مجلة وموقع تحت مسؤولية المكتب التنفيذي للأممية الرابعة.

حفرة في منتصف الطريق مسار الديمقراطيين نحو الهزيمة

كيم مودي بقلم
Le 15 juillet, des représentantes démocrates s'expriment sur les attaques du président Trump contre elles. JLM Lo Scalfo EPA-FEE

قام الحزب الديمقراطي، بهدوء في منتصف الطريق، بتسليم البيت الأبيض ومجلس الشيوخ ومجلس النواب إلى دونالد ترامب واليمين السياسي. إذا تمعنا النسب المئوية، يبدو جلياً حصول الجمهوريين على دعم الأغلبية في جميع المناطق الجغرافية تقريبًا وفي صفوف فئات ديموغرافية عديدة: في المناطق الحضرية والضواحي والمدن الكبرى متوسطة الحجم والمدن الصغيرة والمناطق القروية، وفي صفوف البيض غير الحاصلين على شهادات جامعية، والرجال، والفئة العمرية من 18 إلى 29 عامًا، والرجال السود واللاتينيين، ومن يكسبون أقل من 50 ألف دولار سنويًا.

احتفظ الديمقراطيون بأغلبيتهم ضمن النساء (54%) وحملة الشهادات العليا (54%) ومن يتراوح دخلهم بين 10000 و199000 دولار، وحصلوا على نسبة 51% بين من يتقاضون 200000 دولار وأكثر، مما رفع مرة أخرى متوسط دخل الناخبين/ات الديمقراطيين/ات. مع ذلك، خسروا الأغلبية في الضواحي، التي كانت قائمة في صلب استراتيجيتهم الانتخابية، حيث انتقلت نسبة التصويت لصالحهم من 54% في عام 2020 إلى 48% هذا العام1.

لكن ذلك لا يعني تحقيق ترامب والجمهوريين انتصارًا ساحقًا، بل بالأحرى هزيمة للديمقراطيين. حصل ترامب وحسب على ما يفوق قليلاً 3 ملايين صوت مقارنةً بعام 2020، أي بزيادة تقل عن نسبة 2%، مقارنةً بتراجع هاريس بنسبة 8%. فاز ترامب على هاريس بفارق 2.8 مليون صوت من أصل ما يزيد عن 155 مليون ناخب، أي أقل من نسبة 2% مرة أخرى. ويكمن سر نجاحه في خسارة الديمقراطيين ما يفوق 6 ملايين صوت مقارنةً بعام 2020، على الرغم من ارتفاع عدد الناخبين/ات المسجلين/ات بواقع 4 ملايين ناخب/ات. مما يعني حصول كامالا هاريس على 75.1 مليون صوت في عام 2024، مقارنة بـ 81.3 مليون صوت حازها جو بايدن قبل أربع سنوات. لو كان الديمقراطيون حافظوا حتى على نصف عدد هؤلاء الناخبين الذين فقدوا أصواتهم، لكانت هاريس بالأقل فازت بعدد الأصوات، وربما بما يكفي من الولايات المتأرجحة للوصول إلى البيت الأبيض.

 حجم خسارة الديمقراطيين للأصوات الانتخابية مذهل على ما يبدو

 خسر فريق هاريس/والز Harris/W الولايات السبع المتأرجحة التي أوصلت ترامب إلى البيت الأبيض. تقلصت الأصوات التي حصل عليها الديمقراطيون مقارنةً بعام 2020 في 37 ولاية من أصل 47 ولاية مكتملة الفرز أثناء كتابة هذا المقال.

فقد الديمقراطيون عددًا من الأصوات في 24 ولاية من هذه الولايات أكثر مما فاز به الجمهوريون فيها. خسر الديمقراطيون في ولاية بنسلفانيا Pennsylvanie 145036 صوتًا، في حين لم يفز ترامب سوى بـ 133602 صوتًا. بلغ التراجع في ولاية ميشيغان Michigan 61000 صوت في مقاطعة واين Wayne - التي تُشكّل معقل الديمقراطيين المعهود، إلى جانب ديترويت Detroit (غالبية سكانها من السود) وديربورن (عدد كبير من السكان العرب) - مما يمثل غالبية الأصوات التي خسرها الديمقراطيون في الولاية وبالتالي خسرتها هاريس أيضًا. كانت مواقف إدارة بايدن الداعمة بثبات لحرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على غزة هي التي كلفت هاريس فقدان آلاف الأصوات العربية الأمريكية في حالة ديربورن.

يكمن انهيار الدعم الذي لحق الديمقراطيين في تراجع الأصوات التي حصلوا عليها في نسبة 81% من جميع المقاطعات الأمريكية. وحتى في ولاية نيويورك، التي كانت سابقًا ولاية «زرقاء»، خسر الديمقراطيون 831252 صوتًا مقارنةً بعام 2020، في حين لم يكسب ترامب سوى 219000 صوتًا. تراجعت نسبة أصوات الديمقراطيين من نسبة 60.9% (في عام 2020) إلى نسبة 55.9% (في عام 2024). انخفضت هذه النسبة أيضًا في مدينة نيويورك، حيث أشارت ألكسندريا أوكاسيو كورتيز Alexandria Ocasio-Cortez (AOC) إلى ارتفاع نسبة التصويت لترامب في دائرتها الانتخابية من نسبة 22% في عام 2020 إلى نسبة 33% هذا العام، حيث صوت بعض ناخبيها لصالحه2.

 استمر انخفاض نسبة تصويت السود للديمقراطيين، على الصعيد الوطني، إلى نسبة 86% أو نسبة 87% هذا العام بعدما كانت النسبة 95% في عام 2012. لكن تراجع نسبة تصويت اللاتينيين للديمقراطيين من نسبة 65% إلى نسبة 53% بعدما كانت النسبة 69% في عام 2012، يشكل أكبر صدمة بلا شك.

 كما تراجعت نسبة المشاركة في التصويت بين السود واللاتينيين كجزء من جميع الناخبين. وعلى الرغم من الطابع المحوري لمسألة الحق في الإجهاض في حملة هاريس/والز، انخفضت نسبة النساء اللاتي صوتن للديمقراطيين من 57% في عام 2020 إلى 53% هذا العام.

استطاع الديمقراطيون حتى دحض أحد القوانين الأساسية للانتخابات الأمريكية: يفوز المرشح الذي ينفق أكثر من غيره باحتمال تسع مرات من أصل عشر مرات. قامت هاريس في الدورة الانتخابية 2023-2024 بتحطيم الأرقام القياسية في جمع التبرعات، حيث بلغت تكلفة حملتها الانتخابية 1167194124 دولارًا مقارنةً بتكلفة ترامب البالغة 622633035 دولارًا، في حين أن تكلفة التمويلات الخارجية للجمهوريين3 تجاوزت بالكاد تمويلات الديمقراطيين: 975826757 دولارًا مقابل 843053718 دولارًا وفقًا لموقع OpenSecrets.org. أجل: كانت هذه الانتخابات التي بلغت تكلفتها 15901068285 دولارًا - لم تكتمل بعد عمليات الفرز - أكثر كلفة من انتخابات عام 2020، والتي كانت بالفعل حطمت الأرقام القياسية.

يتطلب إقناع الناس بالتوجه إلى صناديق الاقتراع على ما يتضح أكثر من مجرد دولارات عندما لا يتحدث المرشحون عن مشاعر الناس، في ظل حالة استقطاب انتخابي اليوم ومخاطر تهدد المستقبل.

حزب الوضع القائم

كان واضحاً أن العنصرية والتمييز على أساس الجنس أثرا سلباً على هاريس بحكم طبيعة حملة ترامب الانتخابية. ولا شك أن بعض الديمقراطيين كانوا يرفضون وصول امرأة سوداء إلى البيت الأبيض. مع ذلك، وبالنظر إلى حجم التصويت السابق لصالح أوباما أو هيلاري كلينتون داخل القطاعات الديمقراطية التقليدية - اللذين حصلا على أغلبية الأصوات الشعبية - فمن غير المرجح إلى حد كبير أن تكون إشكالات العرق والجندر كافية لتفسير حجم تراجع إقبال الناخبين/ات الديمقراطيين/ات على التصويت.

ظلت الرسالة الاقتصادية لحملة الديمقراطيين الانتخابية - إن كانت موجودة أصلاً- عنصرا رئيسيا، في الدفاع عن الوضع الراهن، وبالأخص في دعم سجل بايدن. تشير استطلاعات الرأي «عند خروج الناخبين من صناديق الاقتراع» أن أغلبية واسعة من الناخبين الديمقراطيين يستحسنون أداء بايدن الاقتصادي، لكن الاستطلاع لم يكن تمثيليًا - حيث كان ضمن من استجابوا لاستطلاع الرأي أكثر الناخبين يُسراً (انظر أدناه). اعتبرت نسبة 67% من جميع الناخبين أن حالة الاقتصاد الوطني «ليست جيدة للغاية/سيئة».

يحقق الديمقراطيون، وفقاً لتوجه سائد منذ أمد طويل، نتائج أفضل ضمن ذوي الدخل المرتفع، لكن ليس بما يكفي للفوز بالضواحي (السكنية) بشكل عام.تخلى العمال وذوو الدخل المتوسط أساسا عن الحزب الذي كان ذات يوم «حزب الشعب»، إما بالتصويت للجمهوريين أو بعدم إرسال بطاقات الاقتراع عبر البريد أو بالبقاء في المنزل يوم التصويت في الانتخابات، كما حدث هذا العام في كثير من الأحيان.

بينما تفوق بايدن في عام 2020 على ترامب بنسبة 57% مقابل 42% بين المتراوح دخلهم من الناخبين بين 50000 دولار و99999 دولارًا، ما يشمل غالبية الطبقة العاملة، خسرت هاريس في عام 2024 في صفوف هذه الفئة بحصولها على نسبة 47% مقابل 49%، أي بانخفاض 10 نقاط مقابل 5 نقاط لصالح ترامب. بالإضافة إلى ذلك، انتقلت نسبة المشاركة الانتخابية ضمن هذه الفئة ذات الدخل المتوسط من نسبة 39% من إجمالي الناخبين في عام 2020 إلى نسبة 32% في عام 2024.

 هروب الطبقات الشعبية

 يعزى ذلك يشكل كبير إلى انخفاض عدد المصوتين لصالح الديمقراطيين: معظمهم من أصحاب الياقات الزرق وأصحاب الدخل المتوسط، بغض النظر عن عرقهم أو أصلهم. وبالنظر إلى أن أرباب المقاولات الصغيرة (المندرجين أيضًا في شريحة الدخل هذه) يصوتون بشكل غير متناسب لصالح الجمهوريين، فهذا يعني أن غالبية الناخبين الذين فقدهم الديمقراطيون كانوا شغيلة العاملة ديمقراطيين.

تتعزز هذه الملاحظة هذا السنة بسبب انخفاض نسبة تصويت الأسر الديمقراطية (من نسبة 56% إلى نسبة 54%) وتراجع نسبة تصويتها كنسبة من إجمالي المصوتين (من نسبة 20% إلى نسبة 19%). كان الناخبون وقاعدة الناخبين الديمقراطيين بوجه عام أكثر من ذوي البشرة البيضاء وأكثر يُسراً في عام 2024، حيث ارتفع عدد الناخبين الذين يتجاوز دخلهم 100000 دولار - وهي فئة حصل فيها الديمقراطيون على الأغلبية - من نسبة 26% من إجمالي المصوتين في عام 2020 إلى نسبة مذهلة بلغت 40% في عام 2024، وفقًا لاستطلاعات الرأي التي أجرتها شبكة سي إن إن CNN «عند مغادرة صناديق الاقتراع». من الواضح وجود حالة هروب جماعي لشعيلة البلد الذين يعانون صعوبات اقتصادية، احتجاجًا أو سخطاً، وليس هرولة نحو اليمين.

 فشل ما حملته هاريس من رسالة معتدلة في حملتها الانتخابية وما بذلته من جهود لتبرير سياسات بايدن الاقتصادية أمام الطبقة العاملة بشكل ذريع. خاضوا المنافسة كحزب الوضع القائ فى حين كان ناخبون محتملون كُثر ساخطين ومتطلعين إلى «التغيير»، خاصة فيما يتعلق بتكلفة المعيشة. كان هذا الانشغال واضحًا بالفعل في الدراسة التي نشرها مركز بيو للأبحاث Pew Research في أيلول/سبتمبر 2023، إذ تشير إلى تراجع الآراء المؤيدة للحزب الديمقراطي من نسبة 60% في أوائل سنوات 2000 إلى نسبة 37% في عام 2023، في حين ارتفعت الآراء غير المؤيدة إلى نسبة 60.3%4.

 وفي الواقع كانت نسبة 33% وحسب من الناخبين/ات المسجلين/ات يعتبرون أنفسهم ديمقراطيين في عام 2023، مقارنةً بنسبة تتراوح بين 37% و40% قبل عقد من الزمن5. لم يكن لخطابات بايدن «ذات النبرات الإيجابية» وبرنامجه القائم على الإنفاق الضخم صدىً مسموعًا لعدم توافقها مع انشغالات الطبقة العاملة (انظر أدناه). كان صدى رسالة ترامب «القاتمة» عن أمة تواجه صعوبات أشد وطأة من غيره، ولأسباب وجيهة: تباطأ معدل التضخم بالتأكيد، لكن ذلك لم يؤد إلى تعويض ارتفاع تكاليف المعيشة المتراكمة على مدى السنوات الأربع الماضية، خاصة بالنسبة لأكثر المسائل أهمية لأصحاب الدخول المتدنية والمتوسطة - من مواد غذائية وبنزين وإيجارات الخ. وفي الواقع، شهدت الدخول الاسبوعية للأجراء/ات الذين يعملون/ن في قطاع الإنتاج ولا يشغلون/ن مناصب إدارية ركودًا منذ عام 20226.

 الإرث النيوليبرالي للحزب الديمقراطي

والأهم من ذلك، وجود تغيير عميق في حياة أولئك الشغيلة الذين يصنعون الإنتاج المادي للأمة ويحولونه، وهذا ما يرفض السياسيون الديمقراطيون حتى الآن إدراكه. ترافق هذا التغيير مع تحول الحزب الديمقراطي من حزب مدافع عن إصلاحات متواضعة بالأقل أثناء الاضطرابات التي شهدتها حقبة الحقوق المدنية، إلى حزب يدعو إلى التقشف النيوليبرالي، من كارتر Carter إلى أوباما Obama. قام الديمقراطيون أثناء هذه السنوات بالابتعاد عن النقابات ب عن وعي، ووضعوا إصلاح قانون العمل على جدول الأعمال، وألغوا كل المساعدات المخصصة للبلديات تقريبًا، فيما شجعوا التبادل التجاري الحر، وإلغاء الضوابط التنظيمية، وعززوا إصلاح دولة الرفاه، ونظام السجن الجماعي، الخ.

كانت «السياسة الاقتصادية القائمة على العرض» وإلغاء أنظمة الضبط المفروضة على قطاع النقل في عهد كارتر، منطلقاُ لاعتماد النيوليبرالية في الولايات المتحدة الأمريكية، حتى قبل «ثورة ريغان». وكانت السياسات النيوليبرالية الجديدة التي قوضت الظروف المعيشية للطبقة العاملة من تصور وتنفيذ مراكز أبحاث الحزب الديمقراطي وقادته وسياسييه الذين حكموا لمدة 20 عامًا من أصل 32 عامًا تلت فترة هيمنة الجمهوريين الريغانية.

 اتسمت فترة طويلة ناجمة عن أزمة الركود التضخمي7 في سنوات السبعينات، في الولايات المتحدة الأمريكية، من ناحية، بالصعود المتزامن والمتضافر للعولمة (حركة استثمارات مباشرة في الخارج وتبادل تجاري حر)، وإلغاء أنظمة الضبط ونزع التصنيع واندحار الحركة النقابية، ومن ناحية أخرى، بالتنظيم السياسي للرأسمال الكبير داخل المائدة المستديرة لعالم الأعمال8، وبروز لجان العمل السياسي PAC للمقاولة، وتأثير أموال الأثرياء في الإطار الانتخابي، واعادة تشكيل الحزب الديمقراطي.

 ليس هذا التغيير الأخير قطيعة مع التحالف الانتخابي السابق أثناء تطبيق برامج الصفقة الجديدة New Deal، والذي كان يضم ليبراليي الشمال والنقابات والآلات السياسية9 ودعاة الفصل العنصري في الجنوب وحسب، بل أيضًا تحول بعض مستويات الآلات السياسية ونوادي حزبية محلية ونقابات ولجان مقاطعات إلى هياكل فارغة هرمية للغاية وخاضعة لمؤسسات ثرية وذات طابع احترافي باطراد (DNC اللجنة الوطنية الديمقراطية ، DCCC لجنة الحملات الانتخابية للحزب الديمقراطي في الكونغرس، لجنة الحملة الديمقراطية لمجلس الشيوخ DSCC، وتجمعات حزبية، وأحزاب ذات طابع محترف على صعيد الولايات، وشبكات مانحين، ومستشارين/ات).

يسمو هذا التسلسل الهرمي للسلطات والمال المنظمين، الذي بات يمثل الحزب الديمقراطي اليوم، عالياً فوق جموع ناخبين غير منظمين. ويزداد اعتماد ذلك التسلسل الهرمي دوما على أوساط الأعمال والمانحين الأثرياء في هذا الحزب المهيكل من أعلى إلى أسفل.

تشكل قاعدة الحزب الانتخابية خليطاً متغيراً وغير متجانس من فصائل طبقية ميسورة باطراد، سواء تحدثنا عن إعادة اصطفاف أو عدم اصطفاف أو سوء اصطفاف. وتقوم مختلف فصائل الرأسمال بتوطيد هذا التجمع غير المتماسك تنظيميًا في كل دورة انتخابية عبر تقديم دعم مالي بصورة انتقائية.

فترة النيوليبرالية كارثة بالنسبة لمعظم الطبقة العاملة

 تم إلى حد كبير توثيق سيرورة نزع التصنيع في منطقة «حزام الصدأ»10، من بنسلفانيا إلى وسط غرب الولايات المتحدة الأمريكية، منذ أن ألف بلوستون Bluestone وهاريسون Harrison كتاب «نزع التصنيع في أمريكا» La désindustrialisation de l’Amérique في عام 198211.

لكن لا يبدو أن موجة القادة الديمقراطيين حاليًا على علم بذلك، باستثناء تشاك شومر Chuck Schumer، الذي صرح بأن «مقابل كل ديمقراطي من ذوي الياقات الزرقاء نفقده في غرب بنسلفانيا، سنكسب جمهوريين معتدلين في ضواحي فيلادلفيا». ليس تمامًا يا تشاك!

 غالبًا ما كان الاهتمام بعواقب نزع التصنيع منصباً على مصير العمال البيض في المناجم ومصانع الصلب والمدن الصناعية في منطقة «حزام الصدأ»، الذين أصبحوا معروفين باسم «ديمقراطيي ريغان». وفي الواقع، أثر هذا التغير الصناعي المعروف جيدًا على العمال السود بنفس القدر، وحتى بشكل أشد وطأة، في المراكز الصناعية المدمرة بالمراكز الحضرية مثل ديترويت Detroit وفلينت Flint وغاري Gary وشيكاغو Chicago وبيتسبرغ Pittsburgh وسانت لويس Saint-Louis ، وفي مدن أصغر عديدة.

لكن لم يكن يخطر ببال هؤلاء العمال «الملونين» أن يصبحوا من «ديمقراطيي ريغان». كان خطاب ترامب الراديكالي والحمائي ضروريا ليتحول عدد دال منهم من المعسكر الديمقراطي إلى المعسكر الجمهوري، في حين انضم كُثر آخرون إلى نسبة 40% وما فوق من الناخبين/ات الذين لا يدلون بأصواتهم/ن.

أدى ثلاثي سياسات «الطريق الثالث» المتمثل في النيوليبرالية وديناميات العولمة ونزع التصنيع، حيثما حل، إلى تعطيل وتقويض تجمعات الطبقة العاملة القائمة منذ عقود، وثقافات وأفكار التضامن المبنية على النقابات التي كانت تقود هذه التجمعات إلى مواصلة التصويت لصالح الديمقراطيين. تقوم دراسة أعدّتها مؤخراً ليني نيومان Lainey Newman وثيدا سكوكبول Theda Skocpol عن مدن الصلب في بنسلفانيا بتوضيح كيف أدى أفول تنظيمات الطبقة العاملة، بدءاً من النقابات، إلى تحول العمال/ات البيض إلى اليمين بقدر تفكك المجتمعات وتراجع مكانة النقابات وتقويض هذه الثقافة القديمة12. 

تجربة التقهقر الاجتماعي

 أصبح الجيل الذي حل بعد فقدان عمال قطاع الصناعة وظائفهم يشغل مناصب في قطاع الخدمات، دون نقابات، وأحيانًا في ظل ظروف هشة أو في مقاولات من باطن، ودوماً بأجور متدنية. لم نشهد إلا مؤخرًا وحسب بداية تنظيم في مناصب الشغل هذه، وستتطلب إعادة بناء ثقافة تضامن وقتًا.

لم تختفِ «مناصب العمل الجيدة» وتتجمد الأجور وحسب. بل شهد أيضاً قسم كبير من اليد العاملة الأمريكية العاملة النشطة، كما أظهرت دراسة أعدتها صحيفة نيويورك تايمز، انخفاضًا في الدخل إلى ما دون المتوسط الجمالي، الذي كان ملايين العمال يحصلون على دخل أعلى منه سابقاً. انخفضت دخول عمال قطاع الإنتاج النسبية بسرعة خاصة في الجنوب الشرقي، وتراجعت إلى ما دون المتوسط الوطني في غرب وسط الولايات المتحدة الأمريكية، وهما منطقتان رئيسيتان لمؤيدي ترامب وللممتنعين عن التصويت في الانتخابات الأخيرة، بعد الانحسار الاقتصادي الكبير في سنوات 2008-201013.

 قد لا يكون ضحايا هذا التقهقر الاجتماعي على دراية بالإحصائيات، لكنهم لمسوه عمليًا واستشعروا تبعاته وفسروا ذلك على أنه احتقار من جانب نخب الحزب الديمقراطي، دون أن يكونوا مخطئين كلياً. إن هذه التحولات القائمة في الرفاهية والوضع الاقتصادي، التي غالبًا ما يتم تجاهلها، والتي حدثت إلى حد كبير أثناء فترات حكم الديمقراطيين، تشكل بالتأكيد أحد الأسباب التي أدت إلى عزوف عمال/ات بيض كثر أو تحولهم/ن إلى جمهوريين/ات، وعدم تصويت عمال/ات سود/ات أو لاتنيين/ات باطراد لصالح هاريس في 5 تشرين الثاني/نوفمبر. لم ينسحب العمال/ات من الحزب الديمقراطي، بل تخلى عنهم/ن هذا الأخير منذ عقود.

انهيار النيوليبرالية وامتلاك الديمقراطيين لحلول قديمة وحسب

 تأثرت إدارة بايدن ودورتا الكونغرس الـ117 والـ118 (2021-2023 و2023-2025) سلبا بالعواقب الوخيمة لأزمة النظام النيوليبرالي وواجهت مهمة إنعاش اقتصاد يمر بمرحلة انتقالية نحو طور رأسمالية معولمة جديد غير معروف إلى حد كبير. أدت الجائحة العالمية وتزايد حدة تغير المناخ إلى مفاقمة هذا الطور.

 ناشد الديمقراطيون بطبيعة الحال المساعدة من الدولة، لأنها مجالهم وما من شيء آخر كان بوسعهم اللجوء إليه. لكن بدلًا من رفع الحد الأدنى للأجور، وبناء مساكن منخفضة التكلفة، وتعميم الرعاية الصحية مجانًا، وإقرار قانون حماية حق التنظيم النقابي PRO Act وتمويل المجلس الوطني لعلاقات الشغل NLRB14، وفرض الضرائب على الثروات والدخول المفرطة، والاستمرار في منح التعويضات الفردية التي أقرها ترامب بسبب كوفيد، أو تلبية مطالب شعبية أخرى، خضعوا لأوامر من يمولهم وتشبثوا بثقتهم في النظام لإنقاذ الرأسمالية الأمريكية عبر تقديم مكافآت للرأسمال وحماية الأصول الخاصة، وهذا لم يكن من مطالب أية حركة اجتماعية أو قطاع من الرأي العام.

وبوجه فترة انخفاض الاستثمارات وتذبذب معدلات الأرباح، بحث النقاد والسياسيون الديمقراطيون في النقاشات الدائرة سنوات 1980 و1990، واكتشفوا «السياسات الصناعية». تقوم الحكومة من خلال هذه «السياسات الصناعية» باختيار «رابحين وخاسرين» لتشجيع نمو القطاعات ذات الطباع الاستراتيجي أو التنافسي بجعلها مربحة على حساب نفقات الدولة. كان ريغان اعتمد بالفعل لجنة لدراسة «السياسات الصناعية»، لكنه تجاهل توصياتها15. وغازل بيل كلينتون لفترة وجيزة «السياسات الصناعية» قبل أن يقود حملة الهجوم النيوليبرالي16.

 «السياسات الصناعية»

 تُعد «السياسات الصناعية»، بالنسبة لبعض اليساريين، مقاربة تقدمية، وحتى اشتراكية ديمقراطية. لكن لم تكن بأي وجه سوى وسيلة للعمل من فوق على تشجيع الرأسمال على الاستثمار حيثما كان المديرون يرون ضرورة ذلك بفضل الأموال العامة. وعلى الرغم من وجود شروط للاستفادة من هذا التمويل من الناحية النظرية، تحقق الحصول عليه في الواقع دون تهديد أو تقييد حقوق الإدارة أو أرباح المستثمرين أو طابع الملكية الخاصة المقدس.

قد يؤدي ما يناهز تريليوني دولار من الإعفاءات الضريبية والإعانات والقروض والحوافز الأخرى القائمة في صلب قوانين بايدن الرئيسية الثلاثة - وهي قانون إنتاج الرقائق الالكترونية CHIPS17 وقانون البنية التحتية وقانون خفض معدلات التضخم - الممتدة على مدى 10 سنوات، إلى خلق مناصب عمل إذا ما اقتنع أرباب العمل بذلك. لكن نادراً ما تُفرض شروط محددة على من يحصلون على مناصب عمل هذه.

 علاوة على ذلك، كما يشير تحليل نشرته مجلة” أمريكان بروسبكت“ American Prospect عن قانون خفض التضخم: «لا تزال تحديات بوجه ضمان عدم قيام الوسطاء باختلاس الأموال...»18. لكن، لا مفر من ذلك تقريبًا نظرًا لكثافة التشغيل من باطن في الإنتاج والبناء. أدى تدفق المال العام - دون فرض رقابة على الأسعار - نحو قطاع الوقود غير الأحفوري في الواقع، ويا للمفارقة، إلى ارتفاع أسعار الطاقات المتجددة19 على الرغم من حمل القانون اسم «الحد من معدلات التضخم».

 علاوة على ذلك، تمت صياغة هذه النسخة من «السياسات الصناعية» وتقديمها بمبرر الأمن القومي والمنافسة الدولية، وليس باسم الدفاع عن الطبقة العاملة بوجه الأزمة. وبالتالي، تشكل تدابير الإنعاش التي تنطوي عليها «السياسات الصناعية» بالكاد مجرد مساعدات للرأسمال في عالم يعاني أزمة، مع تأثير ضئيل مفترض على التشغيل، ممتد على فترات زمنية وغير ملموس إلى حد كبير بالنسبة للجماهير.

 التحدث إلى الشعب أو التخلي عنه

 قام ترامب من جانبه بوصف بلد يواجه مشاكل عديدة ووعد بإيجاد حلول جلية للغاية وسريعة التنفيذ: فرض حواجز جمركية، وإقامة جدران على الحدود، وطرد المهاجرين/ات، وكلها إجراءات ملموسة تتعهد بإحداث مناصب الشغل من جديد وتبدو لناس كُثر وكأنها تقدم حلًا فوريًا لما يواجهون من مشاكل هم ومجتمعاتهم.

 أدت العنصرية الكامنة بلا شك إلى تعزيز هذا الموقف، لكن العمال/ات السود واللاتينيون/ات، الذين عانت مجتمعاتهم أكثر من غيرهم من النيوليبرالية التي ينتهجها الديمقراطيون، تبنوه على نحو مطرد. يشكل هذا التحول صوب اعتماد حلول ذات طابع رجعي وعنصري عاقبة ومسؤولية قيادة الديمقراطيين وعجز المؤسسات عن تقديم حلول ملموسة وتقدمية.

 رفض الديمقراطيون الإصغاء للرأي العام ومطالب الحركات الاجتماعية، وتجاهلوا دعوات اليسار لخوض حملة ذات طابع «شعبوي» على غرار ما يقوم به بيرني ساندرز Bernie Sanders - ومهاجمة إدارات الشركات متعددة القوميات؛ وفرض ضرائب فعلية على الأثرياء؛ وتطبيق قانون حماية حق التنظيم النقابي؛ ورفع الحد الأدنى للأجور؛ واعتماد الرعاية الصحية للجميع؛ وفرض رقابة على الإيجارات السكنية، الخ.

 يقوم بعض المرشحين الصغار على نحو منتظم بتطوير لغة ذات طابع «شعبوي» ضد الشركات متعددة القوميات أثناء الحملات الانتخابية، كما كان الحال هذا العام. لكن القيادة الحالية في الحزب الديمقراطي ودوائره العليا ومؤسساته والأغلبية الساحقة من ممثليه/ته المنتخبين/ات ومرشحيه/اته لا يمكنهم التهديد بضرب مصالح أثريائهم وأولي نعمتهم الأقوياء، بفرض ضرائب عالية ومزيد من أجور مرتفعة. فالأحرى تقديم مرشح اشتراكي، حتى لو كان إصلاحيًا مثل بيرني، في الانتخابات الرئاسية.

 كما أنهم لا يستطيعون التهديد بفرض ضرائب باهظة على نفس أرباب العمل الذين قدمت لهم «سياساتهم الصناعية» وبرامجهم المناخية مليارات الدولارات في شكل تخفيضات ضريبية وحوافز وإعانات مالية. يخوضون حملة وسطية، مهما بدوا «يساريين» في بعض المسائل الاجتماعية، لأنهم على أفضل حال داخل الطيف السياسي هم ورعاتهم، وذلك عن قناعة وبدافع ضرورة مالية على حد سواء: ضرورة استمرار هياكل السلطة داخل الحزب، وتمويل حملاتهم - للحفاظ على النظام الذي يكفل بقاءهم، في ظل نظام انتخابي خاضع للمال كلياً.

 والآن، أي مستقبل لليسار؟

وعلى غرار الحزب بالذات، فقدت الجهود الرامية إلى بناء يسار تقدمي أصيل في إطار الحزب الديمقراطي عبر إطاحة القيادة الحالية ودفع الحزب في اتجاه تقدمي، زخمها وتوقفت في عام 2024. بدأت استراتيجية تغيير الحزب عن طريق تقديم مرشحين في الانتخابات التمهيدية ضد الديمقراطيين المعتدلين مع سعي بيرني ساندرز في عام 2016 إلى نيل ترشيح الحزب لخوض الانتخابات الرئاسية. ثم تسارعت وتيرتها في عام 2018 مع انتخاب «الفريق» squadفي مجلس النواب20 وبروز الديمقراطيين من أجل العدالة de Démocrates pour la Justice وثورتنا Notre Révolution21، مما أدى إلى إثارة الاحتجاج يسارًا أثناء الانتخابات التمهيدية. لكن هذا الزخم حاد عن مساره.

 قام ساندرز وثورتنا وديمقراطيون من أجل العدالة بدعم 23 مرشحًا/ة لانتخابات مجلس النواب في عام 2022. فاز 9 مرشحين ضمن 15 مرشحًا لشغل المقاعد التي لم يكن شاغل المنصب المنتهية ولايته مرشّحًا لإعادة انتخابه؛ لكن مرشحة واحدة وحسب فازت من أصل 8 مرشحين كانوا يتنافسون ضد شاغلي مناصب معتدلين منتهية ولايتهم. وهي المرشحة جيمي ماكلويد سكينر Jamie McLeod Skinner التي خسرت في الانتخابات العامة. لم يحقق اليساريون التقدميون اليساريون في عام 2022 إجمالاً سوى أربعة مكاسب صافية - بدون أي طعن مباشر.

 فشل مسار «الفريق»

 ازدادت الأمور سوءًا في عام 2024. انضم ساندرز وألكسندريا أوكاسيو كورتيز والآخرون إلى حملة بايدن ثم حملة هاريس ولم يشارك أي مرشح يساري في الانتخابات الرئاسية التمهيدية. لم يقدم ساندرز وثورتنا وديمقراطيون من أجل العدالة الدعم سوى لـ 16 مرشحًا لمجلس النواب، منهم 12 مرشحًا كانوا يشغلون مقاعد في دوائر انتخابية مضمونة بالنسبة للديمقراطيين قبل انتهاء ولايتهم، بينما كان 4 مرشحين يتنافسون على مقاعد بدون وجود مرشحين كانوا يشغلون مقاعد نيابية قبل انتهاء ولايتهم. لم يكن أي واحد منهم يواجه مرشحا ديمقراطيا منتهية ولايته النيابية.

 وما زاد الطين بلة أن عضوي «الفريق» المنتهية ولايتهما جمال بومان Jamaal Bowman وكوري بوش Cori Bush خسرا مقعديهما، في حين أنفق اللوبي الصهيوني لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية American Israel Public Affairs Commitee ملايين الدولارات أثناء حملتيهما الانتخابيتين، والتزمت قيادة الحزب الصمت رغم نداءات المناضلين. وبينما كان عدد الاشتراكيين الديمقراطيين الأمريكيين DSA في الكونغرس 7 أعضاء، لم يعد عددهم اليوم فيه سوى 3 أعضاء وحسب، لأن الآخرين فقدوا مقاعدهم أو تركوا المنظمة.  انزلقت ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز AOC ، التي كانت ذات يوم صوت التمرد العلني الرسمي داخل الحزب، إلى التيار السائد لدرجة أنها صوتت مؤخرًا لصالح قرار مجلس النواب الذي يساوي بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية، اعتماداً على تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (IHRA). أصبحت هذه الاستراتيجية بالطبع تحت أنقاض التصويت الحزبي هذا العام22.

لا تزال بالطبع أصواتٌ معارضة بشأن فلسطين في الكونغرس مثل رشيدة طليب Rashida Tlaib وإلهان عمر Ilhan Omar وغيرهما، وبعض النواب الذين يطرحون إصلاحات «واقعية»، لكن أحلام صفقة خضراء جديدة Green New Deal، أو رعاية صحية للجميع، أو مساعدات للمجتمعات المنكوبة، أو بناء مساكن ضخمة أو أي إصلاح آخر ذي طابع شامل قد يفيد الطبقة العاملة، تبخرت مع استراتيجية «الاختراق» التي اتبعها اليسار. إن فكرة بناء تنظيم جماهيري انتخابي أو «حزب بديل» باستخدام النهج الانتخابي الديمقراطي، التي طُرحت سابقًا باعتبارها مسار اليسار الاشتراكي إلى السلطة، لم تتجاوز بأي وجه الورقة المكتوبة عليها.

 من المؤكد تقريبًا أن ممارسة قادة الحزب الضغط للمضي قدمًا نحو مزيد من الاتجاه نحو اليمين ستزداد مع وجود ترامب وعصابته من المتطرفين وأصحاب المليارديرات في البيت الأبيض. سيتصارع الديمقراطيون فيما بينهم - انظر إلى السباق نحو تقلد منصب رئاسة اللجنة الوطنية الديمقراطية حالياً- وسيسعون إلى جمع مزيد من الأموال حفاظاً على سلطة برجهم المتهالك. سيحاولون استقطاب مرشحين/ات معتدلين/ات بصورة مطردة لخوض الانتخابات النصفية للكونغرس في عام 2026 على أمل مواجهة تصرفات ترامب الأكثر تطرفًا.

ضرورة أن تأتي المقاومة ضد ترامب من مكان آخر

 لا نعرف حالياً بالضبط كيف ستطبق إدارة ترامب سياساته المتسمة بالنزعة القومية البيضاء، لكن المسرح السياسي سينتقل من واشنطن إلى شوارع الولايات المتحدة الأمريكية حيث ستسعى قوات الاقتحام والقوات المسلحة التابعة له إلى محاصرة المهاجرين/ات وسحق الاحتجاجات وزرع الخوف وتحويل شوارع البلد إلى ساحات حرب باسم استتباب النظام.

وفي الآن ذاته، سيؤدي رفع الرسوم الجمركية إلى مزيد من التضخم وتفاقم أزمة غلاء المعيشة، في حين أن خططه الرامية إلى الاستغناء عن آلاف الموظفين الحكوميين لن تفضي سوى إلى الضغط على الوظائف الحكومية، كما أن جهوده العنيفة لترحيل المهاجرين/ات بكثافة ستلحق الضرر بالمجتمعات «الملونة»والمجتمع المدني بطرق عديدة.

تبددت الآمال في أن يتصدى الرأسمال لكل ذلك مع تهافت أرباب الأعمال وأصحاب المليارات على مبايعة الإدارة الجديدة وقائدها الحقود، حتى قبل أن يتسلم منصبه الرئاسي.  قدّم جيف بيزوس Jeff Bezos من شركة أمازون الولاء عبر تبرعه بمليون دولار لحفل التنصيب الرئاسي حتى لا يتفوق عليه زملاؤه الأثرياء.

 مسار اليسار

 يعني ذلك أن مهام اليسار لا يمكن أن تتجلى في محاولة أخرى لجعل الديمقراطيين شيئًا آخر غير ما هم عليه، مع ما يترتب على ذلك من الضياع في أوساطهم، بل ينبغي التعبئة لمواجهة مساعي ترامب إلى تنفيذ سياساته الملموسة. سيتطلب الأمر أكثر من مجرد تظاهرات احتجاجية روتينية بشكل منتظم.

لقد تأثرت وأنا أشاهد من إنجلترا الطريقة التي خرج بها عشرات آلاف المناضلين/ات والمواطنين/ات في بريطانيا إلى الشوارع ومراكز المدن لمواجهة أعمال الشغب التي شنها اليمين المتطرف العنصري في جميع أنحاء البلد الصيف الماضي وطرده من الشوارع، وهذا ما لم تستطع الشرطة القيام به.

 رأيتُ أيضًا، أثناء إدارة أوباما، أن جلوس شباب مهاجرين/ات بدون أوراق ثبوتية، «حالمون»، أمام الحافلات الفيدرالية لمنع الترحيل، كان ملهمًا للغاية. يجب أن يكون هذا النوع من التحركات في صلب عمل اليسار، بشكل دائم وجماهيري دفاعًا عن المهاجرين/ات، والعيادات التي تجرى فيها عمليات الإجهاض، والنقابات أثناء الإضرابات وجميع النضالات.

مقاومة!

ستشن مقاومات ضد محاولات الحد من الإجهاض أو حظره على مستوى الولايات وربما على المستوى الوطني. كما ستندلع أيضًا موجة إضرابات في مقاولات صناعية عديدة لتنظيم العمال في شركة أمازون وغيرها من مراكز السلطة الاقتصادية. ستكون النقابات هذه المرة بالضرورة أساس «المقاومة». أعتقد أن هناك ما يكفي من السخط والاشمئزاز لجعل مثل هذه التعبئات والتحركات ممكنة وفعالة. عندما يصل تأثير سياسات ترامب إلى العمال/ات، قد يكون الوقت قد حان لتصديق رئيس نقابة عمال السيارات المتحدة UAW Shawn Fain شون فاين بشأن حديثه عن شن إضراب عام.

يكمن جوهر السياسة بالنسبة لمعظم الأمريكيين/ات في الانتخابات والحكومة. لا يمكن أن نسمح لأنفسنا بترك المجال الانتخابي لليمين أو الوسط. وأمام أزمات النظام المتعددة، ستؤدي حالة الفوضى التي يتخبط فيها الحزب الديمقراطي والعواقب الكارثية لسياسات ترامب إلى إتاحة فرص وإمكانات للتدخل في هذا المجال على مختلف المستويات.

إن الهدف الأساسي للمرشحين/ات المستقلين/ات أو مرشحي/ات حزب ثالث أثناء انتخابات ثانوية، لا يتمثل بالضرورة في الفوز من أول محاولة، بل في ضمان وجود مرشحين/ات بديلين/ات لصالح الطبقة العاملة يصغون إليها وينحدرون/ن من صفوفها. لا يمكن تحقيق ذلك باستخدام الطريقة المعتادة في دعم مشاهير معتمدين على قوى مالية ووسائل إعلام ومستشارين/ات، بل من الضروري بناء أشكال دعم من أسفل منظمة داخل المجتمعات والنقابات المحلية والحركات الاجتماعية. يجب أن يقود الشعب هذه الحملات وليس الدولارات23.

 هناك مئات المقاعد التي يشغلها ممثلون منتخبون من الوسط أو اليمين في مجلس النواب وفي الولايات، وفي الدوائر الحضرية والقروية من الحزبين الديمقراطي والجمهوري على حد سواء، دون أي تأثير «كابح»24 أو حتى منافسة من حزب ثانٍ، حيث من الممكن كسب موطئ قدم. كان ذلك ما حدث في حملة مجلس الشيوخ الفريدة من نوعها إلى حد ما - مستقلة ونقابية ومؤيدة للإجهاض [حقوق الإجهاض] ومناهضة لأرباب العمل- والتي قادها، في نبراسكا ذات الأغلبية الجمهورية إلى حد كبير، دان أوزبورن Dan Osborn، أحد قادة الحركة النقابية وموجة الاضرابات. فاز أوزبورن بنسبة 46.6% من الأصوات على مستوى الولاية (435582 صوتًا)، وعلى الرغم من أن حملته كانت تقليدية في نواحٍ عديدة، فإن ديناميته ملهمة25.

 مع ذلك، تكمن الفكرة الرئيسية المطروحة أثناء السنوات الأربع القادمة في أن المعركة ضد ترامب وحركة ماغا MAGA (اجعلوا أمريكا عظيمة مرة أخرى) لا يمكن خوضها بالاعتماد على الحزب الديمقراطي وموظفيه/ات الدائمين/ات. ما من شيء سيكون قادرًا على الحدّ من فعالية ترامب وحركة ماغا في الشوارع وأماكن السلطة، إلا التعبئات الجماهيرية من أسفل، وبوجه خاص تنظيم دائم، سواء عن طريق العمل المباشر أو أثناء اجراء الانتخابات، بغية رسم معالم بديل طويل الأمد محل استمرار تكرار تكتيكات أهون الشرور في مواجهة اليمين.

كانون الثاني/يناير 2024

  • 1

    جميع الإحصاءات والنتائج الانتخابية، بما في ذلك المقارنة مع عام 2020، مأخوذة من سي إن إن   CNN ، و/أو أسوشيتد برس فوت كاست  AP VoteCast ، و/أو إن بي سي NBC ، و/أو نيويورك تايمز  New York Times ، و/أو واشنطن بوست Washington Post ، و/أو الجارديان The Guardian ، و/أو بوليتيكو Politico ، و/أو بلومبرج  Bloomberg ، و/أو ذا هيل The Hill، و/أو مختبر الانتخابات بجامعة فلوريدا، ما لم تتم الإشارة إلى خلاف ذلك صراحةً.  استخدمت أحدث الأرقام الانتخابية، لكن قد لا تعكس بدقة النتائج النهائية.

  • 2

    Michele Norris, Split ticket voters offer some bracing lessons for the Democratic Party,” MSNBC, November 12, 2024, https://www.msnbc.com/opinion/msnbc-opinion/aoc-trump-democrats-listen-voters-rcna179762.

  • 3

    تشير التمويلات الخارجية إلى الأموال التي تنفقها مجموعات من خارج إطار الحملة الرسمية للمرشح، مثل لجان العمل السياسي PACولجان العمل السياسي (PACs) ولجان العمل السياسي المستقلة Super PAC. يمكن لهذه المجموعات أن تجمع مبالغ طائلة من الأموال وتنفقها لدعم مرشح ما أو معارضة خصومها، دون تنسيق مباشر مع الحملات الرسمية.

  • 4

    Pew Research Center, Americans’ Dismal View of the Nation’s Politics, September 19, 2023.

  • 5

    Pew Research Center, The partisanship and ideology of American Voters, April 9, 2024.

  • 6

    BLS, TED: The Economic Daily, February 17, 2023 ; Real Earnings News Release, November 13, 2024.

  • 7

    الركود التضخمي هو حالة اقتصادية تتسم بوجود توليفة غير عادية من ركود انمو اقتصادي وارتفاع معدلات البطالة وتضخم دائم.

  • 8

    تمثل المائدة المستديرة لعالم الأعمال منظّمة أمريكية تضم الرؤساء التنفيذيين لأكبر المقاولات، تأسست عام 1972 للتأثير على السياسة العامة لصالح الاقتصاد والتشغيل. وتتناول مسائل مثل الضرائب وأنظمة الضبط والحكامة.

  • 9

    تعد «الآلات السياسية» منظمات ذات تراتبية هرمية للغاية تشكلت عبر سيرورات قائمة على المحسوبية والزبونية، وقامت بدور بارز في دعم الديمقراطيين.

  • 10

    يُعدّ حزام الصدأ منطقة في الولايات المتحدة الأمريكية كانت تاريخياً مركزاً رئيسياً للصناعات التحويلية والصناعات الثقيلة، لكنها شهدت تدهوراً اقتصادياً حاداً منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وتضم أوهايو Ohio وميشيغان Michigan وبنسلفانيا Pennsylvanie وإنديانا Indiana وإلينوي Illinois وويسكونسن Wisconsin.

  • 11

    Se reporter à OpenSecrets.org pour les derniers chiffres. Barry Bluestone and Bennett Harrison, The Deindustrialization of America: Plant Closings, Community Abandonment, and the Dismantling of Basic Industry, Basic Books, 1982.

  • 12

    Lainey Newman and Theda Skocpol, Rust Belt Blues: Why Working Class Voters Are Turning Away from the Democratic Party, New York: Columbia University Press, 2023. https://www.pewresearch.org/poltics/2024/04/09/the-partisanship-and-ideologiy-of-american-voters/

  • 13

    Emily Badger, Robert Gebeloff, and Atish Bhatia, ”They Used to Be Ahead in the American Economy. Now They’ve Fallen Behind, New York Times, October 26, 2024, https://nytimes.com/interactive/2024/10/26/upshot/census-relative income.html

  • 14

    يشكل قانون حماية حق التنظيم النقابي   PRO Act   مشروعَ قانون يسعى إلى تعزيز حقوق العمال في التنظيم النقابي والمفاوضات الجماعية. يمثل المجلس الوطني لعلاقات الشغل (NLRB) وكالةً فيدرالية تقوم بدور الإشراف على قوانين علاقات الشغل وتنفيذها.

  • 15

    Bennet Harrison and Barry Bluestone, The Great U-Turn: Corporate Restructuring and the Polarizing of America, Basic Books, 1988: 182-184.

  • 16

    Nelson Lichtenstein and Judith Stein, A Fabulous Failure: The Clinton Presidency and the Transformation of American Capitalism, Princeton: Princeton University Press, 2023: 30-66.

  • 17

    يعد قانون CHIPS قانوناً أمريكياً صدر في أغسطس/آب عام 2022 لتعزيز الإنتاج الوطني لأشباه الموصلات وتحفيز الابتكار التكنولوجي في الولايات المتحدة الأمريكية.

  • 18

    David Dayen, “the Inflation Reduction Act at Two”, American Prospect, 16 août, 2024. https://prospect.org/environment/2024/08/16-inflation-reduction-act-at-two/

  • 19

    Paul Debbar, “How the Inflation Reduction Act made renewables inflation worse”, The Hill, 12 juillet 2024. https://thehill.com/opinion/energy-environment/4763935-inflation-reduction-act-renewables/

  • 20

    )   يشير تعبير «الفريق» إلى مجموعة غير رسمية من شابات منتخبات تقدميات، مثل ألكسندريا أوكاسيو كورتيز Alexandria Ocasio-Cortez وإلهان عمر Ilhan Omar وأيانا بريسلي Ayanna Pressley ورشيدة طليب Rashida Tlaib، ثم توسع نطاقه فيما بعد ليضم آخرين

  • 21

    تأسس حركة «ديمقراطيون من أجل العدالة» Justice Democrats في عام 2017 من قبل أعضاء سابقين في حملة بيرني ساندرز في عام 2016. وقد قدمت مرشحين في الانتخابات التمهيدية ضد مرشحي/ات الحزب الديمقراطي المعتدلين/ات. ومن بينهم ألكسادرا أوكاسيو كورتيز. تأسست حركة ثورتنا Our Revolution في عام 2016 بعد حملة ساندرز، بمواقف مماثلة، لكن بشكل أكثر انغراسا في صفوف قاعدة الحزب.

  • 22

    لمزيد من التفاصيل، اقرأ، 

     

    Kim Moody, « La fête est finie – La crise de l’électoralisme de gauche », Inprecor, hiver 2024 https://inprecor.fr/node/4494 ; Kim Moody, “AOC’s Journey to the Center”, Against The Current 228, janvier-février 2024 https://againstthecurrent.org/atc228/aocs-journey-to-the-center-of-politics/ ; Kim Moody, “Stuck in the Mud, Sinking to the Right: 2022 Midterm Elections”, Against The Current 223, mars-avril 2023 https://againstthecurrent.org/atc223/stuck-in-the-mud-sinking-to-the-right-2022-midterm-elections/

  • 23

    ثمة مفارقة معينة في أن «منتخبي/ات الحزب الديمقراطي الاشتراكي الأمريكي DSA »في الكونغرس تمكنوا/ن من جمع الملايين لخوض حملات ذات طابع مؤسسي في حين أن الحزب الديمقراطي الاشتراكي الأمريكي نفسه يعاني من نقص دائم في الأموال.

  • 24

    يتمثل التأثير «الكابح» في خطر أن يؤدي وجود مرشح يساري إلى تقسيم الأصوات المعارضة للجمهوريين وخسارة المرشح/ة الديمقراطي/ة.

  • 25

    كانت حملة أوزبورن تحظى بدعم النقابات، لكنها جمعت أموالًا كثيرة من مصادر مختلفة، معظمها من خارج الولاية، وأقل من نصفها عبر تبرعات صغيرة بقيمة 200 دولار أو أقل - ما يفوق 6 ملايين دولار في المجموع وفقًا لموقع OpenSecrets.org..

المؤلف - Auteur·es

كيم مودي

كيم مودي عضو مؤسس في منظمة Labor Notes ، ومؤلف كتب عديدة في العمل والسياسة. يعمل حالياً باحثاً زائراً في جامعة وستمنستر Westminster في لندن، وعضو نقابة اتحاد الجامعات والكليات University and College Union ونقابة الاتحاد الوطني للصحفيين National Union of Journalists . يحمل كتابه الأخير عنوان:

Breaking the Impasse: Electoral Politics, Mass Action & the New Socialist Movement in the United States (Haymarket Books).

وضمن إصداراته السابقة:

On New Terrain: How Capital Is Reshaping the Battleground of Class War ; An Injury to All: The Decline of American Unionism ; Workers in a Lean World, Unions in the International Economy, et U.S. Labor in Trouble and Transition.