
يفحص سيمون حنة مختلف مواقف اليسار عقب غزو روسيا لأوكرانيا، وكذا كيف ينبغي فهم موقف لينين من ”الانهزامية الثورية“ في حالة الحرب الجارية.
"نظرة الجماهير للأمور عملية وليست نظرية “. ف.إ. لينين1
أبرز النقاش داخل اليسار بصدد الحرب في أوكرانيا خلافاتٍ جديةً حول المسائل الدولية، وكان بعضها يختمر ويتعمق منذ أكثر من عقد. كانت ثمة، بين العامين 2001 و2011، إجماع عالمي في اليسار الاشتراكي حول مسألة الإمبريالية وكيفية التصدي لها. كانت تلك حقبة تعدياتٍ صريحةٍ وجلية على سيادة دول مثل أفغانستان والعراق من قِبل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وقوى إمبريالية أخرى. أثار هذا العدوان الإمبريالي غير المقنع حركات جماهيرية عالمية ضد ما يسمى ”الحرب على الإرهاب“.
كان غزو أفغانستان أو العراق، بنظر الاشتراكيين، بسيطًا مثل الغزو الأمريكي لفيتنام: معارضة الحرب ومساندة حق هذه الشعوب في مقاومة الاستعمار. لا نختار الدفاع عن بلد ما أو عدمه بسبب طبيعة حكومته أو قيادة حركة المقاومة الوطنية فيه، مثلما لا نرفض التطلعات الوطنية للفلسطينيين بمبرر سياسات حركة حماس الرجعية. هذه مسألة أساسية، ليس اشتراكية حتى، بل مجرد مسألة ديمقراطية برجوازية مؤداها أن لكل أمة الحق في تقرير مصيرها، ولا يمكن لأي أمة أخرى فرض تغيير للنظام باستخدام الصواريخ والدبابات. إنها مبادئ واضحة وبديهية، لدرجة أن السواد الأعظم من اليسار الاشتراكي أجمع عليها في تلك الحقبة.
شكل اصطفافية جديد
بيد أننا شهدنا بداية خلاف وتصدع في المنظور العام بشأن ليبيا في العام 2011. كانت ثمة، إبان الربيع العربي، انتفاضةٌ مسلحة من قٍبل مجموعات عرقية مختلفة ضد معمر القذافي. كانت انتفاضة غير منظمة وفوضوية في البداية. وكانت أول حرب في القرن الحادي والعشرين بات فيها التقسيم والتقسيم الفرعي الإمبرياليين أشد تعقيدًا. كان السبب في البداية هو دور الحركة الديمقراطية ضد ديكتاتوريات ”مناهضة للإمبريالية“. ثم، بدأ بعض اليسار يقلل تدريجيا دورَ القوى الإمبريالية الأخرى غير الواقعة في أوروبا الغربية أو أمريكا الشمالية، روسيا والصين بوجه الدقة.
بعد أن استشعر حلفُ شمال الأطلسي فرصةَ إطاحة نظام كان أحيانا شوكة في خاصرة الغرب، تدخل مساندا الانتفاضة، وداعما إياها جويًّا لمنع إبادتها على يد قوات القذافي. لم يكن ذلك احتفاءً من الإمبريالية الغربية بانتفاضة شعبية، بل حسابا نفعيا يرى في إسقاط القذافي أمرا مطابقا لمصلحة الإمبرياليين الغربيين. وبالطبع كان أيضًا في مصلحة الليبيين/ت
رؤية مشوهة
ثم كانت حالة سوريا، حيث قمع نظام بشار الأسد بضراوة الحركة الأولى من أجل الحقوق الديمقراطية، ما أغرق البلد في حرب أهلية دامت عقدًا. كان الإمبرياليون الغربيون أقل إحجاما عن التدخل في هذه القضية، بينما ساعدت الإمبريالية الروسية حليفها الأسد بسعادة، بمده بمعدات ومرتزقة ومستشارين عسكريين ودعم مالي للحكومة. كما تدخلت إيران وحزب الله لسحق الانتفاضة الشعبية. وتدخلت الولايات المتحدة في شمال سوريا لمساعدة وحدات حماية الشعب الكردية باستهداف تنظيم داعش، على الرغم من أنها كفت عن الإسهام في تدمير جيش الحكومة السورية. وقد سبب هذا الصراع انقساما كبيرا في اليسار العالمي، حيث جرى انحياز إما إلى الانتفاضة الكردية أو إلى نظام الأسد على أساس أنه ”معادٍ للإمبريالية“، بينما هو في الواقع تابع للإمبريالية الروسية. وكان موقف البعض في اليسار ملتبسا فيما يخص الانتفاضة العربية ضد الأسد، لكنه كان متعاطفا إلى حد بعيد مع الأكراد المعتبرين حركة تحرر وطني حقيقية ذات توجه سياسي يساري. وفي النهاية، سُحقت الثورة الشعبية، وهلل البعض في اليسار لسقوط حلب، وهم من طينة اليساريين الذين دعموا غزو الدبابات الروسية للمجر في العام 1956 لإخماد الانتفاضة العمالية.
حالة أوكرانيا
الحرب في أوكرانيا هي ما أثار الآن جدلًا محتدمًا حول التكتيك والإستراتيجية، وخلافًا تامًا حول دور الإمبريالية في هذا الصراع. يتعلق الخلاف الجوهري بالمستوى الذي يحق فيه لأوكرانيا الدفاع عن نفسها ضد غزو من قوة إمبريالية. يشجع البعض في ”اليسار“ روسيا، معتقدا أن روسيا تشن الحرب لنزع النازية عن أوكرانيا. لن أتناول هذه الحجة بسبب سخافتها البالغة. بيد أن آخرين يستنتجون أنه دوران أوكرانيا في فلك الغرب - على سبيل المثال، طلبت الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي - يجعل فولوديمير زيلينسكي وحكومته عملاء بالوكالة لواشنطن ولندن وباريس وبرلين. ولذلك يعتبرون الصراع مثالاً لحرب بين إمبرياليات، بين روسيا والغرب الذي يحارب عبر تابعه في كييف.
إن الاشتراكيين الذين ينكرون حق أوكرانيا في الدفاع عن نفسها ضد غزو من قوة إمبريالية، بسبب التوجه السياسي للحكومة الأوكرانية، قد فقدوا كل فهم للمسألة القومية، ولكيفية رد الشعب الأوكراني فعليًا على الغزو الروسي. إنهم في الواقع يعارضون حق تقرير المصير لأنهم لا يحبون الحكومة الأوكرانية، وهو أمر غير ذي صلة بمناقشة المبادئ. فوِفْق هكذا منطق، لا يجوز لأحد أن يدعم نمور التاميل أو مقاتلي حركة حماس، أو حتى الجمهوريين الأيرلنديين، وكلها حركات كانت (ولا تزال) ذات مواقف رجعية في العديد من المسائل، ومؤيدة للرأسمالية. كما أنهم يتذرعون بأن أوكرانيا تريد الانضمام إلى حلف الناتو للإيحاء بأنها هي ذاتها قوة إمبريالية.
ونظرا لاعتبار أوكرانيا تعمل بالوكالة عن الغرب، وتحصل على صواريخ مضادة للدبابات والطائرات، يضع البعض علامة تساوي بين روسيا وأوكرانيا، مستنتجا أن كلا الطرفين يجب أن يخسر. كيف يمكن لكلا الطرفين أن يخسر؟ سيكون الأمر في الواقع مأزقًا طويل الأمد سيستمر لسنوات، مع سقوط عدد لا يحصى من القتلى.
أساطير وحقائق
يحاول آخرون توخي دقة أكثر، قائلين إن على الشعب الأوكراني أن يقاوم، ولكن عليه أولاً إطاحة حكومته لأنها تدعم الإمبريالية الأمريكية. بهذا النحو، يزعمون بأن الطبقة العاملة الأوكرانية بحاجة، في مواجهة الغزو الحالي، حيث الدبابات والمدرعات الروسية تقتحم مدنها الرئيسية، إلى تشكيل حركة جماهيرية واعية طبقيًا. ويفترضون أن هكذا حركة ستكون ثورية بطبيعتها، ومدركة تمام الإدراك الدور الرجعي لحلف الناتو والإمبريالية الغربية، وستنجح في إطاحة الحكومة قبل إعلان حكومة جديدة على غرار كومونة باريس. عندها فقط سيكون من المشروع إطلاق ”دفاع اشتراكي“ عن البلد. ماذا ينفع الشعبَ الأوكراني أن يكون اشتراكيون في الغرب يتمنون له وضعا سياسيا مغايرا تماماً وملائماً أكثر ؟
في رد على غزو جيش يقوده من أشرفوا على ذبح الثورة السورية وتدمير غروزني، من المفهوم أن يدافع الشعب الأوكراني - حتى أولئك الذي يكرهون زيلينسكي ويعارضونه وسياساته - عن بلده ومجتمعاته ضد الاحتلال الروسي. وكما قال ف. إ. لينين: ”عندما يقول عامل إنه يريد الدفاع عن بلده، تكون غريزة الإنسان المضطهد هي التي تنطق فيه“2.
العسكرة
بيد أنه جليٌّ وجوبُ إطاحة حكومة زيلينسكي، تمامًا مثل حكومة بوتين، أو حكومة جو بايدن، أو حكومة بوريس جونسون أو حكومة فيكتور أوربان، أو أي حكومة برجوازية أخرى. وتتيح الحرب في أوكرانيا فرصة انفجار ثوري ضد النظام القائم3. غير أن الانتقال من ”الروس غزاة، ويجب أن ندافع عن بيوتنا“ إلى ”كل السلطة للسوفييت الأوكراني“ يتطلب عملَ جبهة موحدة جاداً إلى جانب الكتلة العظمى من الشعب الأوكراني المعبأة من قبل الحكومة في وحدات دفاع شعبي. وهذا يعني نكون أن قُدام الجماهير بخطوة واحدة، وليس بخمسة عشر كيلومترًا.
إن إنشاء وحدات دفاع شعبي يعني أن هناك الآن ميليشيا في أوكرانيا، ميليشيا مسلحة ذات تدريب عسكري بدائي جدا. والاشتراكيون الذين يدافعون عن فكرة مقاطعة هذه الوحدات هم عمليًا دعاة سلم، حتى لو استشهدوا بلينين لتبرير موقفهم. والواقع أن لينين يدافع عن كون ”عسكرة المجتمع“ أثناء الحرب أحدَ جوانبها (أي الحرب) الإيجابية النادرة:"اليوم تُعسكِرُ البرجوازية الإمبريالية الشبابَ كما الكبار، وغداً قد تبدأ بعسكرة النساء. يجب أن يكون موقفنا: هذا أمر جيد! أسرعوا! لأننا كلما أسرعنا، اقتربنا من انتفاضة مسلحة ضد الرأسمالية. كيف يمكن لاشتراكيين ديمقراطيين أن ينساقوا للخوف في مواجهة عسكرة الشباب، إلخ، إذا تذكروا مثال كومونة باريس"4.
يتحدث لينين هنا عن تسليح أمة إمبريالية وليس شبه مستعمرة أو مستعمرة.
عن الأسلحة وأصلها
دافع بعض الاشتراكيين عن حق الأوكرانيين في مقاومة الاحتلال، لكنهم دافعوا أيضاً على أن الأمم الإمبريالية الغربية يجب ألا تكون مصدر المعدات والأسلحة للقتال. ويتمثل موقفهم في أن التزود بالأسلحة المضادة للدبابات من لندن يغير بشكل أساسي الطابع الطبقي للمقاومة الوطنية، وبالتالي يستحيل تزويد الأوكرانيين بالأسلحة. ويرى آخرون أنه يجب توريد الأسلحة إلى المنظمات العمالية الأوكرانية وحدها، ولكن ما لم يتم تحديد ماهية هذه المنظمات وتحويل هذه الفكرة إلى واقع ملموس، فإنها مجرد ذريعة لعدم تزويد البلد بقدر أكبر من الأسلحة. في مواجهة الجيش الروسي، تمثل الدعوة إلى نزع سلاح أوكرانيا، في الجوهر، دعوة لتسهيل انتصار روسيا.
يجب أن نكرر أن هوية من يزودون حركة تحرر وطني، أو بلدًا يقاوم غزوًا إمبرياليًا، بالسلاح أمر ثانوي بالنسبة لمشروعية النضال ذاته. فقد كان هناك ما يبرر حصول الكوسوفيين على السلاح من الغرب في التسعينيات. وكان ثمة ما يبرر حصول المقاومة السورية والأكراد على الأسلحة إبان الثورة السورية. هل مُنحت تلك الأسلحة بإكراهات؟ أحيانًا نعم، ولكن لا يمكن تجاهل استقلالية شعب يخوض نضالًا مشروعًا من أجل الحرية بسبب تلاعبات إمبريالية.
الإمبرياليات والبلدان المخضعة للسيطرة
يبدو أن البعض في اليسار يعتبر من المسلّمات في نظام العالم الحديث، الإمبريالية، أن كل شبه مستعمرة من بين أفقر البلدان تقع في فلك بلد إمبريالي آخر، وبالتالي فلا طائل من المسألة القومية. ليست هذه فكرة جديدة. فقد قالت روزا لوكسمبورغ،في كراسة يونيوس5، إن العالم قد بات مقسما بفعل الإمبريالية، وبالتالي فكل الصراعات هي، بدرجة أو بأخرى، صراعات بين امبرياليات. ومن ثمة أحيلت المسألة القومية إلى الماضي، ووحدها الاشتراكية مطروحة الآن على جدول الأعمال. وتكمن المشكلة في تجاهل هذه المقاربة التام لكل المسائل القومية الحقيقية الممكنة، على سبيل المثال عندما يتم غزو بلدك من قبل دولة أقوى بكثير على حدودك مباشرةً، وقد نشر قادتها مقالات تدعي أن بلدك خطأ و ينبغي ألا يكون موجودًا6.
كتب لينين في العام 1916، ردًا جزئيًا على هكذا مواقف:
" إن كون النضال في سبيل الحرية القومية ضد دولة امبريالية يمكن أن تستغله في ظروف معينة، دولة «كبرى» أخرى لأغراضها الامبريالية أيضاً ، أمر لا يمكن أن يُجبر الاشتراكية الديمقراطية على التخلي عن حق الأمم في تقرير مصيرها، مثلما لا يمكن للأمثلة العديدة حول استغلال البرجوازية للشعارات الجمهورية من أجل الخداع السياسي والنهب المالي، في البلدان اللاتينية مثلاً ، أن تجبر الاشتراكيين الديمقراطيين على التنكر لنزعتهم الجمهورية"7.
هذه المسائل حاسمة، لأننا ندخل عالمًا متعدد الأقطاب لم يعد فيه التحليل القائم على الحرب الباردة صالحًا. فمع نشر روسيا والصين لقوتهما الإمبريالية، سيكون ثمة باطراد المزيد من الصراعات التي تسعى فيها دولة أو مجموعة عرقية فقيرة جدًا للحصول على العون من الغرب. إذا استعمل الاشتراكيون رؤية تبسيطية للعلاقات الدولية لتوجيه تفكيرهم، فسوف يؤخذون على حين غرة. لا يمكننا ببساطة وضع علامة ناقص حيث تضع البرجوازية الغربية علامة زائد. نحن بحاجة إلى استخدام النظرية للتوضيح والشرح، وليس نصب حواجز في وجه الواقع.
شهد الصراع في أوكرانيا أيضًا دعوة بعض الاشتراكيين إلى هزيمة طرفيْ الصراع، داعمين موقفهم بموقف لينين بين العامين 1914 و1916. سوف نبحث فيما تبقى من هذا المقال ما تعنيه هذه السياسة - وما لا تعنيه - عمليا وفائدتها في تطوير سياسة اشتراكية متماسكة بشأن أوكرانيا اليوم.
ماذا تعني ”الانهزامية الثورية“؟
تبدو وجهة نظر لينين إلى الحروب بين الإمبرياليات بسيطة:
" باتت برجوازية كل القوى الإمبريالية العظمى إنكلترا وفرنسا وألمانيا والنمسا وروسيا وإيطاليا واليابان والولايات المتحدة رجعية للغاية، إنها مدفوعة بالرغبة في السيطرة على العالم بحيث أن أي حرب من جانب برجوازية هذه البلدان لا يمكن أن تكون إلا رجعية. ليس على البروليتاريا أن تعارض أي حرب من هذا النوع فحسب، بل يجب أن تتمنى أيضاً هزيمة ”حكومتها“ في هذه الحروب وأن تستغلها لإطلاق انتفاضة ثورية إذا لم تنجح الانتفاضة لمنع الحرب“. 8.
إن كل عامل/ة واعٍ/ة طبقي سيشك في تصرفات حكومته وطبقته الرأسمالية في أي حرب، سواء كانت تلك الأمة أمة إمبريالية أم لا. ففي حرب إمبريالية، سيحتقر كل عامل/ة واعٍ/ة طبقيًا السياسيين المحرضين على الحرب ودعوات أرباب العمل إلى ”الوحدة في المجهود الحربي“، وإلى العمل أكثر، وزيادة الإنتاج، والتطوع في عطل نهاية الأسبوع، ومنع الإضرابات والاجتماعات العامة، إلخ. لا تتمنون انتصار حكومتكم لأنكم تعلمون أن ذلك سيؤدي إلى القومية الجامحة والوطنية والشوفينية التي هي أعداء الاشتراكية. وسيربط ذلك الجماهير بالبرجوازية عبر تمجيد نجاحات الأمة، وكلها أمور تقوض الوعي الطبقي وتضعفه.
تنطوي فكرة أن حربا إمبريالية فاشلة تساعد على تطوير الاحتجاج الراديكالي ضد الحكومة على شيء من الحقيقة. فالثورة الروسية في العام 1917 كانت إلى حد كبير ممكنة بسبب مسار الحرب الكارثي بالنسبة لروسيا، والتي أثارت بؤسًا لا يوصف في البلد، والفلاحون، الذي ضاقوا ذرعًا بعد أن أرسلوا للقتال والموت على الجبهة، يريدون السلام. ولو سارت الحرب على خير ما يرام، وتوغلت روسيا في بلدان أخرى، واستولت على أراضٍ جديدة، وكل ذلك تحت قيادة القيصر الفذة، لخلق شعوراً وطنيا أكبر لدى الشعب. و لمَا كان، بكل تأكيد، لثورتي فبراير وأكتوبر أن تحدثا.
وبالمثل، عندما سارت حرب فيتنام بشكل سيء، بالنسبة للولايات المتحدة، تفاقم الشعور بأزمة وطنية متزايدة، وتعمقت التناقضات الاجتماعية الأخرى، وارتبطت بموضوعات أخرى مُجَذِّرةً إياها، خاصة النضال ضد العنصرية. إن الشعور بأن الحكومة في أزمة، وأن قوتها الإمبريالية تضعف، يعطي إحساسًا بالقوة للطبقة العاملة والمضطهدين من أجل التنظيم والتصدي على جبهات أخرى - برغم أنه يجعل الطبقة الحاكمة أشد شراسة وعنفًا في الداخل من أجل الحفاظ على النظام.
إن المشكلة التي تنشأ، إذا ما اعتبرنا كل شعار من الشعارات التي صيغت في مختلف لحظات الحرب كدعوة عملية وفورية للعمل، هي أنها تُصادِم مستويات مختلفة من التحليل والفعل النضالي. كان موقف لينين من الانهزامية إلى حد كبير ردَّ فعل دعاويا على ما مثله الموقف الدفاعي من خيانة للاشتراكية، خاصة عندما بدأ الاشتراكيون -الديمقراطيون في جميع أنحاء أوروبا فجأة في دعم أهداف حكومتهم في الحرب بحجة أنها صراعات ”دفاعية“. كان لا بد من الاعتراض على شعار ”الدفاع عن الوطن الأم“ إذ كان جليا أنه كذبة للدفع بحرب توسعية وعدوانية. كان قسم كبير من الدعاية الإمبريالية للحرب العالمية الأولى قائما على فكرة أن الحرب بدأها طرف آخر، وأن كل دولة من الدول المتحاربة تدافع عن نفسها ضد تصرفات جيرانها المتحاربين. كان استسلام الاشتراكيين لأهداف الطبقة الحاكمة من الحرب الإمبريالية هو ما يحاربه لينين بسياسته الانهزامية.
أشكال الشعار الملموسة
هناك تفسير مرن وآخر صارم للاستنتاجات العملية المستخلصة من الانهزامية الثورية. ففي الحرب الامبريالية، يتمثل التفسير المرن في عدم تشجيع أهداف الحرب الخاصة بالحكومة، والدفاع عن شعارات مبدئية مثل ”لا قرش واحدا، ولا رجل واحدا لآلة الحرب“. وفي التحريض، تُستعمل كل هزيمة عسكرية للتأكيد على أن الحرب غير مجدية، وأنها تتسبب إراقة دماء لا داعي لها، وأنه يجب إطاحة الحكومة لأنها أغرقتنا في هذه الفوضى لصالح كبار الصناعيين. ويُواصَل الصراع الطبقي - بل ويُؤجَج إذا أمكن - بغض النظر عن الدعوات إلى الوحدة الوطنية التي يطلقها القادة النقابيون والسياسيون البرجوازيون.
وثمة تفسير أشد صرامة، لجأ إليه لينين في بعض الأحيان، وأصبح لدى بعض الاشتراكيين نوعاً من الأرثوذكسية، ويرجع ذلك أساساً إلى ما شهد الحزب الشيوعي الروسي من صراع تكتلات في عشرينيات القرن الماضي. حسب هذا التصور، لا تكون هزيمة الحكومة أمنيةً فقط، بل يجري العمل بنشاط من أجل هزيمة المجهود الحربي عسكريًا بممارسة التخريب و ”إعدام الضباط“ الخ. وهكذا دافع لينين عن فكرة أن هزيمة روسيا على يد الجيش الألماني كانت ”أهون شرًا“ من انتصار القيصرية، التي اعتبرها لينين أكثر الحكومات همجية ورجعية في أوروبا.
المشكلة في هذا الرأي، كما أشار الاشتراكي هال درابر9، أنه لا يطابق حقاً مع ما كان البلاشفة يقولونه في روسيا، ولا النتائج العملية لشعار الانهزامية. أولاً، لم تكن هناك وحدة حقيقية بين البلاشفة حول مسألة الانهزامية التي اختلف معناها من فترة إلى أخرى في كتابات لينين. استخدم كثير منهم الصيغة المرنة التي لم يكن هناك خلاف كبير بينها وبين موقف الاشتراكيين الآخرين المعارضين للحرب. لكن الانهزامية في صيغتها الأكثر صرامة ليست سياسة إجرائية للعمل التحريضي بين جموع الجنود، بل هي رد فعل سجالي على إفلاس الكثير من الاشتراكيين المؤيدين سياسة ”الدفاع عن الوطن“. تخيل أن توزع منشورات على المجندين البالغين التاسعة عشر من العمر 19 لتشرح لهم أن سياستك، فيما يخصهم، هي أن يعودوا إلى المنزل في صناديق جثث...
لندرس بالأحرى المواقف العملية التي دافع عنها البلاشفة في المؤتمرات الدولية المناهضة للحرب، وأهمها مؤتمر زيمرفالد: لم يأت على ذكر ”الانهزامية الثورية“، وكان التركيز على مواصلة الحرب الطبقية في البلد، وتسييس كل النضالات الصناعية نحو نضالات أكثر عمومية ضد الرأسمالية والإمبريالية.
"إن مقدمة هذه المعركة [من أجل الاشتراكية] هي المعركة ضد الحرب العالمية، ومن أجل إنهاء سريع لمجزرة الشعوب. وتتطلب هذه المعركة رفض اعتمادات الحرب، والانسحاب من الحكومات، والتنديد بطابع الحرب الرأسمالي والمعادي للاشتراكية، في الساحة البرلمانية، وفي أعمدة المنشورات الشرعية، و غير الشرعية عند اللزوم، بتواز مع نضال صريح ضد الاشتراكية-الوطنية. يجب أن نستخدم كل حركة شعبية تنشأ عن عواقب الحرب (الإفقار، الخسائر الفادحة، الخ) لتنظيم مظاهرات في الشوارع ضد الحكومات، وتطوير الدعاية لصالح التآخي في الخنادق، وطرح مطالب الإضرابات الاقتصادية، ومضاعفة الجهود لتحويل هذه الإضرابات، عند الإمكان، إلى نضالات سياسية. الشعار هو: الحرب الأهلية وليس السلم الأهلي!"10
نظرية وممارسة
إذا كان موقف لينين من الانهزامية الثورية يمد بقدر من الوضوح، فما دلالتها في الميدان؟ لقد حذر لينين قائلاً: ”إنها لا تعني ’نسف الجسور‘، وتنظيم الإضرابات الفاشلة في الصناعات الحربية ومساعدة الحكومة بشكل عام على هزيمة الثوريين"11 . ماذا عن التحريض في الجيش؟ هذه وجهة نظر شائعة بين بعض الاشتراكيين: كان التحريض البلشفي في الجيش يركز على أعمال جذرية، بما في ذلك دعوات الجنود لإطلاق النار على ضباطهم أو أن تثور أفواج كاملة وتحارب القوات الموالية للحكومة وليس القوى الأجنبية.
ويُفهم شعار ”تحويل الحرب الإمبريالية إلى حرب أهلية“ على أنه مطلب فوري صوب الجنود والعمال كي يفتحوا جبهة ثانية في بلدهم، ويناضلوا لإطاحة الحكومة بينما بلدهم عرضة للغزو. ومع ذلك، نادرًا ما ينظر الاشتراكيون اليوم إلى هذه المقاربة بنحو ملموس وتكتيكي. فهم يعلنون هذا الشعار كمبدأ، كما لو كان المطلب المباشر للجنود منذ اليوم الأول هو توجيه سلاحهم ضد حكومتهم. لكن تحويل هذا الشعار الثوري العام إلى مطلب تكتيكي عند اندلاع الحرب هو موقف يساري متطرف. إن محاولة إطلاق حرب أهلية، بينما يتركز وعي الطبقة العاملة بشكل كبير على الرغبة في الدفاع عن حقوقها الوطنية، يؤدي إلى عزل اليسار وموته.
بالعكس، تركزت سياسة البلاشفة العملية في الجيش على التحريض العام ضد طابع الحرب الطبقي، وتوعية العمال والجنود بمعنى الإمبريالية والتنديد بأهداف الحكومة الحربية. ومنذ متم العام 1916 وحتى صيف العام 1917، ركز البلاشفة مطالبهم بشكل متزايد على حقوق الجنود.
من مناهضة النزعة العسكرية إلى الثورة
كانت نقطة الترجح الرئيسية بالنسبة للبلاشفة في روسيا بعد فبراير 1917 ، عندما أطاحت ثورة شعبية القيصر وأُستُعيض عنه بنظام ديمقراطي بقيادة ألكسندر كيرينسكي، الذي أعلن نية مواصلة الحرب. عاد البعض في اليسار إلى الصف بعد فبراير، بحجة أن المهمة باتت هي الدفاع عن روسيا أكثر ديمقراطية ضد القيصر الألماني، بعد أن تغيرت طبيعة الحكومة. بيد أن لينين ورفاقه شددوا معارضتهم، وعندما استمر فشل الحرب تحت قيادة كيرينسكي، كان هذا التوجه المبدئي هو الذي أتاح في النهاية انتزاع السلطة من الرأسماليين في أكتوبر 1917.
ماذا كانت المادة التي يوزعها البلاشفة عشية انعقاد مؤتمر السوفييت لعموم روسيا في أبريل 1917؟
"كل السلطة لسوفييتات مندوبي العمال والجنود! هذا لا يعني أنه يجب علينا إسقاط الحكومة فورا أو عصيانها. طالما بقيت أغلبية الشعب تؤيدها... لا يمكننا أن نسمح لأنفسنا بهدر قوانا في انتفاضات مفككة. أبدًا! فلنحافظ على قوانا! ولنشارك في الاجتماعات! ولنعرض ملتمسات على التصويت"12.
جلي أن الإستراتيجية الثورية لم تكن تتمثل في تمرد فوري، ولا في رفض للقتال مفضٍ إلى نضال ثوري ضد الحكومة البرجوازية، بل في عمل صبور لكسب المساندة للأفكار الثورية والمناهضة للحرب.
في النهاية، وصلت الطبقة العاملة بقيادة القوى الثورية إلى السلطة في أكتوبر، بفضل سياسة لم تكن ”أطلقوا النار على ضباطكم! “ أو التحريض النشط من أجل هزيمة الجيش، بل سياسة تطالب بـ ”الخبز والسلام والأرض“. لم يكن ممكنا تلبية هكذا مطالب إلا بانتزاع السلطة من الرأسماليين والسياسيين الليبراليين الروس من أجل تأمين السلم لبلد أنهكته الحرب ودمرته. وبقصد إخراج روسيا من الحرب، أبرم البلاشفة فورا السلم مع ألمانيا، موقعين معاهدة بريست-ليتوفسك، وهي غير مواتية إلى حد كبير، حيث تم التنازل عن أراضٍ شاسعة ثمنا للسلم. وفي أثناء المناقشات التي دارت حول التصديق على معاهدة بريست-ليتوفسك، أدلى لينين بالملاحظة التالية:
” بلغ إلى علم بوريس [كامكوف، من الاشتراكيين الثوريين اليساريين] أننا كنا انهزاميين، وتذكر ذلك عندما توقفنا عن كوننا انهزاميين... لقد كنا انهزاميين في عهد القيصر، ولكن في عهد تسريتيللي وتشرنوف [الوزراء في حكومة كيرينسكي]، لم نكن انهزاميين“13.
دافع لينين، بعد ثورة فبراير، عن فكرة وجوب تخلي البلاشفة عن شعارات الانهزامية، برغم أن هذه الشعارات لم تكن موجودة عملياً إلا على المستوى الدعاوي بين العامين 1914 و1916، وتم تنحيتها جانباً بحلول 1917. وقد حلت محلها دعوات أكثر واقعية وعملية من أجل حقوق الجنود الديمقراطية، والتوجه نحو ازدواجية السلطة في المؤسسة العسكرية بقدر تجذير الانتفاضة الثورية لكتائب متزايدة من الجيش.
حرب الدفاع الثورية
كان لينين ذاته، في سبتمبر 1917، يدلي بتصريحات غير مستندة إلى الانهزامية الثورية، بل تدعو بشكل أساسي إلى حرب دفاع ثورية، ويتناول هذه الأخيرة بالتطرق لكيفية الدفاع عن البلد بنجاح ضد الغزو:
"يستحيل أن نجعل البلد قادرا على الدفاع عن نفسه دون بطولة سامية من الشعب الذي ينجز بجرأة وحزم إصلاحات اقتصادية كبيرة. ومن المستحيل استثارة البطولة في الجماهير دون إحداث قطيعة مع الإمبريالية، ودون اقتراح سلم ديمقراطي على جميع الشعوب، ودون تحويل حرب الغزو والنهب الإجرامية إلى حرب عادلة ودفاعية وثورية"14.
أظهر ما تلا أن لينين كان يستعمل شعار الانهزامية الثورية بشكل أساسي فيما يتعلق بالقيصرية، وفكرة أن هزيمة جيش القيصر من شأنها أن تخلق ظروف إبداله بنظام أكثر راديكالية وديمقراطية. وقد كان محقًا في هذه النقطة.
في زمن الحرب، تتحرك الأمور بسرعة. عندما عاد لينين من المنفى، وبدأ بالفعل التحدث إلى العمال والجنود الروس، اكتشف حالة ذهنية مغايرة. حالة ترى من المعقول تماماً ألا يرغب المرء في غزو بلده واحتلالها، وكان هذا الشعور هو الذي عبر عنه لينين، حتى باستخدام مفردات الحرب الثورية الدفاعية التي كان رفضها في أبريل 1917. كانت النقطة الحاسمة هي معارضة أهداف الحرب التوسعية والإمبريالية للطبقة البرجوازية.
خلاصات عملية
عندما يجتاح بلد إمبريالي بلدا فقيرا بقصد إعادة تقطيع العالم، يمثل الدفاع عن حق هذا الأخير في المقاومة، وحقه في تقرير مصيره، مطلبا ديمقراطيا أساسيا. حتى القول بتأييد انتصار الأمة الأصغر موقف صحيح ومبدئي.
وحتى عندما يتعلق الأمر بأمة إمبريالية تتعرض للغزو من قبل أمة إمبريالية أخرى، فمن المحتم ألاَّ يرغب الشعب في أن تغزوه أو تحتله قوة أجنبية.
يجب على الاشتراكيين، في كل وضع، التقدم بتحريض ودعاوة ضد الحرب، مع إبراز التناقضات الطبقية بين ما يسعى إليه الإمبرياليون من جهة، والعمال الذين يُرسلون للتقاتل من جهة أخرى. يجب نسج روابط مع اشتراكيي البلد الغازي، وتنظيم متحدات قاعدية في الجيش وفي النقابات، وإرساء روابط بين العمال والجنود، مع توضيح أن الحكومة لا تتحدث باسم الشعب، وأنه يجب إنهاء هذه الحرب الهمجية ، وأن حكومة اشتراكية وحدها قادرها على وقفها.
19 مايو 2022
- 1
« Report at a meeting of bolshevik delegates to the all-russia conference of soviets of workers’ and soldiers’ deputies april 4 (17), 1917 », Lénine, publié dans la Pravda le 7 novembre 1924.
- 2
« Report at a meeting of bolshevik delegates to the all-russia conference of soviets of workers’ and soldiers’ deputies april 4 (17), 1917 », Lénine, publié dans la Pravda le 7 novembre 1924.
- 3
- 4
« Le programme militaire de la révolution prolétarienne », Lénine, septembre 1916.
- 5
كراسة يونيوس: الأزمة في الاشتراكية الديمقراطية الألمانية“، روزا لوكسمبورغ، 1915. ضمن كتاب مختارات سياسية . دار الطليعة مايو 1971 . صفحة 169
- 6
مقال بقلم فلاديمير بوتين ”حول الوحدة التاريخية للروس والأوكرانيين“، 12 يوليو 2021
- 7
لينين، المختارات (10 أجزاء) جزء 6، دار التقدم، موسكو، 1976، ص 153.
- 8
البرنامج العسكري للثورة البروليتارية“، نفس المرجع.
- 9
« Le mythe du “défaitisme révolutionnaire” de Lénine », Hal Draper, 1953-195, New International
- 10
https://socialistworker.org/2015/09/09/resolution-of-the-zimmerwald-left
- 11
البحث في الأعمال الكاملة
- 12
- 13
- 14
لينين، المختارات (10 أجزاء) جزء 7، دار التقدم، موسكو، 1976، ص 172