح، كطائرة بدون طيار قتالية
للجيش الإسرائيلي. © Bthebest / CC BY-SA 3.0
إذن تعتبرون أن هذه المواجهة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين أساسية لفهم دينامية الرأسمال العالمي؟ كيف تندرج سياسة أوروبا في هذا الإطار؟ كيف تفسرون الإعلان عن استثمار 800 مليار يورو في إطار خطة إعادة تسليح أوروبا؟ ماذا عن إعادة التحويل العسكري لألمانيا لمواجهة أزمة قطاع السيارات؟ كيف تعتزم أوروبا البقاء في السباق العالمي في سياق الندرة الذي ذكرناه توا؟
يمثل هجوم ترامب على أوروبا بلا شك أكثر الجوانب إثارة للدهشة في سياسته، مما أرعب قادة/ات أوروبا إلى حد كبير. من المهم جدًا، لمجلتكم ولإجراء النقاشات النظرية حول هذه المسائل، فهم عدم وجود إمبريالية فائقة وحيدة في العالم ساعية إلى إخضاع برجوازيات أوروبا، على عكس ما اعتقده البعض طيلة فترة مديدة.
كما كتبت بانتظام منذ سنوات 1990، كان موقفي دوماً تحديد المنافسات بين الإمبرياليات، ليس مع الصين وحدها بل أيضاً داخل الكتلة عابرة المحيط الأطلسي. طبعا، كانت الهيمنة العسكرية الأمريكية تحول دون اندلاع حرب بين هذه البلدان، ما أدى، بنحو خاطئ إلى إعلان جزء كبير من التيار الماركسي نهاية الحروب بين الإمبرياليات. نشهد اليوم هذا الوضع الاستثنائي الذي يسمح لنا بطرح سؤال شبه محرم: هل يمكن نشوب حرب مسلحة بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا؟ بالطبع، أجيب اليوم بالنفي، لكن من اللازم أن ندرك جيدا أن مجرد طرح هذا السؤال يتيح تقدير مدى التنافس بين الإمبرياليات والدور الذي يؤديه به هجوم ترامب.
إنه بعد بالغ الأهمية «يمنح ذرائع» لقادة الاتحاد الأوروبي لتسريع العسكرة. لن أقول إعادة عسكرة، لأن العسكرة كانت قائمة بالفعل منذ أمد بعيد. كنت أركز على توضيح أنه إن كان تعذر الحديث عن إمبريالية أوروبية بصيغة المرد ، فكان من اللازم الحذر من اعتبار ان لا وجود لإمبريالية في أوروبا. أتيتم على ذكر ألمانيا وفرنسا، وكان بالوسع ذكر المملكة المتحدة أيضاً. وعلى نطاق أضيق، نرى أن الرهانات الجيوسياسية حول ليبيا تدل على أن إيطاليا، التي تمثل مع ذلك بقايا إمبريالية، لم تفقد طموحاتها بعد.
ليست ثمة قطيعة، لكن خطة «إعادة تسليح أوروبا» تظل مع ذلك مهمة للغاية. أشرت في المقال المنشور في مجلة المجلس العلمي لجمعية أطاك Attac في حزيران/يونيو 20241، إلى بعض الخطوط العريضة التي تبدو بنظرى لا تزال صالحة بعد مضي سنة. من ناحية، قام الاتحاد الأوروبي بعسكرة أراضيه عبر زيادة الإنفاقات العسكريّة بنسبة تفوق 50% منذ العام 2014. من ناحية أخرى، حتى إذا نظرنا إلى إنفاقات الاتحاد الأوروبي العسكرية اليوم، على أساس تعادل القوة الشرائية2، فإن إنفاقاته العسكرية أهم من تلك الخاصة بروسيا.
أنا لا أعمل على تنظير ذلك قائلاً إن أوروبا أكثر تسليحاً من روسيا، إذ سيكون ذلك عبثيا، لكن من العبث أيضاً، بعد الاطلاع على هذه الأرقام، تأكيد أن أوروبا لا تنفق ما يكفي لمواجهة روسيا. لذا، توجد بالطبع دفعة عسكرية، وتنامي سيرورة بدأت منذ العام 2010. هناك هذا المبلغ الهائل من المال الذي تم الإعلان عنه، واعتراف المفوضية نفسها بضرورة تحمل الدول الأعضاء الجزء الأكبر من الإنفاق ومسؤولية العسكرة. سيؤدي ارتفاع الإنفاق هذا بشكل أساسي إلى نمو المنظومات العسكرية الصناعية الوطنية وزيادة حجمها وتعزيزها، خاصة تلك التي في فرنسا وألمانيا من جهة، والمملكة المتحدة من جهة أخرى.
أود الإشارة هنا مستطردا: اطلعت على خطة ألمانيا التي تلغي حظر العجز في الميزانية. ثمة فعلا عسكرة متزايدة في ألمانيا وفرنسا، لكن هناك فرق كبير: ما يفوق نصف هذا التريليون مخصص للتحول الطاقي والبنى التحتية لتحسين الطرق وشبكات النقل الخ. جلي أنه لا يمكن لألمانيا، مقارنة بالصناعة الفرنسية التي تقتصر بنحو متزايد على العتاد الحربي، التخلي عن هدفها المتمثل في أن تكون أقوى اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، وبلا شك الثانية عالميا، وإلا هلكت.على العكس من ذلك، فإن نمط وجود فرنسا، كما يبدو على نحو مطرد، قائم في صون مكانتها العسكرية في العالم، وبالتالي تعزيز منظومتها الصناعية العسكرية. هذا مع العواقب الوخيمة لـ «حرب اجتماعية» ضد حقوق الأجراء/ات والمهاجرين/ات والشباب/ات، فضلاً عن تهديدات ضد الحريات الديمقراطية.توجد والحالة هذه خطة عامة، حيث تتسلح جميع البلدان، لكن مع خصوصيات وطنية.
يلزم إذن التمييز بين نزعة عسكرية اقتصادية مثلما عند ألمانيا، أول قوة في أوروبا، وبين نزعة عسكرية فرنسية بالمعنى الدقيق للكلمة. تبدو فرنسا اليوم قوة إمبريالية في أزمة، إذ تفقد نفوذها في أفريقيا وتعاني من المنافسة الاقتصادية لألمانيا وقوى أخرى.
أجل، هذا مهم جداً. يمثل اقتصاد فرنسا الحالة الوحيدة التي تعاني من عجز ضمن بلدان منطقة اليورو الخمسة عشر، والتي تحقق بأسرها فائضاً تجارياً، أي أن فرنسا تشتري من سائر بلدان العالم أو من بلدان الاتحاد الأوروبي أكثر بكثير مما تبيع لها. بالإضافة إلى ذلك، تعاني فرنسا من عجز في المبادلات التجارية مع جميع بلدان منطقة اليورو، مما يعكس الفجوة في القدرة التنافسية بين قطاع الصناعة الفرنسي وغيره من القطاعات الصناعية الأوروبية، مثل الألماني بالطبع، لكن الايطالي، حيث يتفوق قطاع الصناعة التحويلية على نظيره في فرنسا. تراكم الصناعة التحويلية في هذه الأخيرة، منذ العام 2008، عجزاً تجارياً إجمالياً مع بلدان منطقة اليورو يبلغ 500 مليار يورو.
لا يقتصر ضعف فرنسا والحالة هذه على علاقاتها مع الصين أو الولايات المتحدة الأمريكية وحسب، بل هو موجود بالفعل في صميم ما شكل استراتيجية فرنسا على مدى 50 عامًا، أي جعل أوروبا مقفزا للقوة بالنسبة لفرنسا. وسرعان ما اتضح، منذ سنوات 1990، أن هذا الطموح إلى بسط الهيمنة على أوروبا كان مجرد وهم. كانت آمال الحكومات آنذاك معقودة على أن تقوم «الميزة التنافسية» لفرنسا داخل أوروبا على المجال العسكري. كان قادة/ات فرنسا يعتقدون/ن أن بلدهم سيكون رائدًا في هذا المجال، لأن عسكرة الاتحاد الأوروبي كانت مسألة حتمية. غير أن فرنسا كانت تعاني بالفعل من تراجع جيوسياسي في أفريقيا ولبنان والشرق الأوسط، لكن الحرب في أوكرانيا قضت نهائيًا على هذا الوهم المبني على أن فرنسا قد تقوم بدور الوصي على دفاع أوروبا. وفي الواقع، إذا كان قطاع الصناعة في فرنسا قد تأسس حول المجال العسكري، أدت عواقب هذه الاستراتيجية في نهاية المطاف إلى تفكيك قطاع الصناعة المدنية برمته، وهذا ما لم يحدث بتاتا في ألمانيا، كما أثبتتُ ذلك منذ فترة طويلة3.
عندما تقرر ألمانيا تنفيذ خطة بقيمة 1000 مليار دولار، فإنها تفعل ذلك لامتلاكها فائضاً تجارياً هائلاً، لكن أيضاً فوائض في الميزانية. يجري اليوم، في فرنسا، الاستعداد لزيادة الإنفاق العسكريّ الذي بلغ، في العام 2025، ما يناهز 50 مليار يورو، ليصل إلى 70 مليار، بل وحتى 90 مليار، كما صرّح وزير الدفاع لُكورنو Lecornu. جلي إذاً وجوب استحصال على هذه الأموال من النفقات الاجتماعية، ما يعني عملياً زيادة استغلال الأجراء/ات. يطرح التراجع الاقتصادي في فرنسا، أكثر من أي مكان آخر، مسألة الزبدة أو المدافع، أي إما «اختيار المدافع أو اختيار الزبدة» وبالتالي صون الحقوق الاجتماعية. لذلك من المهم جدًا دراسة كيفية تنامي التفاوت بين ألمانيا وفرنسا في مسار السنوات القادمة، لأن البلدين إذا اعتمدا العسكرة، فإنهما يفعلان ذلك في سياقات اقتصادية وعالمية وفي إطار علاقات سياسية داخلية متباينة للغاية.

نتحدث في تيارنا، عقب الفوضى التي تلت إعادة انتخاب دونالد ترامب، عن اتفاق بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا. ما موقفكم من ذلك؟
لا أحد يستطيع التنبؤ بالمستقبل، لكن أعتقد أن البعض سارعوا نوعا ما إلى اعتبار الاتفاق بين ترامب وبوتين على تقسيم أوكرانيا «تحولا استراتيجيا». ينبغي ألا يؤدي تقارب ترامب وبوتين على الصعيد الأيديولوجي إلى تصور وجود نوع من الاتفاق بينهما. وهذا ما ينفيه قادة الولايات المتحدة الأمريكية أنفسهم. أعرب ماركو روبيو Marco Rubio، وزير الخارجية الأمريكي، عن هذا الموقف أثناء عقد مؤتمر حول دعم أوكرانيا في بروكسل قبل بضعة أشهر. لا يوجد أي تخل نهائي من قبل الولايات المتحدة الأمريكية عن الأوروبيين، ولا أي تفاهم استراتيجي دائم بين بوتين وترامب.يؤكد روبيو أن ما يريدونه هو اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بشؤون الصين وتولى أوروبا شؤون روسيا. يتمثل المبدأ التوجيهي في شعار أمريكا أولاً، أي الرغبة في القضاء على الصين.
إذا لم يرد الأوروبيون البقاء في صف الأمريكيين، فسيحاولون هؤلاء الأخيرون تدميرهم، لكن إذا تمكن الأوروبيون، لأسباب مختلفة، من العمل مع ترامب، فقد تتغير الصورة مرة أخرى. سيتعين أيضًا معاينة رد فعل روسيا على العدوان الذي تتعرض له الصين على الصعيد التجاري منذ 1 نيسان/أبريل 2025.باختصار، إن اتفاق بوتين-ترامب، الساعي بدايةً إلى سلب أوكرانيا، لا يضع مستقبل العلاقات بين الإمبرياليتين على طريق سلام دائم.
نعرف في فرنسا مشكلة نظام قوي، أي نظام الجمهورية الخامسة. وغالباً ما يشار في هذا الصدد إلى «دولة استبدادية» أو «نظام استبدادي». وعلى كل حال، هناك نوع من تجذر البرجوازيات يتيح، في ظل الأزمة الراهنة، مواصلة سياسات التقشف المالي ومفاقمتها. بدأنا نشهد أولى الحركات الاجتماعية مثل حركة ارفعوا أيديكم Hands Off في الولايات المتحدة الأمريكية أو التعبئات الطلابية في أوروبا، لكنها لا تزال غير كافية لحد الآن. هل ترون أشكالاً ممكنة للمقاومة؟
أعتقد ضرورة استخلاص حصيلة صعبة ومؤلمة من موقف التيارات الراديكالية بشأن مسألة النزعة العسكرية. لا أقصد هنا إبداء نقد سلبي، لكن التيارات الراديكالية قللت من شأن أن الرأسمالية ليست نظامًا اقتصاديًا وحسب قائماً، كما قيل بشكل خاطئ، على النيوليبرالية، بل أيضًا نظام هيمنة اجتماعية بحاجة إلى دولة وقوة مسلحة في الداخل والخارج على حد سواء.
إن تجاهل هذا البعد، لصالح تصور متمحور حول العولمة النيوليبرالية وانتصار السوق، حال دون إدراك ما يجري في الوقت نفسه من حروب تشن من أجل الموارد، وتؤدي بشكل رئيسي إلى تمزيق بلدان أفريقيا، بعد أن كانت مندمجة تماماً في سلاسل الإنتاج الخاصة بالشركات العالمية الكبرى. كما أفضى هذا التصور أيضًا إلى التغاضي عن المنافسات المستمرة بين البلدان الإمبريالية. وبالفعل، سرعان ما عادت العسكرة إلى الظهور بعد سقوط جدار برلين.
منذ متم سنوات 1990، بدأت جميع ميزانيات البلدان المتقدمة، وروسيا والصين، في الارتفاع. واليوم، ما زلنا ندفع ثمن ما نجحت الأيديولوجية السائدة في زرعه، حتى في أذهان المفكرين النقديين، من هذا الوهم القائم على أن السوق قد انتصرت في النهاية. حاولت في مقالاتي شرح أن انتصار الرأسمال المالي في أواخر سنوات 1990 كان مرتبطاً بشكل وثيق بمجموعات صناعة الأسلحة وقيم أسهمها التي أصبحت ذات مردودية فائقة. يجب معرفة أن مردود أسهم شركات الأسلحة للمساهمين في الولايات المتحدة الأمريكية كان، منذ عقود، أعلى من مردودية مؤشر ستاندارد آند بورز S&P، أي المؤشر الذي يضم أكبر 500 شركة مالية أمريكية. كانت فكرة أن «الأسواق» تسير جنباً إلى جنب مع الحرب رائجة في أقلية من الأوساط النقدية. حتى المفكرة البارزة إلين ميكسينز وود Ellen Meiksins Wood كتبت في عام 2003 أن «الإمبريالية الرأسمالية أصبحت تقريباً مسألة هيمنة اقتصادية صرف» 4.
كانت الحروب في هذه الأوساط تشكل نوعاً من نمو مؤقت أو، على أي حال، نمو جزئي، لسيرورة أوسع نطاقاً بكثير متمثلة في توسع الرأسمال. حاولت أن أشرح، سواء في كتابي La mondialisation armée (العولمة المسلحة) الصادر عام 2001 أو في كتابات أخرى، أن هتين المسألتين مترابطتان بشكل وثيق، وأن من الصعب فصلهما، خاصة وأن الرأسمال يواجه بشكل متزايد حدوده الخاصة، وهي اقتصادية وبيئية على حد سواء. باختصار، يظل الرأسمال بما هو علاقة اجتماعية مبنياً على الصعيد السياسي ومجزأً على المستوى الإقليمي. أدى ذلك إلى اعتقادي أن النزعة العسكرية أصبحت، كما نرى اليوم بوضوح مع ترامب، نمط وجود حتى للرأسمالية. يجب تحديد درجة ترسخ المنظومات العسكرية الصناعية، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، لكن أيضًا في بعض البلدان الأخرى مثل فرنسا، منذ سنوات 1950، على إيقاع أزمة التراكم وصعوباتها، وتزامنا مع المنافسات الجيوسياسية في سنوات 2000، لدرجة أن هذه المنظومات الصناعية العسكرية تمثل اليوم نوى توتاليتارية لمجتمعنا. يبدو أن وجود المنظومات العسكرية الصناعية على الحدود الفاصلة بين الاقتصاد والسياسة مسألة شاذة بنظر اعتقاد ماركسي مؤداه وجود فصل تام بين البنية التحتية والبنية الفوقية، ما أدى إلى تهميش السياسة بشكل كارثي. عند قراءة حنة آرنت Hannah Arendt أو غيرها مثل فرانز نويمان Franz Neumann، المختص الماركسي في القانون، مؤلف كتاب البهيموث Béhémoth5 الذي تحدث عن الرأسمالية الاحتكارية الشمولية، ترون أن إحدى خصائص الشمولية قائمة على وجه التحديد في إزالة الحدود الفاصلة بين الاقتصاد والسياسة. مع أنني لست متخصصاً في العلوم السياسية، هذا ما أدركته من مفهوم «الشمولية» الذي لا أحبه كثيراً هو، كما يقول إنزو ترافيرسو Enzo Traverso، تعريف سيئ وفي الوقت نفسه مفيد لأنه يتيح لنا فتح النقاش.
أعتقد اليوم، خاصة مع المكانة التي باتت للذكاء الاصطناعي في منظومات العتاد الحربي، ودوره في التحكم بالمواطنين/ات وتأثيره على الأجراء/ات، يمكننا الحديث عن إحياء المنظومات العسكرية-الصناعية وعن تشكل نواة شمولية تطمح إلى أن تكون أكثر من مجرد أداة مُزوِّدة بالأسلحة. مع الذكاء الاصطناعي، يتم محو الحدود الفاصلة بين قاعدات البيانات المدنية والعسكرية، وبين الأهداف العسكرية والمدنية، كما تؤكد ذلك الإبادة الجماعية في فلسطين. إن تدهور الرأسمال ووصوله إلى طريق مسدود، بسبب القيود التي تفرضها الطبيعة ونمطه في إعادة إنتاج الثروة، يجبرنا على النظر إلى المنظومات العسكرية الصناعية بنحو مغاير لكونها مجرد أدوات تراكم. إذ تشكل في الواقع مؤسسات تهدف إلى الانتشار في المجتمع بأشكال ذات طابع أمني ومدني على حد سواء، من شأنها أن تكون بنفس القدر من الخطورة.
بات الحديث يدور الآن حول «التكنوفاشية» techno-fascisme، التي برزت معالمها في تحالف ترامب ومسك Musk في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي في هذا التداخل العميق للغاية بين الرأسمالية الرقمية وشركات التكنولوجيا العملاقة والحكومات الرجعية. انتقل أرباب العمل في مجال الرأسمالية الرقمية من المعسكر الديمقراطي إلى المعسكر الجمهوري. تشهد هذه المجمعات العسكرية الصناعية تحولاً، وأعتقد أنه من الصعب باطراد انتقادها بوجه التحديد لأنها غارقة في خطاب حول التحولات التكنولوجية والابتكار، حيث ترتبط ممارسات الاتصال على نحو وثيق بمنطق مراقبة المواطنين واستغلال البيانات وعمل المُستعمِل. قام سيدريك دوران Cédric Durand أو أنطونيو كاسيلي Antonio Casilli بتوضيح هذه الظواهر بشكل جيد. ما هي في رأيكم الروابط القائمة مع الصناعة العسكرية؟
هذه فرضيتي: بعد الحرب العالمية الثانية، لم تكن الحرب هي التي أدت إلى إعادة اطلاق الاقتصاد الرأسمالي. قامت بالطبع بتدمير كتلة هائلة من قوى الإنتاج – والبروليتاريا جزءاً منها – لكنها نمط تراكم مكثف – على حد تعبير ماركس – وأتاحت مكاسب الإنتاجية للرأسمالية الخروج مؤقتاً من مأزقها. تستند مكاسب الإنتاجية بشكل أساسي إلى إحلال الرأسمال مكان العمل، وبالتالي إلى تنامي دور «نظام الآلات» كما يقول ماركس في كتاب «الرأسمال»، أو التكنولوجيا بالتعبير الراهن.
كان ارنست ماندل بدأ هذا التحليل لتوصيف المرحلة الأخيرة من الرأسمالية. يمكن تحيين فرضيته وإغناؤها، بشرط تحديد مدى تحول التكنولوجيا بعد الحرب العالمية الثانية، بشكل متداخل باطراد، إلى سلاح سلطة عسكرية وسلاح منافسة اقتصادية على حد سواء. بعد الحرب العالمية الثانية، كان سلاح المنافسة الاقتصادية مهيمناً بشكل أساسي. أنا لا أقلل طبعاً من شأن تأثير النزعة العسكرية الأمريكية في مجتمعها، لكن يمكن القول إن ما ساد في فترة ما بعد الحرب مباشرة هو الرغبة في زيادة فائض القيمة التي ينتجها العمال لإعادة تراكم الرأسمال إلى مساره الطبيعي. أصبح التداخل بين بعدَي التكنولوجيا – كسلاح للدمار وأداة «للتنافسية» – أكثر حدة منذ العام 2000. ويمثل مفهوم الأمن القومي، الذي طرحته جميع القوى العظمى، مثالاً على ذلك. إذ يجمع بين هذين البعدين للتكنولوجيا ويقلص الفجوة بين حرب تجارية وحرب عسكرية.
يدور نقاش واسع بين الاقتصاديين والماركسيين حول كيفية توصيف الذكاء الاصطناعي بما هو ثورة صناعية رابعة تلي ثورة المحرك البخاري والكهرباء والنفط في نهاية القرن التاسع عشر، ثم ثورة الحوسبة والإلكترونيات. تؤدي هذه النظرية المتطورة للغاية إلى بعث الأمل في صفوف دعاة الرأسمالية، أو تثير مخاوف منتقدي هذه الأخيرة من دخول طور توسع طويل الأمد جديد. أعتقد، بصفتي مختصا في الاقتصاد الصناعي والابتكار، أن فكرة إمكان أن يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى تمديد الدورات الثلاث السابقة وافتتاح دورة رابعة، يطلق عليها المؤرخون اسم «دورة ذات طابع توسعي»، إنما هي ضرب من الأوهام. وفي الواقع، لا تأخذ هذه التحليلات في الاعتبار الفروق النوعية في البيئة السياسية والاقتصادية التي يتطور في إطارها الذكاء الاصطناعي مقارنة بالابتكارات السابقة.
تطور الذكاء الاصطناعي في سياق متسم بمنافسات حادة بين القوى الإمبريالية. يُبرز فحص المنشورات العلمية في مجال الذكاء الاصطناعي الصادرة في جميع أنحاء العالم صعود بلدان عديدة. تحتل فرنسا في عام 2024 المرتبة الحادية عشرة وحسب، وتليها بفارق بسيط إيران والمملكة العربية السعودية وتركيا.لم تحدث الثورات التكنولوجية الأخرى بهذه الطريقة. بل وقعت ظاهرة انتشار أبطأ بكثير. وبالتالي، فإن فكرة التطور المتفاوت والمركب تستعيد هنا كامل صحتها، لأن الذكاء الاصطناعي شُيد منذ البداية في بيئة تنافس اقتصادي وتسابق عسكري.
تصنع منها هذه السمة تهديدًا يجعلها فريدة من نوعها مقارنة بالتكنولوجيات السابقة. وفي الواقع، يعمل الذكاء الاصطناعي، بسبب تعدد معانيه وقدرته على اختراق جميع المجالات، على تهديدنا من ثلاث نواحٍ: كأجراء/ات، كما أثبت ذلك بالفعل أنطونيو كاسيلي وآخرون، وكمواطنين/ات، ضحايا/ات الرقابة القمعية وتسجيل المعلومات عن الأشخاص في بطاقات fichage ، وكمدنيين/ات، لأنه يتيح مضاعفة أهداف الهجوم العسكري عشر مرات. أشاد جيش إسرائيل نفسه بنتائج الذكاء الاصطناعي الذي أتاح أثناء بضعة أسابيع، حسب قوله، إنجاز ما كان سيستغرق سنوات: تسجيل معلومات عن 30 ألف «ناشط في حركة حماس»، أي ما يعادل أكثر من مليون شخص في فرنسا.
يجب إدراك أن التكنولوجيا غير محايدة بأي وجه، وأن هذا البعد الشامل، الذي يضم الأجور والحقوق المدنية وشؤون المواطنة، مدمج في النظام الصناعي العسكري. قد يعمل هذا الأخير، عبر إدماج شركات التكنولوجيا الكبرى، لا على تدمير أهداف بشكل فعال للغاية وحسب، حتى لو تسبب ذلك في وقوع ضحايا جانبيين، لكن أيضاً على توسيع نطاق التحكم الاجتماعي بالمجتمع.
في العام 1858، كتب ماركس إلى إنجلز أن الرأسمالية قيد استكمال غزوها الثاني للعالم بعد غزو ها له في القرن السادس عشر، وذلك بفضل استعمار كاليفورنيا وأستراليا وفتح أسواق الصين واليابان، مضيفاً «وبما أن الأرض مستديرة، يبدو أن هذه السيرورة استكملت مسيرتها». تضيف روزا لوكسمبورغ أن السوق الداخلية والسوق الخارجية ليسا مفهومين لعلم الجغرافيا بل لعلم الاقتصاد الاجتماعي. يمكن اليوم، معاينة بُعد نظر ماركس في عباراته الثاقبة حول حاجة الرأسمال الملحة «إلى كسب المال من صون الحياة وتطويرها»6. بات الرأسمال، بعد استيلائه على الأراضي المادية بحصر المعنى، يهاجم الأراضي غير القابلة للمساس. حدث ذلك في سنوات 1990، مع التحكم بسيرورات إعادة إنتاج الكائنات الحية في مجال البذور، والتسلسل الجيني، ... وخصخصتها. يسيطر الرأسمال اليوم على ما تسميه التيارات النسوية النقدية إعادة الإنتاج الاجتماعية، أي شروط وجودنا ذاتها، بفضل البيانات التي تستطيع الشركات الكبرى في مجال التكنولوجيا (GAFAM) جمعها وراء ظهورنا أو عبر أجهزة حواسيبنا. أسمي ذلك ظاهرة تقهقر لأن الرأسمالية لم تعد في مرحلة تطور توسعي نحو الخارج، بل وكأنها تتراجع نوعاً ما لتركز على ضحيتها الرئيسية، أي الفرد. في نهاية المطاف، لا يقتصر دمج الذكاء الاصطناعي في الأنظمة العسكرية الصناعية على مجرد إدخال أداة تكنولوجية إضافية لجعل الأسلحة أدق، بل يكتسي أيضاً بعداً أوسع بكثير يؤثر على حقوق الشغيلة وشؤون المواطنة وأشكال الرقابة العسكرية والاجتماعية.
أجرى المقابلة هيلين مارا Hélène Marra ونيكولاس مينا Nicolas Menna في 2 نيسان/أبريل 2025.

- 1
Claude Serfati, « La militarisation de l’Union européenne accélère », Les possibles, 13 mai 2024. https://france.attac.org/nos-publications/les-possibles/numero-39-printemps-2024/dossier-de-quelques-questions-europeennes/article/la-militarisation-de-l-union-europeenne-accelere
- 2
تعادل القوة الشرائية (PPP) هو معدل تحويل نقدي يدل عن العلاقة بين كمية الوحدات النقدية اللازمة في بلدان مختلفة لشراء نفس «سلة» السلع والخدمات.
- 3
للاطلاع على دراسة حديثة، انظر الفصل «إنتاج الأسلحة والكارثة الصناعية» « Production d’armes et catastrophe industrielle » في كتاب L'Etat radicalisé. La France à l'ère de la mondialisation armée (الدولة الراديكالية. فرنسا في عصر العولمة العسكرية)، La fabrique، 2022.
- 4
« Capitalist imperialism has become almost entirely a matter of economic domination », Wood Ellen Meiksins, Empire of Capital, Verso, Londres, 2003, p.153.
- 5
فرانز ليوبولد نويمان، البهيموث. بنية الاشتراكية القومية (النازية) وممارستها،(ترجمة حسني زينة)،المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017.
Neumann Franz, Behemoth. The Structure and Practice of National-Socialism 1933-1944, Oxford University Press, New York 1942.
- 6
كارل ماركس، الرأسمال، الكتاب الثالث، «سيرورة الإنتاج الرأسمالي ككل»، «§ 6: تحويل جزء من الربح إلى ريع عقاري».
K. Marx, Le Capital, Livre III, « Le procès d'ensemble de la production capitaliste », « § 6 : La transformation d'une partie du profit en rente foncière ».