مجلة وموقع تحت مسؤولية المكتب التنفيذي للأممية الرابعة.

اليسار الحديث مطالَب بتغيير جذري لمقاربته للسياسة التكنولوجية

Ilias Akhmedov بقلم

تطورت التكنولوجيا بشكل سريع في القرن الحادي والعشرين. يمكن حتى  القول إننا نشهد أكثر العصور إبهاراً في حياتنا من حيث التقدم التكنولوجيأصبح الذكاء الاصطناعي مندمجاً تدريجيًا في حياتنا ومناصب شغلنا، مما يساعدنا على التعلم والدراسة والعمل. كما صارت الطباعة ثلاثية الأبعاد فعالة للغاية لدرجة أنها تتيح حتى بناء دور سكننا. صارت وسائل التواصل الاجتماعي جزءًا مهمًا من حياتنا، مما يتيح لنا التواصل بطريقة أسهل إلى حد كبير مع الناس في جميع أنحاء العالم. اندمجت صناعة الروبوتات في سيرورات رئيسية مثل إجراء العمليات الطبية، كما أحدثت صناعة الطائرات المسيرة عن بُعد ثورة في حياتنا - أثناء خوض الحروب وبدونها على حد سواء.

لسنا الجيل الوحيد الذي يشهد هكذا مستوى من الابتكار. مرّت الإنسانية بهذه المرحلة مرار عديدة إلى حدٍ ما: أدى المحرك البخاري، والكهرباء، والأجهزة الإلكترونية - الخ - إلى تغيير حياتنا، وأصبحت تلك الاكتشافات جزءًا أساسيًا من الاقتصاد والصناعة، على غرار التكنولوجيا الحديثةمع ذلك، ثمة اختلاف جوهري: لا تحدث التغيرات الاجتماعية والثقافية في كثير من الأحيان بنفس السرعة. وتُعرف هذه الظاهرة باسم «التقدم المتسارع». تستغرق كل دورة حتى نهايتها ما بين 5 إلى 10 سنوات أقل من الدورة السابقة، كما أشارت دوروثي نيوفيلد Dorothy Neufeld، في تحليلها لدورات الابتكار الست التي مرت بها البشرية منذ القرن الـثامن عشر

إذا كان تقليص مدة كل دورة ابتكار موضع ترحيب كما يبدو، فإن الجانب الاجتماعي، مثل قبول التكنولوجيا وتقنينها، غير قائم دوماً. لكن لسوء الحظ، هذه مشكلة عويصة تعاني منها غالبية الأحزاب والحركات اليسارية التي لا تزال حصيلتها أبعد ما تكون عن المثالية، إما لتجاهلها التام للسياسات الرئيسية التي قد تفيد كُثر، أو لتبنيها موقفًا خاطئًا. لن يؤدي هذا إلا إلى مزيد من إلغاء القيود التنظيمية المفروضة على قطاع التكنولوجيا دون أي معارضة حقيقية، مما يفضي إلى سيرورة «تدهور جودة الخدمات الرقمية» merdification1  بسبب سياسيين من طيف واسع (يسار أوربي، ووسطيين من مجموعة تحالف الديمقراطيين الليبراليين من أجل أوربا (ALDE)2، ويمين وسط حزب الشعب الأوربي PPE، والجناح اليميني لحزب المحافظين والإصلاحيين الأوروبيين ECR، الذين تلقوا أموالاً من لوبيات كبرى شركات التكنولوجيا3.

وبالتالي حان الوقت لإعادة التفكير جوهرياً في مقاربة اليسار لسياسة التكنولوجيا بالتخلي عن الإيديولوجية النمطية الاشتراكية القائمة على الدور المهيمن للدولة مقابل سياسة تقدمية ذات قواعد منصفة لجميع الجهات الفاعلة التي تضمن منافسة سليمة، - وأقول هذا بصفتي قرصاناً اشتراكياً ديمقراطياً -. هنا تكمن فائدة السياسات التي تدعو إليها أحزاب القراصنة [أحزاب القرصنة الالكترونية] وحالات التطبيق العملي لهذه السياسات. لن تتيح هذه الأخيرة استفادة الناس من قطاع التكنولوجيا وحسب، بل ستخلق أيضاً بيئة تحفز مزيداً من فرص الابتكارات التكنولوجية، ما سيعود بالنفع على المجتمع.

تحطيم رأسمالية الرقابة

صاغت شوشانا زوبوف Shoshana Zuboff, الأستاذة في جامعة هارفارد تعبير «رأسمالية الرقابة» ونشرته في كتابها «عصر رأسمالية الرقابة» (باريس، زولما، 2020) L’âge du capitalisme de surveillance (Paris, Zulma, 2020). وتعرّف هذا التعبير بأنه نسخة منتقاة ومأخوذة أصلاً من رأسمالية المعلومات حيث يتم جمع بيانات سلوك السكان لأغراض التحليل والبيع. ويقوم طرفان رئيسيان بنشر هذه الرأسمالية: كبرى شركات التكنلوجيا وسماسرة البيانات.

إذا كانت كبرى شركات التكنولوجيا منخرطة بالتأكيد في جمع البيانات بأساليب بغيضة، فإن ممارستها تحظى بحماية واسعة النطاق في وسائل الإعلام الرئيسية. أما سماسرة البيانات، من ناحية أخرى، فأقل شهرة وأسوأ حالاً بكثير – وهذا ما تدور حوله هذه الفقرة التالية.

يعني أنها شركات تجمع البيانات الشخصية من مصادر عديدة ومتنوعة. عادةً ما تحصل على البيانات من مصادر عامة شتى، مثل وسائل التواصل الاجتماعي ودور الأرشيف العامة، أو تشتريها من مصادر متنوعة: كبرى شركات التكنولوجيا، ووكالات الإعلان، ومطوري التطبيقات المستقلين - وباختصار، كل من يريد الاستفادة من ابيانات الأفراد الشخصية. يمكن لأي شخص من الناحية النظرية شراء البيانات من وسيط: سواء من أفراد أو شركات في جملة واسعة من المجالات، أو كبرى شركات التكنولوجيا نفسها، أو حتى حكومات مباشرة، بما في ذلك حكومات أجنبية.

يرتبط ذلك مباشرةً بنموذج الإشهار الرقمي والطريقة التي تستخدمها الشركات لتكوين ملفات تعريفية عن مستخدمي الإنترنت. توجد طريقتان رئيسيتان لتحقيق وكالات الإعلان هذا الهدف.

تتمثل الطريقة الأولى في معرّف الإعلانات في الهواتف الذكية، وهو عبارة عن سلسلة فريدة من محارف [في الحوسبة والاتصال عن بعد، المِحْرَف (بالإنجليزية: Character)‏ هي وحدة معلومة ترتبط الوحدات الخطية والرموز الألفبائية ورموز نظام الكتابة المقطعية المستخدمة بصورة لغة طبيعية -وكيبديا.] قد تستخدمها جميع التطبيقات الأخرى المثبتة على الهاتف الذكي بشكل عام. كان معرّف الاعلانات هذا دائمًا وغير قابل للتعديل في البداية، لكن الشركات جعلته قابلاً لإعادة الضبط بعد ردود الفعل السلبية التي أثارها. وعلى الرغم من ذلك، لا يمكن حذف هذه المعرّفات الإعلانية بالكامل، وتتيح دوماً لمطوري التطبيقات ربط معلومات عنكم وعن الخدمات التي تستخدمونها.

تكمن الطريقة الثانية في ملفات تعريف الارتباط cookies. وتعني ملفات صغيرة تحتوي على بيانات المستخدم تتيح تحديد هوية زائر معين لموقع إلكتروني ما. قد يكون ذلك أي شيء بدءاً من إعدادات اللغة المفضلة لديكم، ونظام تشغيل جهازكم، ونوع متصفحكم ونسخته، والعناصر الموجودة في سلة التسوق الخاصة بكم، وبيانات اتصالكم، الخ. عادةً ما يتم تخزينها في موقع المتصفح الالكتروني وليس على الموقع الإلكتروني.

يوجد نوعان من ملفات تعريف الارتباط:

- تنتمي ملفات تعريف الارتباط الداخلية إلى الموقع الإلكتروني الذي تتصفحونه. يمكن على سبيل المثال، معرفة وجود عنصر في سلة تسوقك الافتراضية بعد إغلاق صفحة متجر عبر إنترنت، أو إلغاء ضرورة إعادة الاتصال على وسائل التواصل الاجتماعي. تُستخدم ملفات تعريف الارتباط هذه بشكل أساسي لتخصيص [إضفاء طابع شخصي] تجربتكم على الموقع الإلكتروني المعني لتقديم خدمات ذات اهتمام بكم؛

- تنتمي ملفات تعريف ارتباط الطرف الثالث إلى موقع إلكتروني آخر مدمج مع الموقع الإلكتروني الذي تتصفحونه حاليًا لتجميع بياناتكم واستخدامها لأغراض إعلانية مستهدفة. تقدم شركات الإعلانات أو الشبكات الاجتماعية بشكل عام رمزاً يمكن دمجه في مواقع إلكترونية أخرى. وبالتالي، كلما زار مستخدم موقعًا إلكترونيًا يتضمن هذا الرمز، يجري تنزيل ملف تعريف ارتباط لتتبع نشاط المستخدم على إنترنت وسلوكه على مواقع إلكترونية أخرى تحتوي أيضًا على هذا الرمز. لذلك، على سبيل المثال، قد تبحث عن حذاء أحمر على الموقع الإلكتروني ”أ“، ثم تشاهد في وقت لاحق من اليوم إعلانًا لنفس الحذاء على الموقع الإلكتروني ”ب“. يُعد هذا تكتيكًا إعلانيًا عبر إنترنت معروفًا باسم «إعادة الاستهداف».  يحدث هذا عندما تنقر عادةً على خيار قبول الكل بعد ظهور إشارة ملفات تعريف الارتباط على موقع إلكتروني تزورونه؛ ثم يتم تخزين عشرات أو مئات أو حتى آلاف ملفات تعريف الارتباط الخاصة بالتتبع في بيانات متصفحكم الإلكتروني.

لا تقدر هذه البيانات بثمن في أيدٍ "أمينة": إذا جمعت بيانات كافية عن فرد ما - على سبيل المثال، بيانات مالية وهوايات ومعلومات صحية، الخ. يمكن عندئذٍ توقع تكاليف التأمين الصحي لفرد ما. يمكن لأي انحراف (مثل اتباع نظام غذائي غير صحي) أن ينعكس فوراً على خوارزمية التوقع ويؤدي إلى رفع أسعار التأمين الصحي.

يعد قطاع الرعاية الصحية مجرد مثال على كيفية استخدام هذه المعلومات كأداة سلاح. تتعلق واحدة من أكثر الوقائع إثارة في مجال الإعلانات الرقمية أثناء السنوات الأخيرة بقس كاثوليكي تعرض للعزل بعد علم رؤساؤه استخدامه تطبيق Grindr ، موقع المواعدة الشهير للرجال المثليين. لكن كيف اكتشفوا ذلك؟ تكمن إحدى الصحف المحلية على ما يبدو من الحصول على بيانات موقع هاتفه الذكي التي جمعها سماسرة البيانات (الذين كانوا اشتروا البيانات من مشغلي الهواتف المحمولة وموقع Grindr نفسه)، والأكثر من ذلك، كشفت بيانات الموقع نفسها قضاءه الكثير من الوقت في الحانات الخاصة بمجتمع الميم.

تتركز هذه المسألة خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من الاتحاد الأوربي، حيث توجد بالأقل حماية معينة للبيانات مع قانون النظام الأوربي العام لحماية البيانات (GDPR)، رغم عدم اتسامه بالكمال، حظيت مثل هذه التدابير عموما بدعم اليسار. مع ذلك، يستخدم سماسرة البيانات في بعض الحالات ثغرات في التشريعات الوطنية للتهرب من القوانين - كما هو الحال في السويد، حيث يمكن للشركات الاستفادة من الحماية القانونية الممنوحة للصحفيين للتهرب من القانون. يجب سد هذه الثغرات.

يجب أن تتمثل إحدى الخطوات المهمة في إدخال تحسينات على النظام الأوربي العام لحماية البيانات وقانون الأسواق الرقمية (DMA) من خلال توضيح أحكامهما، وتعد ورقة الموقف (ورقة الموقف: وثيقة تحدد فيها منظمة ما موقفها رسميًا من ملف قيد النقاش، في سياق معين، لإقناع جمهور ما بصحة وأهمية ما تدافع عنه من رأي) بشأن الحقوق الرقمية الأوروبية (EDRi) بداية جيدة. يتضمن ذلك خاصة تحسين التنفيذ والإجراءات العابرة للحدود، وتسهيل إمكانية تقديم شكوى وطلب البيانات المخزنة عن الفرد. بالإضافة إلى ذلك، بدلًا من محاولة وضع الإعلانات السلوكية المستهدفة عبر الإنترنت في نظامSandbox [صناديق الحماية] (عادةً ما يكون مكونًا من مكونات المتصفح يستخدم لتقليل المخاطر الأمنية المرتبطة بتشغيل تطبيقات شبكة إنترنت) مثل رفض جميع ملفات تعريف الارتباط الخاصة بالغير أو رفض ملفات تعريف ارتباط معينة من طرف ثالث، يجب حظر جميع الإعلانات السلوكية تمامًا.

دعم التشفير الشامل بين الأطراف [ضرب من التشفير لا يمكن بموجبها إلا لأطراف الاتصال قراءة الرسائل المرسلة-وكيبديا] وتقنين الحق في الخصوصية والتشفير

دأب السياسيون من جميع المشارب وفي كل البلدان منذ مدة طويلة على مهاجمة تشفير البريد الإلكتروني، بذريعة مختلف الأسباب - من الإرهاب إلى حماية الأطفال من التعرض للإساءة. يعد هذا خطابًا مملًا ودفاعيًا لتبرير إخفاقات السياسة الاجتماعية مثل نقص تمويل الخدمات الاجتماعية، خاصة في قطاع الصحة النفسية، وعدم الاستثمار في المجتمعات المحلية التي قد تساعد على تأسيس أندية ذات منفعة (القراءة والفنون والرياضة وغيرها)وبالتالي يتجه المراهقون إلى وسائل التواصل الاجتماعي كوسيلة للهروب، مما يضر بصحتهم العقلية ويتيح للسياسيين تحميل التكنولوجيا مسؤولية كل الشرور، بما في ذلك التشفير لإخفاء حالات الاعتداء على الأطفال.

مع ذلك، توجد أدلة على أن الاتصالات غير المشفرة تهدد خصوصية الأشخاص، وخاصةً ضحايا العنف المنزلي والتمييز ضد مجتمع الميم. ولكن هذا لا يمنع السياسيين من السعي إلى قمع حرية تأمين الاتصالات الخاصة. تتمثل أحدث المساعي في سن التشريعات التالية: قانون EARN IT Act (قانون القضاء على الإهمال المسيء والمستشري للتكنولوجيات التفاعلية) في الولايات المتحدة الأمريكية، وقانون ChatControl (التحكم في المحادثات على إنترنت) في الاتحاد الأوربي4 وقانون سلامة الإنترنت  Online Safety Ac في المملكة المتحدة. على الرغم من اختلاف أسماء القوانين، فإن هدفهما واحد: طرح حل جديد للتجسس على الرسائل الخاصة للأشخاص، والمعروف باسم المسح من جانب العميل [لعميل أو الزبون (بالإنجليزية: Client)‏ هو برنامج أو نظام يتعامل مع نظام حاسوب آخر يُسمى خادم من أجل الحصول على خدمة عن طريق شبكة-وكيبديا]، باعتباره وسيلة قانونية لاختراق الاتصالات المشفرة بشكل تام بين الأطراف دون تدميرها، على الرغم من الأدلة التي تبرر عكس ذلك.

ما المسح [التحليل] من جانب الزبون؟

يتمثل أحد أنواع التشفير في التشفير من جانب الخادم، حيث تتم سيرورة تشفير في المنتصف بعد إرسال الرسالة، وبالتالي تثقون في مقاولة مطوري البرمجيات بعدم إفشاء مفاتيح التشفير وفك التشفير. على سبيل المثال، تُشفّر الرسائل وتُخزّن على خوادمهم أثناء دردشات تلغرام العادية المستندة على الحوسبة السحابية cloud.

يكمن نوع آخر من التشفير في التشفير الشامل من طرف إلى آخر end-to-end :E2E)) المستخدم في خدمات المراسلة مثل تطبيق سيجنال (Signal) أو واتساب (WhatsApp) أو بريار (Briar) أو برنامج بي جي بي (بالإنجليزية: PGP)‏ أو خصوصية جيدة جداً PGP لرسائل البريد الإلكتروني، الذي يتيح تأمين اتصالاتكم الخاصة عن طريق تشفير رسائلكم باستخدام مفاتيح مخزنة على جهازكم الفعلي وعبر إرسال بيانات مشفرة إلى مراسلكم الذي يقوم أيضاً بفك تشفير رسائلكم على جهازهمما يعني أنه حتى لو طلبت السلطات من برنامج المراسلة الكشف عن بياناتكم ومحتوى الرسائل بالضبط، فلن تتمكن من ذلك بسبب امتلاك جهازكم وحده مفاتيح التشفير التي تتيح تشفير الرسائل وفك تشفيرها.

تتجلى الفكرة الكامنة وراء المسح من جانب العميل في اضطرار برامج المراسلة والخدمات هذه إلى إدخال برنامج ما (عادةً ما يكون ذكاءً اصطناعيًا) يقوم بتحليل محتوى الرسالة والملفات قبل إرسالها، والكشف تلقائيًا لأجهزة البوليس عن أي مواد مشبوهة حسب الذكاء الاصطناعي. والأسوأ من ذلك، يقترح التشريع فحص رسائل الأشخاص دون تمييز، مما يتيح فرض رقابة شاملة.

حتى بغض النظر عن كون ذلك انتهاكًا صارخاً للخصوصية (من المفارقات أن وزراء الداخلية في الاتحاد الأوربي يسعون إلى استثناء البوليس والجيش ووكالات الاستخبارات من التحكم في المحادثات على إنترنت ChatControl)، فإن استخدام الذكاء الاصطناعي لمسح محتوى الرسائل غير موثوق به إلى حد كبير ويسبب مشاكل جمة للأشخاص بسبب حالات إيجابية خاطئة وحالات خارج السياقعلى سبيل المثال، قامت غوغول Google بالفعل بإدراج مثل هذه الميزة في تطبيق صور Google Photos الخاص بها.  وعلى هذا النحو،  تم في عام 2022 إغلاق حساب مهندس برمجيات أمريكي بالكامل، ثم تم إبلاغ شرطة سان فرانسيسكو عنه لالتقاطه صورة لطفله الصغير المريض، بطلب من الطبيبحتى بعد أن برأته الشرطة، رفضت Google غوغل إعادة حسابه. ويكمن مثال آخر على ذلك في اقتراح مقاولة آبل تقنية الفحص/المسح من جانب العميل الذي كان من السهل التحايل عليها ليتم إلغاؤها في نهاية المطاف.

من المحزن للغاية اتخاذ غالبية الأحزاب اليسارية دومًا موقفًا خاطئًا بشكل منهجي تقريباً، كما يتضح من دعمهم لتدابير تقنية المسح من جانب العميل، سواء على المستوى الوطني أو في البرلمان الأوربي. حتى أن التحالف التقدمي للاشتراكيين والديمقراطيين (S&D) في البرلمان الأوربي صوت بنسبة 90% لصالح السماح باستخدام برامج التجسس على الصحفيين.

عارضت أحزاب القراصنة في أوربا دوماً مثل هذه الإجراءات. على اليسار أن يدين بوضوح لا لبس فيه أي محاولة لحظر التشفير من قبل الحكومات - مهما كانت الأيديولوجيا - وأن يكون أكثر جرأة في تأمين الحق في الخصوصية.

توجد بعض الأمارات الإيجابية، مثل قانون حماية بيانات المستخدمين5 الذي اقترحته الحكومة الائتلافية في ألمانيا. كان من المفترض أن ينص هذا القانون على حق حماية بيانات العمال والحق في التشفير (وهذا ما يدافع عنه القراصنة أيضًا). ومن المتوقع أن تتبنى أحزاب يسارية أخرى نفس البرنامج وعدم التخلف عن الركب - وخاصة الحكومة الائتلافية اليسارية التقدمية في إسبانيا، وفي آخر المطاف، حزب العمال البريطاني الذي من المرتقب أن يتولى رئاسة الحكومة.

تقنين الذكاء الاصطناعي بما يضمن خدمة الأغلبية وليس الأقلية

تطورت تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بشكل أسرع من أي تكنولوجيا أخرى على مدى السنوات العشر الماضية، وبوجه أخص منذ إنشاء شركة أوبن أيه آيOpenAI. يتعذر إنكار أن تطبيق شات جي بي تيChatGPT أثبت إمكانية الاستفادة منه عند استخدامه بشكل مسؤول كأداة دعم، خاصة في مجال الرعاية الصحية، بغض النظر عن ممارسات المقاولة ونموذج عملها التجاري الذي أنتقده بشكل لاذع. قام برنامج شات جي بي تيChatGPT في العام الماضي على سبيل المثال بتشخيص حالة طفل يبلغ من العمر أربع سنوات بشكل صحيح عندما فشل عشرات الأطباء في القيام بذلك؛ وفي حالة أخرى، قام البرنامج بتشخيص حالة حيوان أليف عندما أخفق الطبيب البيطري في ذلك.

خطا الاتحاد الأوربي وحده حتى الآن خطواته الأولى في محاولة تقنين الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المعتمدة عليه. تمكن الاتحاد الأوربي بداية من التفاوض بنجاح على اتفاق ينظم استخدام تقنية التعرف على الوجه من قبل قوات الأمن في جميع أنحاء الاتحاد الأوربي، على الرغم من عمل بعض التغيرات التي طرأت في اللحظة الأخيرة على اضافة ثغرات كبيرة، مثل استخدام تقنية التعرف على الوجه على مقاطع الفيديو المسجلة دون أمر قضائي. ثانيًا، اقترحوا مشروع قانون الذكاء الاصطناعي (بدعم من التحالف التقدمي للاشتراكيين والديمقراطيين برمته) الذي يضع، لأول مرة، إطارًا قانونيًا لمطوري أشكال نموذج اللغة الكبير (Large Language Models, LLMs) وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بشكل عام. يبدو أن المشرعين كانوا ارتكبوا نفس الخطأ الذي وقعوا فيه مع النظام الأوربي العام لحماية البيانات GDPR، على الرغم من بعض العناصر الإيجابية الذي يتضمنها قانون الذكاء الاصطناعي. فشل القانون، وفقًا لنائبين بارزين من حزب القراصنة، باتريك براير Patrick Breyer ومارسيل كولاجا Marcel Kolaja، في معالجة خطر الاستخدام المعمم لتكنولوجيا التعرف على الوجه واعتماد أجهزة البوليس على هذه التكنولوجيا «للكشف عن الجريمة ومنع وقوعها» أو «تحديد المجرمين المطلوبين للعدالة».

يشمل ذلك أيضًا عدم وجود عمليات تقييم ذاتي من طرف ثالث، وهيئة لفرض العقوبات والرقابة على شركات الذكاء الاصطناعي مثل Clearview AI، التي تُستعمل خدماتها في 24 بلدًا في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك أجهزة البوليس في الولايات المتحدة الأمريكية. تعد مقاولة Clearview AI في الواقع مثالاً ساطعًا على ما يمكن أن يحدث في حالة عدم تقنين الذكاء الاصطناعي وفرض الرقابة عليه: قامت المقاولة ببناء قاعدة بيانات ضخمة تضم 30 مليار صورة لأشخاص في جميع أنحاء العالم من وسائل التواصل الاجتماعي وملايين المصادر الأخرى، والتي تستخدمها لتدريب نموذج الذكاء الاصطناعي الخاص بها على تكنولوجيا التعرف على الوجه. والأكثر من ذلك، تمكنت المقاولة من استغلال ثغرات في القانون بنجاح: تجاهلت المقاولة غرامات الاتحاد الأوربي على أساس «أننا غير مقيمين في الاتحاد الأوربي»، وتمكنت من إلغاء غرامة بقيمة 7.5 مليون جنيه إسترليني فرضها مكتب مفوض المعلومات في المملكة المتحدة.

لكن المشاكل لا تتوقف عند هذا الحد في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة: تتجه أجهزة البوليس في كلا البلدين، بصرف النظر عن الشركات، إلى توسيع نطاق استخدام برنامج التعرف على الوجه في الأماكن العامة على الرغم من ارتفاع معدل الحالات الإيجابية الخاطئة، خاصة بين الأشخاص الملونين - وهي مشكلة أثارتها المنظمات غير الحكومية في كل من المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية على حد سواء. أدى ذلك إلى تنامي عدد الاعتقالات غير المبررة والتمييز ضد الأشخاص الملونين باعتبارهم لصوص. لا يعد ذلك خطأً وحسب، بل إن الاستخدام المباشر لتكنولوجيا التعرف على الوجه مع الكشف عن المشاعر يشكل أيضاً تكنولوجيا رقابة استبدادية لا مكان لها في النظام الديمقراطي. لا يمكن تصور مثال أفضل من مقاولة هيكفيشن للتكنولوجيا الرقمية Hikvision، التابعة لدولة الصين وموردة كاميرات المراقبة بالفيديو، التي تورطت بشكل خسيس في انتهاكات حقوق الإنسان ضد الإيغور ولا تزال كاميراتها مستخدمة في بعض بلدان أوربا (بما في ذلك، بشكل صادم، أوكرانيا) وفي المملكة المتحدة.

على اليسار أن يرفض حتى التشريعات المخففة وأن يواصل الضغط لوضع قوانين أكثر صرامة بما يضمن عدم تهرب شركات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي من الامتثال للقانون. ويشمل ذلك سد الثغرات، وتحسين جودة تقييم أخلاقيات التكنولوجيا والتحلي بالشفافية بشأن كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي ومصادر البيانات المستخدمة لتكنلوجيا تدريب أشكال نموذج اللغة الكبير LLMs. يتضمن ذلك خاصة إنهاء استخدام الذكاء الاصطناعي في أنظمة الرعاية الاجتماعية والعدالة التي تستخدم خوارزميات توقعية بحق مواطنيها. يُعد استخدام الذكاء الاصطناعي لمكافحة الاحتيال في مجال الرعاية الاجتماعية أحد الأمثلة على ذلك، إذ اتضح بالفعل ممارسته تمييز ضد الأشخاص على أساس الإثنية والجندر، مع ارتفاع معدل النتائج الإيجابية الخاطئة. لا يعني ذلك ضربًا من الخيال، بل مشروعًا تعمل هولندا والحكومة الائتلافية اليسارية في إسبانيا (التي تعتبر نفسها رائدة الذكاء الاصطناعي العقلاني والأخلاقي) على تنفيذه بفاعلية. وآمل ألا أكون بحاجة إلى تأكيد ضرورة حظر شركات مثل هيكفيشن للتكنولوجيا الرقمية Hikvision كلياً.

تبدو حكومة أوكرانيا لسوء الحظ، عازمة على تكرار نفس الأخطاءبالإضافة إلى استخدام هيكفيشن للتكنولوجيا الرقمية المذكور، قدم نواب عديدون من حزب خادم الشعب Servant of the People (حزب ليبرالي مؤيد لأوربا في أوكرانيا) القانون 11031 «بشأن النظام الموحد للمراقبة بالفيديو لاستتباب الأمن العام» في شباط/فبراير عام 2024. قد يتيح هذا القانون إمكانية اطلاع أجهزة البوليس دون قيود على أنظمة كاميرات المراقبة المثبتة في الأماكن العامة، وإنشاء نظام مراقبة فيديو مندمج بالكامل، وإرساء الأسس لتطبيق مسح آلي أدق (أي استخدام الذكاء الاصطناعي لأغراض متعددة) وجمع كميات هائلة من البيانات عن المواطنين والمقيمين. أدان معهد المعلومات الجماهيرية l’Institut de l’information de masse (IMI https://imi.org.ua/en/) عن حق هذا القانون لافتقاره إلى الضمانات اللازمة ولخلق أدوات رقابة جماعية باستخدام تكنولوجيا التعرف على الوجه في الحياة اليومية، مستشهدًا بمترو أنفاق لندن كنموذج على عمل مثل هذه الأنظمة على مفاقمة حدة التمييز.

الحكامة الإلكترونية والحقوق الشاملة

إذا أراد اليسار الاشراف على حكومة تعمل لصالح الأغلبية وليس الأقلية، فعليه اعتماد أحد العناصر الأساسية المتمثلة في ضمان شفافيتها ومواجهة التحديات الجديدة للحكامة والحقوق الأساسية.

نشهد عصرًا أصبحت فيه التكنولوجيا والوصول إلى الخدمات عبر شبكة إنترنت جزءًا لا يتجزأ من حياتنا، مما يمثل قدرة هائلة لخفض تكاليف تدبير الخدمات ولاستثمار الأموال في مجالات أخرى مهمة من مجالات الحكامة. تُظهر حالتا إستونيا وأيسلندا الحاجة الملحة لاستخدام هذا التحول الرقمي، حيث يؤدي هذا الأخير إلى تحسين الخدمات العامة ونيل رضا السكان إلى حد كبير.

يكتسي التعليم أهمية أيضاً: سيكون كل تحول رقمي عديم الجدوى، ما لم يعرف الناس كيفية استخدام التكنولوجيا بشكل أمثل. لا يزال الناس على سبيل المثال، حتى مع تطبيق قانون النظام الأوربي العام لحماية البيانات (GDPR) الذي ينص على ضرورة حصول المواقع الالكترونية على موافقة لتتبع الأشخاص عبر ملفات تعريف الارتباط، ينقرون عليها دون فهم العواقب المترتبة على ذلك، وفقًا لبينيت سيبرز Bennett Cyphers  من مؤسسة التخوم الإلكترونية.

لكن هذه ليست القضايا الوحيدة التي يجب حلها. يجب أن يكون إنترنت سريع ورخيص الثمن، وتثقيف تكنولوجي عالي الجودة عنصرين مهمين آخرين للتحول الرقمي. عادةً ما يتحدث اليسار عن إتاحة شبكة إنترنت في كل منزل بمجرد القول «لنعمل على تأميمها بالكامل»، كما كان الحال مع بيان حزب العمال البريطاني في عام 2019. تعد هذه السياسة جديدة وضرورية من الناحية النظرية: تأخرت المملكة المتحدة إلى حد كبير عن غيرها من بلدان أوربا في تزويد السكان بشبكة إنترنت سريعة.  مع ذلك، ينطوي التأميم الكامل أيضًا على خطر زيادة فرص الدولة في فرض رقابة جماعية عبر مقدمي خدمات إنترنت (FAI). وكبديل، يعمل النموذج السويدي، الذي توفر فيه البلديات أو الدولة بنيات تحتية مثل الألياف البصرية والكابلات، ويتصرف مزودو خدمات إنترنت كشركات خاصة (والتي قد تكون أيضًا تعاونيات!)، لا على تأمين وحسب اللامركزية المناسبة للسلطات وخدمات للسكان، بل أيضًا ارساء حواجز لمنع فرض الدولة رقابة جماهيرية.

تعد المكتبات العامة وغير الربحية، بالإضافة إلى الحق في الوصول إلى شبكة إنترنت، العمود الفقري للتعليم ومحو الأمية في أي مجتمع. باتت هذه المكتبات، مع التحول المتسارع للكتب والموسيقى والأفلام والعديد من وسائل الإعلام المطبوعة الأخرى إلى نسخ إلكترونية، ضرورية على شبكة إنترنت لأنها تتيح لمن لا يستطيعون حيازة نسخة ورقية من كتاب ما حصولهم عليها بشكل رقمي. ويُشكل أرشيف الإنترنت (https://archive.org/details/europeanlibraries?sort=-week)، بمجموعة تضم 37 مليون كتاب، نموذجًا مثاليًا لنوع المكتبة التي على كل مجتمع تقدمي السعي إلى إنشائها. مع ذلك، تعرّضت في السنوات الأخيرة لهجوم من الناشرين الذين يزعمون أن نموذج عمل أرشيف الإنترنت ينتهك قوانين حقوق النشر الخاصة بهم ويمثل شكلاً من أشكال «القرصنة الرقمية».

يكمن السبب الحقيقي في استفادة الناشرين من الوضع الراهن. يستخدم أرشيف الإنترنت نموذج الإعارة الرقمية الخاضعة لمراقبة المكتبات (Controlled Digital Lending by Libraries : CDL)، حيث يقومون برقمنة النسخ الورقية لإتاحتها في المكتبة، ثم اعارة الكتب المرقمنة في شكل إلكتروني مثل أي مكتبة أخرى. يعمل الناشرون في الوقت نفسه على توظيف كبار مزودي التكنولوجيا لتوزيعها وإرفاق نظام إدارة الحقوق الرقمية DRM بالوسائط - برمجيات تقنن ما يمكن للمستخدم فعله بالوسائط المشتراة، مثل نسخها إلى جهاز آخر في ملكيتكم-  مما يجبر المكتبات على دفع رسوم ترخيص عالية لاستئجار الكتب الرقمية. وبالتالي يرى الناشرون أن الإعارة الرقمية الخاضعة لمراقبة المكتبات CDL تشكل تهديدًا خطيرًا على أرباحهم، وقد اضطر أرشيف الإنترنت بالفعل إلى سحب 500000 كتاب. تصوروا لو كان ذلك يحدث مع مكتبة عامة محلية؟

يجب أن يكمن رد اليسار في تكييف السياسة الرئيسية لأحزاب القراصنة: إصلاح حقوق النشر. وبشكل أكثر تحديدًا: يجب أن يكون المبدعون قادرين على التحكم الشامل بالمحتوى الخاص بهم والحصول على مكافأة وتعويض عادل، ويلزم تعزيز تراخيص المشاع الإبداعي Creative Commons على المستوى الوطني، كما يجب أن يكون نسخ الأعمال الأدبية والفنية وتخزينها واستخدامها والحصول عليها لأغراض غير تجارية محمية بموجب القانون. كما يجب حظر نظام إدارة الحقوق الرقمية (DRM) بشكل صريح، إذ لا يجوز أن تقرر الشركات ما يمكن للزبائن فعله بالوسائط التي اشتروها بشكل قانوني. كما ينبغي دعم أرشيف الإنترنت والمكتبات المماثلة بشكل صريح، والسعي إلى أن تكون المكتبات الرقمية العامة متاحة كلياً لجميع المواطنين والمقيمين.

المصدر المفتوح [يستخدم المصطلح عادة ليشير إلى شيفرات البرامج المتاحة للعموم دون قيود الملكية الفكرية.-ويكيبديا] وشفافية البيانات لبناء الثقة

تعد البرمجيات الحرة والمفتوحة المصدر (Free open-source software FOSS ضرورية لإرساء السيادة الرقمية دون الاعتماد على برمجيات خاصة احتكارية [غير حرة] يتحمل مؤلفها وحده مسؤولية مصيرها. سيتمكن المواطنون، بالإضافة إلى ذلك، من الاطلاع بأنفسهم على كيفية تشغيل الخدمات الرقمية واقتراح التغيرات التي من شأنها تحسين جودتها.

عبرت أحزاب القراصنة صراحةً عن ضرورة إحداث خدمات حكومة إلكترونية تتيح وصول المواطنين إليها بشكل أفضل،وأصرت على استخدام برمجيات مفتوحة المصدرانتهجت بعض بلدان أوربا هذا المسار منذ البداية (إستونيا وأيسلندا، على سبيل المثال)، وسعت أوكرانيا عن حق إلى حذو حذوها بتحويل معظم خدماتها العامة إلى النظام الرقمي. أدى ذلك إلى إنشاء نظام ”ديا“ Diia6 الذي يستخدمه أكثر من 21 مليون أوكراني، وفقًا للإحصاءات الرسمية.

يلزم قول بصفتي مراقبًا، أن تطبيق ديا Diia مفيد جدًا وعملي، خاصة بالنسبة للاجئين الأوكرانيين. أعرف شخصياً بعض من غادروا البلد منذ بداية الحرب بدون أوراق ثبوتية لأسباب عديدة، لكن لم يظلوا بدون أوراق ثبوتية بفضل النسخ الرقمية لهذه الوثائق في تطبيق ”ديا“. تكمن المشكلة في أن وزارة التحول الرقمي في أوكرانيا قررت عدم جعل التطبيق مفتوح المصدر، على عكس إستونيا، ولم تكن معالجة بياناته وهيكلته شفافة تماماً - مما أدى إلى قيام عدة خبراء في الأمن السيبراني في أوكرانيا بنشر رسالة مفتوحة من 22 نقطة إلى الوزارة حول تطبيق ديا Diia. يلزم إعطاء كل ذي حق حقه، وبالتالي، قام ميخائيلو فيدوروف Mykhailo Fedorov ، في آخر المطاف، بتغيير موقفه (على الرغم من رد نائبه بشكل مراوغ في البداية) وبدأ في أيار/مايو عام 2024 في نشر عناصر من Diia ديا للعموم في عام 2024.

لكن يسار أوربا، لسوء الحظ، لا يساهم حقًا في هذه القضية: دعم تشريع eIDAS7 الذي لا يعد خدمة احتكاري [غير مجانية] وحسب، بل يسمح أيضًا بمشاركة بيانات الهوية مع كبرى شركات التكنلوجيا في حين أن ذلك غير ضروري تمامًا ولا يؤدي إلا زيادة الخضوع لتبعية هذه الشركات. بالإضافة إلى ذلك، دعم التحالف التقدمي للاشتراكيين والديمقراطيين مجال تنظيم البيانات الصحية الأوربية، التي تمنح شركات التكنولوجيا والأدوية إمكانية الوصول الكامل إلى البيانات الصحية للمواطنين دون أخذ موافقتهم ودون إمكانية رفضهم. لكن إذا كانت هذه البيانات مفيدة للغاية للأبحاث الطبية وغيرها من الأبحاث في المجالات الرئيسية، يجب عدم مشاركتها دون موافقة المعنيين.

تُعد آيسلندا نموذجاً لنظام شفاف وديمقراطي حقاً في تدبير بيانات المواطنين المخزنة وتقديم خدمات عامة. قام هذا البلد بعمل مذهل في تعزيز استخدام البرمجيات مفتوحة المصدر، حتى أنه جعل المساواة في استخدام البرمجيات مفتوحة المصدر والحرة في مجال الخدمات العامة سياسة حكومية رسمية. ونتيجة لذلك، تستخدم نسبة 90% من أنظمة المعلومات الحكومية في القطاع العام برمجيات مفتوحة المصدر، واصبحت كمية البيانات التي تخزنها الحكومة عن مواطنيها متسمة بالشفافية.ويكمن مثال إيجابي آخر في نموذج ألمانيا، التي أحلت بـليبر أوفيس LibreOffice مكان مايكروسوفت أوفيس Microsoft Office  في آلاف أجهزة الكمبيوتر الخاصة بها بعد اختراق البيانات.

على الحكومات اليسارية انتهاج نفس المسار، إذ بالإضافة إلى جعله أكثر انفتاحاً وشفافية، ثمة سبب بسيط يصب في صالح القضية الاشتراكية. إذا أُنفقت الأموال العامة لتقديم الخدمات الرقمية، فيجب أن تشكل البرمجيات مفتوحة المصدر أفضل خيار ممكن.

وفي نهاية المطاف، «المال العام، الكود code العام».

لماذا لا تزال هذه السياسات مهمة، على الرغم من النتائج السلبية التي حققتها أحزاب القراصنة الأخيرة في الانتخابات الأوربية؟

وجّهت نتائج انتخابات البرلمان الأوربي الأخيرة ضربة قاصمة لمجموعة حزب القراصنة في أوربا، التي فقدت 3 من أصل 4 أعضاء في برلمان أوربا. وهذا على الرغم من تعزيز سياسات التكنولوجيا التي استفاد منها المواطنون العاديون: الحق في إصلاح الأجهزة الإلكترونية، وقانون الأسواق الرقمية، وتعديل قانون الذكاء الاصطناعي وقانون الخدمات الرقمية، ودعم النظام الأوربي العام لحماية البيانات RGPD (حتى بعيوبه) - والذي أتاح اكتساب مزيد من الوعي بكيفية التعامل مع البيانات الشخصية للأشخاص - والعمل الذي قامت به للضغط باتجاه مزيد من فرض رقابة على البيانات الخاصة.

تحظى أفكار أحزاب القراصنة بدعم سكان أوربا بشكل عام، على الرغم من هذه النتائج الانتخابية المخيبة للآمال. اتخذت نسبة 78% من سكان ألمانيا خطوات لحماية بياناتهم الشخصية منذ بدء العمل النظام الأوربي العام لحماية البيانات RGPD، بينما ترى نسبة 74% من سكان فرنسا ضرورة فرض رقابة على البيانات الشخصية على شبكة إنترنت. ويعتقد ما يفوق نسبة 80% من شغيلة وسائل الإعلام في جمهورية التشيك، وهي أحد معاقل حزب القراصنة، أن شركات التكنولوجيا تجمع معلومات كثر عن الأشخاص، وأن من حق المواطنين معرفة طريقة التعامل مع بياناتهم. وفي آخر المطاف، في استطلاع عام 2022، أعربت نسبة 64% من مواطني الاتحاد الأوربي عن دعمهم لقانون الخدمات الرقمية.

لماذا إذن تكبد القراصنة هذه الهزيمة النكراء، في حين أن سياساتهم الأساسية تحظى بدعم شعبي؟ أعتقد أن الأسباب تعود إلى أحزاب القراصنة بالذات، والبرنامج التي تنتهجها ونزاعاتها الداخلية العديدة التي يعلمها الجمهور بفضل شفافيتها.

لم يتأسس حزب القراصنة بأي وجه لمنافسة الأحزاب التقليدية المنتمية إلى اليسار أو الوسط أو اليمين، وكانت سياساته دوماً مرتكزاً بشكل وثيق على التكنولوجيا. على كل حال، توجد أيضًا حجج داعمة للمصدر المفتوح والشفافية في أوساط بعض سياسيي الوسط ويمين الوسط: عندما يتعلق الأمر بالسياسات التي لا علاقة لها بالتكنولوجيا، فنادراً ما كان القراصنة يتمتعون بأساس مشترك وكانوا يشتغلون كإطار جامع لمن يشاطرون أفكارهم. على كل حال، توجد أيضًا حجج مؤيدة للمصدر المفتوح والشفافية في أوساط بعض سياسيي الوسط ويمين الوسط: كانت أحزاب مثل حزب الوسط والإصلاح في إستونيا تضغط لتحقيق خدمات حكومية رقمية منذ سنوات 1990، وفي أوكرانيا، ركزت حكومة زيلينسكي Zelensky  أيضًا جهودها على نقل الخدمات العامة إلى المجال الرقمي.

يفسر ذلك سبب عدم تحقيق أحزاب القراصنة سوى نجاح انتخابي متواضع على المستوى الوطني عندما كان برنامجها السياسي متمحورا وحسب حول سياسة التكنولوجيا، ولم يكن هناك ما يؤكد القاعدة سوى استثناءين وحيدين هما حزبي القراصنة في آيسلندا والتشيك. تمكن الحزبان إلى حد ما من التحول إلى حزبين تقليديين وصياغة مواقف متماسكة إلى هذا الحد أو ذاك بشأن معظم جوانب الحكامة. وبينما أصبح قراصنة أيسلندا حزبًا ديمقراطيًا اشتراكيًا كلاسيكيًا، يدعم بشدة فرض الضرائب التصاعدية والدخل الأساسي الشامل (لا يزالون حريصين على إبقاء هذا الموضوع في مقدمة النقاشات)، تبنى قراصنة التشيك مقاربة ذات طابع أكثر وسطية. وبالتالي أصبح قراصنة آيسلندا قوة معارضة مهمة في البرلمان، حيث فازوا بما يناهز نسبة 10% من الأصوات في آخر 3 انتخابات عامة منذ عام 2016، كما أضحى قراصنة التشيك لأول مرة في تاريخ أحزاب القراصنة أعضاء في الحكومة في عام 2021. حقق حزب القراصنة في ألمانيا حتى عام 2016 بعض النجاحات أيضًا، إلا أن زواله بسبب نزاعات داخلية وانعدام الخبرة، ثم مصرع أحد أعضاء الحزب بشكل مروع على يد عضو آخر بالإضافة إلى انتحار هذا الأخير، لم يتح له بأي وجه فرصة التعافي بشكل سليم.

فما الذي حدث هذا العام؟ بدايةً، تضرر القراصنة من نتائج الانتخابات الكارثية التي حققها تحالف الخضر، المنتمين إليه. حتى أن الحصيلة الانتخابية الجيدة لباتريك براير Patrick Breyer عضو البرلمان الأوربي، الذي كان أبرز الأصوات المؤيدة للسياسات التكنولوجية التقدمية والديمقراطية، لم تساعد خليفته في الاحتفاظ بمقعده البرلماني.

لكن ليس إنصافاً إلقاء كل اللوم على حزب الخضر. يتيح تحوّل حزب القراصنة إلى حزب مبني عمومًا على الأفكار السائدة فرصة أن يصبح حركة أوسع، لكن لذلك أيضًا عواقب تهدد ”نواة“ الحركة (ما لم تمكن من الاخلاص لمواقف القراصنة). بينما حقق قراصنة آيسلندا نجاحًا في هذا التحول، يعد حزب قراصنة التشيك نموذجًا على مدى التخبط الذي قد يكون عليه هذا التحول. على الرغم من النجاح الانتخابي الذي حققه الحزب مقارنة بمعظم أحزاب القراصنة الأخرى وتحوله إلى أول حزب قراصنة يشكل الحكومة، فإن الزعيم الحالي إيفان بارتوس Ivan Bartos جعل الحزب يتجه نحو الوسط، ويقبل أشخاصاً يسعون إلى استمالة الجماهير ولا يهتمون حقاً بالمواقف الأساسية للقراصنة. من الواضح أن ذلك لا يحظى بقبول ”نواة “ القراصنة. أما بالنسبة للقراصنة الألمان، تسببت اتهامات التحرش الجنسي ضد أعضائه القياديين وعدم الرد عليها في إلحاق الضرر بالقراصنة الألمان، ولا تزال الانشقاقات والانسحابات متواصلة حتى اليوم. ومن المفارقة أن ما ينادي به القراصنة ويمارسونه من انفتاح وشفافية تامين يأتيان بنتائج عكسية عندما يتدخلون في النزاعات الداخلية، مما يكشف انقساماتهم ويثير نفور الناخبين.

يرى البعض في آخر المطاف، على حد ملاحظتي الشخصية، فشل القراصنة في خلق جيل جديد من السياسيين والمناضلين الذين سيواصلون حمل الراية إلى مدى أبعد، في حين يتقدم الجيل الحالي في العمر ويفقد طاقته. لا يعني ذلك عدم اهتمام الشباب بمسائل التكنولوجيا، لكنها لا تأتي في مقدمة اهتماماتهم السياسية حسب وجهة نظرهم، وبالتالي يرون من الأكثر منطقية الانضمام إلى الأحزاب التقليدية سواءً كانت يسارية أو وسطية أو يمينية والدعوة إلى تبني سياسات تكنولوجية مواتية داخلها.

إذن، إلى أين يؤدي ذلك بالقراصنة في آخر المطاف، وماذا على اليسار القيام به؟

ستواجه حركة القراصنة تحديات في المستقبل، بعد خسارة حزب القراصنة نسبة 75% من أعضائه في البرلمان الأوربي مما يزيد من الضغط على عضو البرلمان الأوربي الوحيد في حزب القراصنة، ماركيتا غريغوروفا Markéta Gregorová، ومع توقع بعض المعلقين نهاية أحزاب القراصنة. وآمل شخصيًا، بصفتي من أشد المؤيدين لأفكارهم، أن تتمكن الحركة والأحزاب من إعادة اكتشاف نفسها وتصبح بالأقل قوة معارضة ذات مصداقية في جميع أنحاء أوربا مستقبلاً.

مع ذلك، تعد هذه فرصة فريدة من نوعها لليسار ليتولي زمام المبادرة ويصبح في طليعة الأصوات المدافعة عن السياسات التكنولوجية التقدمية، من خلال إحياء هذه الأخيرة بما يعود بالفائدة ليس على الشركات ووكالات الإعلان المهتمة بتحقيق الأرباح، بل على المواطنين العاديين. ستتضمن هذه السياسات ما يلي:

- تيسير الاستفادة من الخدمات العامة التي لا تشكل ضغطًا على ميزانيات المواطنين؛

-الشفافية في الحكامة وفي طريقة تقديم خدماتها واستعمال البيانات المخزنة عن مواطنيها؛

- حماية خصوصية المواطنين واعتبارها حقًا أساسيًا من حقوق الإنسان؛

- رفض قاطع لسياسات فرض رقابة دون تمييز  ومعارضة التكنولوجيات التي تتيح ذلك.

 

سيكون من الأجدى أيضًا الاشتغال والتعاون مع منظمات مثل La Quadrature du Net أو منظمة الحقوق الرقمية الأوربية EDRi أو مؤسسة التخوم الإلكترونية EFF أو مجموعة الحقوق المفتوحة Open Rights Group، ومع سياسيي ومناضلي حزب القراصنة.

إذا كان الاشتراكيون الديمقراطيون والاشتراكيون يسعون حقًا إلى خلق مجتمع عادل ومنصف، فعليهم أيضًا تولي زمام المبادرة في القيام بذلك في قطاع التكنولوجيا. لا توجد أفضل لحظة من الوقت الحالي لتحقيق ذلك.

 

3 تموز/يوليو عام 2024

مصدر:

https://commons.com.ua/en/livi-povinni-zminiti-pidhid-do-tehnologichnoyi-politiki/

 

  • 1

    تعني  «Merdification» التدهور في الجودة الذي يؤثر تدريجيًا على المنصات الرقمية التي تعمل في سوق ثنائية الجانب، على سبيل المثال تلك التي تحشد المستعملين ومقدمي الاعلانات على حد سواء. في المقال الأصلي «enshittification». 

  • 2

    كان تحالف الديمقراطيين والليبراليين من أجل أوربا ALDE مجموعة سياسية في البرلمان الأوربي تضم حزبين ليبراليين ووسطيين: حزب الليبراليين والديمقراطيين من أجل أوربا ALDE والحزب الديمقراطي الأوربي PDE. تأسس في عام 2004 واختفى في عام 2019 ليحل مكانه حزب تجديد أوربا Renew Europe  .  يعد حزب الشعب الأوربي PPEحزبا سياسيا أوربيا من يمين الوسط يمينيا مستوحى من الأحزاب المسيحية الديمقراطية والمحافظة. ECR : المحافظون والإصلاحيون الأوروبيون. ECR: تجمع سياسي على مستوى القارة يضم أحزابا أوربية ذات خلفية شكوكية ترى تشكيل اتحادات سياسية بين الدول الأوروبية مثل الإتحاد الأوربي مشروعاً فاشلاً تتراوح بين اليمين واليمين المتطرف.

  • 3

    تقدم عمالقة شركات التكنولوجيا تبرعات للمرشحين الليبراليين في الانتخابات الأوربية.

  • 4

    ) ”ترجمة ملف ”التحكم في المحادثات على إنترنت 2.0" باتريك براير Patrick Breyer ، أيار/مايو عام 2023. الرابط

    https://iloth.net/2023/05/traduction-du-dossier-chat-control-2-0-de-patrick-breyer/

  • 5

    (Employee Data Protection Act https://privacymatters.dlapiper.com/2024/01/germany-new-legislative-procedure-for-an-employee-data-protection-act/)

  • 6

    [تمثل Diia اختصاراً للعبارة (الحكومة وأنا) بالأوكرانية وهي تطبيق الكتروني للهواتف الذكية وبوابة ويب وعلامة تجارية للحكامة الإلكترونية في أوكرانيا-المترجم].

    (https://ukraine.ua/invest-trade/digitalization/)

  • 7

    خدمات تحديد الهوية والمصادقة والثقة الإلكترونية eIDAS: قانون الاتحاد الأوربي بشأن خدمات تحديد الهوية الإلكترونية وخدمات الثقة للمعاملات الإلكترونية في الإتحاد الأوربي