نقترح في هذا المقال تحليل تطور فكر لينين السياسي بصدد المسألة القومية، وخصوصيتها وموقعها الاستراتيجي، وما اقترح لحلها الديمقراطي من خيارات مختلفة (الانفصال، الفدرالية، الحكم الذاتي). ونميز بشكل أساسي ثلاث أطوار رئيسة، مرتبطة بحقب تاريخية مختلفة، وحالات مميزة ومناقشات - خاصة مع روزا لوكسمبورغ، لكن أيضًا مع الماركسية النمساوية والبوند ومع أعضاء حزبه - وصولًا إلى أفكاره ومقترحاته النهائية حول البناء المطبوع بالصراع لما كان سيصبح الاتحاد السوفييتي الجديد. ونحن نعتبر أن تحليل تأملاته الفكرية ومقترحاته لا يزال مناسبًا لمعالجة هذه المسألة المثيرة للجدل ولكنها حقيقية جدًا في العديد من الصراعات التي تخترق كوكبنا.
1 - - من الأممية الثانية إلى النضال ضد خطر الحرب
ننطلق، بالطبع، من كون لينين يتناول هذه المسألة ضمن الإطار العام الذي وضعته تأملات ماركس وإنجلز بصدد هذا الموضوع، وكذلك المناقشات الحية التي شهدتها الأممية الثانية، وبوجه خاص العبارات التي غدت مراجع مبدئية، مثل جمل إنجلز في العام 1847 (”لا يمكن لأمة أن تنال الحرية وتستمر في الآن ذاته في اضطهاد أمم أخرى“1)) ولاسيما في العام 1882، عندما قال إن ” لا يمكن للبروليتاريا الظافرة أن تفرض أي سعادة على شعب آخر دون أن تقوض بذلك نصرها الخاص“ 2. كانت رؤية تطورية للتاريخ في البداية، تثق في التجاوز التدريجي للتناقضات القومية مع تقدم الاشتراكية كما قالا في البيان الشيوعي- مصحوبة بدفاع صريح عن حق بولندا وإيرلندا في الاستقلال، وتنفتح تدريجيًا على تصور متعدد الخطوط للتاريخ بقدر ما يُبديان اهتمامًا متناميا بدراسة المجتمعات غير الغربية3.
وسيؤثر موقفهما من الصراعات، كالتي جرت في بولندا وإيرلندا، على مناقشات الأممية الثانية، وينعكس في الإجماع الحاصل في مؤتمر لندن عام 1896 المعلِن أن الأممية ” تساند حق جميع الشعوب الكامل في تقرير مصيرها، وتعرب عن تعاطفها مع عمال أي بلد يرزح الآن تحت نير الحكم العسكري أو القومي أو غيره “. ومع ذلك، كان مقررا مصادقا عليه ”ضمن عدم فهم ولامبالاة تامين“ 4.
كان هذا أيضًا موقف حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي في مؤتمره الثاني في العام 1903 ( المدافع في مادته 9 عن ”حق جميع الأمم في تقرير مصيرها ، بما في ذلك تلك التي على حدود الدولة“). وقد تبنى لينين هذا التوجه بجلاء، كما يتضح من مقاله ”المسألة القومية في برنامجنا“، المنشور في 15 يوليو 1903 (ضمن كتاب لينين، نصوص حول حول المسألة القومية ، ترجمة ج. طرابيشي –دار الطليعة .1972): دافع فيه عن حق تقرير المصير، بما هو الحق في الانفصال، دون أن يكون مع ذلك مؤيدًا لدفاع حزبه عن هذا الخيار، موضحا في جدل مع قادة الحزب الاشتراكي البولندي أنه يجب ألاّ يُؤيَّدَ الانفصال ”سوى في حالات معزولة وكاستثناء“.كما أنه لم يكن يؤيد الفيدرالية، إلا في حالات معزولة، على عكس كاوتسكي المناصر لدولة مركزية ”غير إمبريالية“. وبالنحو ذاته، أيد المركزية الديمقراطية داخل الحزب، على عكس المقترحات الفيدرالية للاشتراكيين الديمقراطيين على أطراف الإمبراطورية القيصرية 5 أو الحكم الذاتي لدى البوند.
2. من الحرب العظمى إلى الثورة الروسية عام 1917
تناول لينين هذه المسألة بنحو أعمق منذ العام 1913 بوجه خاص ، معتبراً أنه من الواضح أننا دخلنا مرحلة تاريخية مختلفة عن التي عاشها ماركس وإنجلز، وأن التمييز بين ”الشعوب ذات تاريخ“ و”الشعوب التي لا تاريخ لها“ لم يعد له معنى. وأكد وجوب الدفاع عن تساوي حقوق الشعوب وبالتالي حقوق الأقليات القومية داخل الدول القائمة، دون خضوع لاعتبار حدودها طبيعيةً.
وهكذا أكد لينين، في مقال ”الطبقة العاملة والمسألة القومية“، في مايو 1913،6 (الصفحة 47 من ترجمة طرابيشي) أن "البروليتاريا هي وحدها التي تدافع اليوم عن حرية الأمم الحقيقية وعن وحدة عمال جميع الأمم . وحتى يتاح لأمم مختلفة أن تعيش معا أو تنفصل (متى كان الانفصال انسب لها ) لتشكل دولا متمايزة ، وهذا في ظل الحرية والسلام، فلا بد من الديمقراطية الكاملة التي لا تجد نصيرا لها في غير الطبقة العاملة . يجب ألا يكون هناك أي امتياز لأي أمة ، ولا لأي لغة، ويجب ألا يكون هناك أي تنغيص وأي جور تجاه الأقليات القومية . تلكم هي مبادئ الديمقراطية العمالية"
وتظهر هذه الأفكار بشكل منهجي أكثر في مقالته ”ملاحظات انتقادية حول المسألة القومية“ التي كتبها بين أكتوبر وديسمبر 1913 (لينين، الجزء 5 من مختارات في 10 اجزاء-دار التقدم -1976). وقد قدم فيه سويسرا مثالا على احترام التعددية اللغوية وممارستها، مع إعادة تأكيد دفاعه عن حق تقرير المصير، بمعنى الحق في الانفصال وليس في الفيدرالية أو اللامركزية، حيث أكد على ضرورة دولة قائمة على المركزية الديمقراطية. ساجل أيضًا في هذا المقال البوند، رافضًا فكرة ”ثقافة قومية“ يهودية، وكذا على عكس أوتو باور7 فكرة ”الاستقلال الذاتي القومي الثقافي“ كخيار للمطالبة به، برغم اعترافه بكون ”الأمة العبرية“ هي ”الأكثر تعرضًا للتعسف والاضطهاد“8.
وأبدى في السنة ذاتها اهتماما متناميا بهذه المسألة، بدءًا من تأثير الثورة الروسية عام 1905 على شعوب الشرق، كما يتجلى في مقاله ”يقظة آسيا“ 9. حيث يقول: ”في أعقاب الحركة الروسية في عام 1905، انتشرت الثورة الديمقراطية في جميع أنحاء آسيا: تركيا، وبلاد فارس، والصين. وهناك هياج كبير في الهند الإنجليزية (...) وفي الهند الهولندية“.
وفي وقت لاحق، ساجل في مقاله ”عن حق الأمم في تقرير مصيرها“ الصادر في شباط/فبراير - أيار/مايو 191410، روزا لوكسمبورغ مؤكدا على الدفاع عن حق تقرير المصير بما هو حق في الانفصال و”تشكيل دولة وطنية مستقلة“، مع توضيح أن البروليتاريا تُخضع المطالب القومية لمصالح النضال الطبقي. وهذا يستتبع ضرورة تكتيك متمايز إزاء برجوازية الأمة المستعبَدة:
”بقدر ما تكافح بورجوازية الأمة المستعبَدة ضد الأمة المسيطرة، بقدر ما نحن نؤيده [حق الانفصال] دائماً، في كل الأحوال وبنحو أكثر حزماً من غيرنا، لأننا أشد أعداء الاضطهاد جرأة وثباتاً. وبقدر ما تكون بورجوازية الأمة المستعبدة مع قوميتها البرجوازية فنحن ضدها. نضال ضد امتيازات الأمة المسيطرة وعنفها؛ ولا تسامح مع السعي إلى امتيازات من جانب الأمة المستعبدة“. 11.
وبالمثل، وخلافاً لرأي الثورية البولندية، اعتبر لينين دعم الحركة العمالية السويدية لاستقلال النرويج، الذي تم الحصول عليه باستفتاء في عام 1905، أمراً مشروعاً، مستنداً في ذلك إلى موقف ماركس من المسألتين البولندية والأيرلندية، مع الاستمرار في الدعوة إلى ”وحدة عمال جميع الأمم“.
وقد انعكست هذه الاعتبارات داخل الإمبراطورية القيصرية، وبشكل ملموس في الأزمة التي نشأت في سياق الحرب العظمى بين الإمبرياليات. تجدر الإشارة في هذا السياق، إلى اهتمام لينين بالعلاقات الروسية الأوكرانية، كما يتضح من خطابه في زيورخ في 27 أكتوبر 1914. فقد ذكر أن ”ما كانت عليه أيرلندا بالنسبة لإنجلترا، أصبحت عليه أوكرانيا بالنسبة لروسيا، عرضة لأقصى استغلال، دون أن الحصول على أي مقابل“12. وهكذا، فإن مصالح البروليتاريا العالمية بشكل عام، ومصالح البروليتاريا الروسية بشكل خاص، تتطلب أن تستعيد أوكرانيا استقلالها كدولة، وهذا وحده سيمكنها من تحقيق التطور الثقافي الذي لا غنى للبروليتاريا عنه“13.
أعاد، نتيجة هذا، التنديد بالإمبراطورية الروسية بما هي "سجن للشعوب" (Lénine, 1976c : 215)، فوصف القيصرية، في ”الاشتراكية والحرب“ الذي كتبه في يوليو وأغسطس 191514، بأنها ”إمبريالية عسكرية وإقطاعية“، وذهب إلى حد التأكيد على أنه: ”لا يوجد مكان في العالم تقمع فيه غالبية السكان كما هو الحال في روسيا”. لهذا السبب يبدو الدفاع عن حق تقرير المصير، أي الانفصال، مهمة لا مناص منها بالنسبة للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في البلدان المسيطرة، على الرغم من أنه يجب أن يندرج في طريق ”تشكيل دول كبيرة واتحادات بين الدول، أكثر حرية وأماناً وبالتالي أوسع وأعم، وهو أعظم فائدة للجماهير ويطابق بنحو أفضل التطور الاقتصادي“.
وبالمثل، وفي مقاله ”الثورة الاشتراكية وحق الأمم في تقرير مصيرها“ الصادر في يناير-فبراير 191615، ومرة أخرى رداً على روزا لوكسمبورغ، رأى في النرويج مثالاً يوضح "قابلية تحقيق" حق تقرير المصير في ظل الرأسمالية دون حاجة إلى انتظار الظفر بالاشتراكية. فضلا عن ذلك، عرض هذه التجربة نفسها دفاعاً عن ”حرية الدعاية الكاملة لصالح الانفصال وحل هذه المشكلة عن طريق الاستفتاء داخل الأمة المنفصلة“، على الرغم من أنه كان ضد هذا الخيار لأنه:
”كلما كان نظام دولة ما الديمقراطي أقرب إلى حرية الانفصال الكاملة، كلما كانت الميول نحو الانفصال أكثر ندرة وأضعف، من الناحية العملية، لأن مزايا الدول الكبيرة، من وجهة نظر التقدم الاقتصادي ومصالح الجماهير على حد سواء، لا شك فيها، وهي تزداد باستمرار مع تطور الرأسمالية“ .
ولا يستبعد، في نفس المقال، الدفاع عن حق تقرير المصير حتى عندما يمكن أن تستولي عليه قوة ”عظمى“ أخرى:
" إن كون النضال في سبيل الحرية القومية ضد دولة امبريالية يمكن أن تستغله في ظروف معينة، دولة «كبرى» أخرى لأغراضها الامبريالية أيضاً ، أمر لا يمكن أن يُجبر الاشتراكية الديمقراطية على التخلي عن حق الأمم في تقرير مصيرها، مثلما لا يمكن للأمثلة العديدة حول استغلال البرجوازية للشعارات الجمهورية من أجل الخداع السياسي والنهب المالي ، في البلدان اللاتينية مثلاً ، أن تجبر الاشتراكيين الديمقراطيين على التنكر لنزعتهم الجمهورية".
وأعاد التمييز، في هذا المقال أيضا، بين ثلاث مجموعات كبرى من الدول والبلدان: 1- الدول المتقدمة في أوروبا الغربية والولايات المتحدة (حيث تضطهد كل واحدة من هذه الأمم "العظمى" أمما أخرى في المستعمرات و داخل البلد“)؛ 2- أوروبا الشرقية (حيث تتشكل هذه الحركات القومية المشروعة في سياق الإمبراطوريات الآفلة)؛ 3، الدول شبه المستعمرة وجميع المستعمرات (حيث تتشكل الحركات المناهضة للاستعمار تدريجياً ويجب دعمها) . وقد أعاد تأكيد هذا التمايز، ولاسيما في في سجال مع روزا لوكسمبورغ في ”بصدد الكاريكاتير عن الماركسية وبصدد "الاقتصادية الإمبريالية“"، الذي كتبه بين أغسطس وأكتوبر 191616.
أما روزا لوكسمبورغ فتؤكد في نص ”المسألة القومية والحكم الذاتي“ الذي كتبته عام 1908، بأن الدخول في المرحلة الإمبريالية يعني ”التطور نحو الدولة العظمى“، وبالتالي الحكم على جميع القوميات الصغيرة والصغيرة جدا بالضعف السياسي. وبالتالي، فمن الوهم في رأيها المطالبة بحقها في تقرير مصيرها، لأنه ليس لديها أي إمكانية لممارسته في مواجهة الدول الإمبريالية. وقد شاطر هذه الأطروحة كارل راديك وبوخارين وغورتر وغيرهم من الماركسيين الراديكاليين (بما في ذلك تروتسكي الذي كان موقفه ملتبسا). وقد عارض لينين هذا الموقف، منتقدًا خلطهم بين ”مسألة تقرير مصير الأمم السياسي في المجتمع البرجوازي، واستقلالها كدولة، ومسألة تقرير مصيرها واستقلالها الاقتصادي“ 17). وبالعكس، اعتبرت الثورية البولندية أن المهمة المركزية هي أن توضع في مقام أول النضالات الطبقية، المناهضة للاستعمار والإمبريالية. وبناء على هذا الموقف، وعلى تحليلها النقدي للحركة القومية البولندية، رفضت روزا لوكسمبورغ بشدة ليس فقط الدفاع عن حق بولندا في تقرير مصيرها، بل أيضًا موقف الاشتراكيين الديمقراطيين الروس في قرارهم الصادر عام 1903.
وعلى الرغم من تحفظاتها، لم تنكر المناضلة الاشتراكية الديمقراطية البولندية ضرورة أن يدافع العمال عن ”الأهداف الديمقراطية والثقافية للحركة القومية، أي إقامة مؤسسات سياسية تضمن، بالوسائل السلمية، التطور الحر لثقافة جميع القوميات التي تعيش معًا في دولة واحدة“. بيد أنها ساندت، في وقت لاحق، شعوب البلقان ضد الإمبراطورية التركية التي اعتبرتها غير قابلة للحياة، بل إنها في عام 1915، أصبحت تدافع عن حق تقرير المصير، رغم أنها لم تعتبره قابلاً للحياة في إطار الدولة الرأسمالية. باختصار، يمكننا أن نستنتج أن الثورية البولندية وقعت في تصور اقتصادوي للمشكلة القومية، ولم تفهم أن ”التحرر القومي للشعوب المضطهَدة كان أيضًا مطلبًا لكل الجماهير الشعبية، بما فيها البروليتاريا“ 18.
على العكس من ذلك، رأينا أن لينين أكد في مقالاته المتتالية على الدفاع عن الحق في تقرير المصير، أي الانفصال. وأقام، لأجل ذلك، تمييزًا واضحًا بين الأمم المسيطرة والأمم المستعبدة، وكذا بين مهام الاشتراكيين الديمقراطيين المختلفة في الأولى عما هي في الثانية: ففي حين يجب أن يكون التركيز في الأولى على الحق في الانفصال، يجب أن يكون التركيز في الثانية على الالتزام بالاتحاد الحر، على الرغم من أن تحليل كل حالة على حدة ضروري دائمًا.
وسيؤكد لينين، دائما في نقاش مع غالبية من قطعوا مع الأممية الثانية، كما يذكر بذلك كيفن ب. أندرسون 19، على الأهمية الإستراتيجية للحركات القومية المناهضة للإمبريالية. وينبع تصنيف لينين لثلاث مجموعات من البلدان بالتحديد من التحليل الأوسع والأعمق الذي طوره في كتاب ”الإمبريالية، أعلى مراحل الرأسمالية“ (يناير-يونيو 1916)؛ وهذا ما حدا به، على عكس مواقف مثل موقف كاوتسكي (الذي أغفل إدانة ضم ألمانيا للألزاس واللورين)، إلى التأكيد على أهمية المسألة القومية والاستعمارية، كما يمكن ملاحظة ذلك عندما يؤكد أن:
”إن الإمبريالية هي عصر رأس المال المالي والاحتكارات التي تثير في كل مكان ميولا نحو الهيمنة وليس نحو الحرية. رجعية على طول الخط، مهما كان النظام السياسي، وتفاقم أقصى للتناقضات في هذا المجال أيضاً: هذه هي نتيجة تلك الميول. وبالطريقة ذاتها، يتعزز بوجه خاص الاضطهاد القومي والميل إلى الضم، أي انتهاك اﻻستقلال القومي (ﻷن الضم ليس سوى انتهاك لحق اﻷمم في تقرير مصيرها “. (التشديد منا)
وتتمثل خطوة مهمة أخرى في مقاله ”خلاصة المناقشة حول حق الأمم في تقرير مصيرها“،كتبه في يوليو 191620. في هذا المقال، كما يوحي العنوان، قام بتقييم المناقشات التي دارت في السنوات السابقة، وشدد على حالتي النرويج والألزاس (ضد الضم)، ودحض حجج الذين يقتصرون على الدفاع عن حق تقرير مصير المستعمرات وحدها. وفضلا عن ذلك، ركز بشكل خاص على دعمه الحازم للانتفاضة الأيرلندية في عيد الفصح 1916، ضد أولئك الذين كانوا في صفوفه، مثل كارل راديك، انتقدوها باعتبارها مجرد ”انقلاب“ من قبل ”حركة قومية حضرية وبرجوازية صغيرة بحتة“.بنظر للينين، باتت هذه الانتفاضة الشعبية، بالعكس، مثالاً واضحًا على ما سبق أن أكد عليه في عمله حول عواقب الأزمة الإمبريالية في سياق الحرب الكبرى، لأنها ”توضح مع ذلك أن بؤر تمردات قومية، منبجسة في سياق أزمة الإمبريالية، قد اشتعلت في المستعمرات وفي أوروبا على حد سواء، وأن التعاطف القومي والكراهية القومية قد تم التعبير عنها على الرغم من التهديدات وتدابير القمع الصارمة“21. (التشديد في الأصل).
وفي يوليو 1916 أيضًا، كتب الزعيم البلشفي "بصصد كراس يونيوس"22 في إشارة إلى النص الذي نشرته روزا لوكسمبورغ في العام نفسه بعنوان ”أزمة الاشتراكية -الديمقراطية “ موقعا باسم مستعار، يونيوس. نلاحظ مرة أخرى في تعليقه رؤى مختلفة لمستقبل حروب التحرر الوطني. بعد الإشادة بالكتاب باعتباره ”عملًا ماركسيًا ممتازًا، قد تكون عيوبه إلى حد ما مصادفة“، يواصل مؤكدا أن ”العيب الرئيس [...] هو سكوت المؤلف عن الصلة بين الاشتراكية-الشوفينية [...] والانتهازية“.
ويعتبر أن ”توسيع نطاق الحكم على الحرب الحالية [يشير إلى الحرب العظمى التي بدأت في عام 1914] ليشمل جميع الحروب المحتملة في عصر الإمبريالية“ يعني ”نسيان الحركات الوطنية ضد الإمبريالية“ (التشديد في الأصل). في مقابل هذا الموقف، يرى أن ”الحروب الوطنية ليست فقط محتملة، بل حتمية في عصر الإمبريالية، من جانب المستعمرات وأشباه المستعمرات“ وأنه ”حتى في أوروبا، لا يمكن اعتبار الحروب الوطنية مستحيلة في عصر الإمبريالية“. ويصر على أن هذه الأخيرة ليست حتمية فحسب، بل ”تقدمية وثورية“، على الرغم من اعتماد نجاحها على عوامل مختلفة، بما في ذلك ”ظرف دولي مواتٍ بشكل خاص“ (التشديد في الأصل).
يمكننا أن نرى خلف هذه الجدالات، مرة أخرى، تصورات مختلفة لعواقب الدخول في المرحلة الإمبريالية الجديدة والحرب العظمى، تستتبع خلافات حول المسألة القومية ومكانة المطالبة بحق تقرير المصير، وكذا حول التكتيكات التي قد تنتج عنها، ليس فقط في المستعمرات، التي دعمت الثورة البولندية نضالاتها، كما اعترف لينين، بل أيضًا في أوروبا. وفي رأينا ستؤكد التطورات اللاحقة صواب موقف الزعيم البلشفي .
3. من الثورة الروسية إلى تأسيس الاتحاد السوفييتي
أسهم استدلال لينين في وضع أسس الموقف الذي تبناه مؤتمر الحزب البلشفي في عز السيرورة الثورية، في مايو 1917، فيما كانت مختلف شعوب الإمبراطورية الروسية تتحرك هي الأخرى من أجل حقوقها القومية:
”يجب الاعتراف لجميع الأمم التي تتألف منها روسيا بالحق في الانفصال بحرية وتكوين دول مستقلة. إن إنكار هذا الحق وعدم اتخاذ التدابير اللازمة لضمان تطبيقه عمليًا هو يعادل دعم لسياسة الغزو أو الضم“ 23.
وقبل اعتماد هذا الموقف، أعلن الزعيم البلشفي أمام هذا المؤتمر ، في ”خطاب حول المسألة القومية“ 24 مساجلا رفاقا في حزبه:
”إذا انفصلت فنلندا أو بولندا أو أوكرانيا عن روسيا، فلا ضرر في ذلك. ما الضرر الممكن أن يكون هناك؟ كل من يقول ذلك هو شوفيني. لا بد أن يكون المرء قد فقد عقله ليتبع سياسة القيصر نيقولا. ألم تنفصل النرويج عن السويد؟"
وبنحو أدق، تساءل في حالة أوكرانيا، في يونيو من نفس العام، عما إذا لم يكن من الأفضل لعمال أوكرانيا أن يختاروا انفصال بلادهم وأن ينضموا فيما بعد إلى روسيا في إطار اتحاد فيدرالي اشتراكي.
سيعود لاحقا إلى هذا الموقف في مارس 1919، مبديا تأييده لقبول خيار استقلال أوكرانيا إذا قرر مؤتمر سوفييتات ـوكرانيا ذلك25.
هذا كله لم يمنع لينين من أن يظل منتقدًا بشدة لجميع أشكال النزعة القومية، وحتى لمفاهيم من قبيل الثقافة القومية، لكن مع الوقوف في الآن ذاته ضد سياسات القومية الروسية الكبرى الاستيعابية في مجالات مثل اللغة، موردا مرة أخرى مثال سويسرا كحل ديمقراطي. وبهذه الطريقة، افترض رفض امتيازات أي أمة على حساب أمم أخرى، بينما كان يناضل دائمًا لإدراج هذه المطالب الديمقراطية في مشروع اشتراكي تهيمن فيه الطبقة العاملة.
وقد عزز إعلان تشرين الثاني/نوفمبر 1917 بشأن حقوق شعوب روسيا البحث عن تحالف مع حركات التحرر القومي بإعلان مبادئ واضحة جدًا حول هذه المسألة:
”1- المساواة والسيادة لشعوب روسيا. 2. حق شعوب روسيا في تقرير مصيرها حتى الانفصال وتكوين دولة مستقلة. 3. إلغاء جميع الامتيازات والقيود، القومية أو الدينية. 4. التطور الحر للأقليات القومية والمجموعات الإثنية التي تقطن الأراضي الروسية“.
ومرة أخرى انتقدت روزا لوكسمبورغ 26 هذا الموقف بشدة، معتبرة أنه عوض تقديم هذا المطلب الذي سيساهم في ”تفكك الدولة الروسية“، كان عليهم الاعتراف بالجمعية التأسيسية، كما أعربت عن عدم موافقتها على سياسة البلاشفة الزراعية. يعبر هذا عن خلافاتها العميقة ليس فقط حول المسألة القومية، بل أيضًا حول الديمقراطية وسياسة التحالفات مع حركات التحرر القومي والفلاحين التي كانت تعتقد أن على البلاشفة الروس أن يتبعوها.
كما استمر النقاش حول الحق في تقرير المصير داخل الحزب البلشفي. وقد تجلى ذلك في مؤتمره عام 1919، حيث ساجل لينين علنا بوخارين الذي عارض هذا الحق بــ”حق تقرير مصير للعمال“. رد عليه لينين بهذه العبارات:
” يجب ألا يتحدث برنامجنا عن حق العمال في تقرير مصيرهم، لأن ذلك خطأ. بل يجب أن يقول ما هو كائن. فبما أن الأمم توجد بمراحل مختلفة بين العصور الوسطى والديمقراطية البرجوازية، ثم بين الديمقراطية البرجوازية والديمقراطية البروليتارية، فإن هذه النقطة في برنامجنا صحيحة تماماً. لقد وصفنا العديد من التعرجات على طول هذا الطريق. يجب أن نعترف بحق كل أمة في تقرير مصيرها، الأمر الذي سيساهم في تحرير العمال“27.
من المعروف أنه في سنوات الحصار الإمبريالي لروسيا هذه، كان اهتمام البلشفية مركزا على الأمل في امتداد الثورة إلى البلدان الأوروبية الأخرى، وخاصة ألمانيا. ولكن هذا لا يعني أنها لم تكن غير مكترثة بموجة التعبئات الجديدة التي بدأت في محيط روسيا الشرقي. هذا ما أكده لينين في ”تقريره إلى مؤتمر المنظمات الشيوعية لشعوب الشرق“ الذي عقد في نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول 191928، مع إصراره على ضرورة ”استئصال كل بقايا الإمبريالية الروسية الكبرى من أجل النضال بلا تحفظ ضد الإمبريالية العالمية“، كما فعل في نوفمبر/تشرين الثاني 1919 عندما خاطب شيوعيي تركستان .
هذا التوجه قائم أيضا في ”الخطوط العريضة الأولية لأطروحاته حول المسائل القومية والاستعمارية“ 29 وفي أطروحات المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية في تموز/يوليو 1920. بيد أن لينين دافع فيها عن الفيدرالية بما هي الطريق المرغوب فيه نحو وحدة الشعوب المختلفة التي تحررت من الإمبراطورية القيصرية.
أكد الزعيم البلشفي من جديد، في ”تقرير اللجنة الوطنية والاستعمارية“ للمؤتمر الثاني للأممية الشيوعية المنظم في سبتمبر 1920، على أهمية حركات التحرر في البلدان ”المتخلفة“، مع الحفاظ على استقلال الشيوعيين السياسي ودعمه الصريح لفرضية عدم لزوم مرور شعوب هذه البلدان بالمرحلة الرأسمالية.
في سبتمبر 1920 بالتحديد، انعقد المؤتمر الأول لشعوب الشرق في باكو. وجرت مناقشات حيوية بين قادة الأممية الشيوعية والمنظمات الشيوعية الشرقية الأخرى حول دور نضال هذه الشعوب ضمن إستراتيجية ثورية عالمية، من بين أمور أخرى، وكذلك حول العلاقات مع النزعة الإسلامية الجامعة. واستمرت هذه المناقشات في المؤتمرات المتتالية، لا سيما في مؤتمر الأممية الشيوعية الرابع (نوفمبر 1922)، حول الجبهة الموحدة المناهضة للإمبريالية والعلاقات مع برجوازيات البلدان الاستعمارية، وكذلك حول ”المسألة السوداء“ في أمريكا ودورها في النضال من أجل تحرير شعوب أفريقيا. وتتجاوز معالجة خاصة لهذه المناقشات نطاق هذا العمل30.
بيد أنه سرعان ما تأثر تطبيق المبادئ التي تم إرساؤها في ظل النظام الجديد بنزاعات مختلفة - لا سيما تلك التي نشبت مع جورجيا وبولندا - والتي أبرزت، بنحو بات عنيفا ، ثقل القومية الروسية الكبرى في النظام الجديد – وفي ”الحزب“. وهكذا، منذ عام 1920 فصاعدًا، كان هناك ميل تدريجي لاستبدال ”الحق في الانفصال“ بـ”الحق في الاتحاد“.
والواقع أن التوترات داخل البلشفية ستتفاقم، منها مثلا، عندما عارض شيوعيو جورجيا في سبتمبر 1922، إنشاء جمهورية اشتراكية سوفيتية عابرة للقوقاز مصطنعة مشكلة باتحاد أذربيجان وأرمينيا وجورجيا، ودافعوا عن استقلال بلدهم. كان لينين، الذي جرى إخفاء المعلومات عنه حتى نهاية 1922، هو من ساندهم، و منذ هذه اللحظة ، بلغ الأمر بستالين، المستاء جدا، أن وصف موقف لينين بأنه ”ليبرالية قومية“ 31، بينما أعلن لينين بدوره ”الحرب حتى الموت“ على ”شوفينية روسيا الكبرى“ التي رأى أن ستالين يمثلها.
انعكست المواجهة بين هذين الموقفين بوضوح في ”المساهمة في مسألة القوميات أو الحكم الذاتي“32، التي كتبها لينين في 30-31 ديسمبر 1922 . انتقد فيها ”انزعاج“ [ستالين] من ”الاشتراكية القومية الشهيرة“، متهمًا إياها بذلك بالتحديد، ومعتبرًا أن دور أممية”الأمة“ ”الكبرى“ المزعومة يجب أن يتكون التعويض عن عدم المساواة الواقعية. ثم خطا لينين خطوة جديدة نحو مقاربة كونفدرالية عملياً:
”لذلك يجب ألا تتمثل الأممية من جانب الأمة المسيطرة أو ما يسمى بالأمة ”الكبرى“ (مع انها كبرى بعنفها فقط، كبرى فقط كما هو حال الشرطي مثلاً) فقط في احترام المساواة الشكلية بين الأمم، بل أيضاً في عدم مساواة تعوض من جانب الأمة المسيطرة، الأمة الكبيرة، عن عدم المساواة التي تتجلى عملياً في الحياة(...). رابعاً: يجب أن توضع أكثر القواعد صرامة لاستعمال اللغة القومية في الجمهوريات الوافدة التيتشكل جزءاً من اتحادنا، ويجب أن تدقق هذه القواعد بأكبر قدر من العناية. (...).وعلينا ألا نُقسم مسبقاً بأننا، بعد كل هذا العمل، لن نعود إلى وراء في مؤتمر السوفييت القادم بالإبقاء على اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية في المجالين العسكري والدبلوماسي فقط، وإعادة الحكم الذاتي الكامل لمختلف المفوضيات الشعبية في جميع النواحي الأخرى“33. (التشديد منا).
اقترن هذا الاقتراح في نفس المقال بتجديد الأمل في كفاح الشعوب المضطهدة من قبل الإمبريالية الممتد إلى الشرق34. ولكن ليس من دون أن يعرب عن خوفه من ”أن نهدم سلطتنا في نظره بأدنى وحشية أو ظلم تجاه أممنا الوافدة“. واختتم بتحذير آخر لرفاقه بتجنب ”العلاقات الإمبريالية مع الأمم المستعبدة“.
كما نعلم، تدهورت صحة لينين في الأشهر التي تلت، لكنه لم يتوقف عن التعبير عن عدم ارتياحه لسياسة ستالين تجاه القوميات، وسعى للحصول على دعم تروتسكي، كما ذكر بذلك موشيه لوين:
”في غضون ذلك، وكما طلب [لينين]، كتب تروتسكي مذكرة شديدة اللهجة إلى المكتب السياسي في 6 مارس 1923، يعلن فيها ضرورة الرفض الحازم والصارم للميول الدولتية الفائقة، وانتقد أطروحات ستالين بشأن المسألة القومية. وأصرّ على أن جزءًا كبيرًا من البيروقراطية السوفيتية المركزية كان يرى في إنشاء الاتحاد السوفيتي وسيلة للبدء في القضاء على جميع الكيانات السياسية القومية والمستقلة (الدول، المنظمات، المناطق، إلخ)، وأنه يجب محاربة ذلك كما لو كان تعبيرًا عن موقف إمبريالي ومعادٍ للبروليتاريا. وأنه لا بد من تحذير الحزب من أنه تحت رعاية ما يسمى بـ ”المفوضيات الموحدة“، جرى إهمال المصالح الاقتصادية والثقافية للجمهوريات القومية“.
ومع ذلك، فوّت تروتسكي فرصة تقديم مذكرته النقدية إلى مؤتمر الحزب الثاني عشر في أبريل، على الرغم من أنه، كما يذكر لوين أيضًا، ”نعلم أنه سرعان ما انطلق في معارضة ستالين بشراسة (...) هل لعب المرض أو التعب الشديد دورًا في هذا الفشل المدوي في إدراك تروتسكي السياسي، والذي سيتكرر لاحقًا؟ إنه احتمال وارد“ 35. وقد سُمعت أصوات ناقدة في هذا المؤتمر، مثل أصوات سكريبنيك وراكوفسكي وميرس سعيد سلطان-غالييف.
وفي وقت لاحق، اعترف الدستور المعتمد في عام 1924 رسميًا في الفصل 4، المادة 5، بحق جمهوريات الاتحاد ”في الانفصال بحرية عن الاتحاد“، ولكن الأمر سيتخذ مجرى آخر. انتهى الأمر بستالين إلى إنكار حق الانفصال، ونفذ مشروعًا في الاتحاد السوفيتي قائمًا على هيمنة القومية الروسية الكبرى في إطار مركزية بيروقراطية دولتية. وقد بلغ هذا المشروع ذروته أثناء الحرب الوطنية العظمى ضد النازية، ولكنه فشل في تحقيق الهدف المتمثل في خلق انسان سوفييتي جديد يتغلب على الفوارق القومية بين مختلف شعوب الاتحاد السوفييتي.
4. بعض الدروس المستفادة من تطوره فكر لينين بصدد المسألة القومية
يمكن بنظري، خلال دراسة تطور فكر لينين السياسي ، تمييز عدة مراحل. في الأولى، انطلق لينين من الإطار المرجعي الذي وضعه ماركس وإنجلز، وكذا من المناقشات التي تطورت داخل الأممية الثانية، ليفترض أن على الطبقة العاملة أن تنهض أيضا بمهمة البحث عن حل ديمقراطي للمسألة القومية بالاعتراف بحق الأمم المستعبدة في تقرير مصيرها. ويفهم هذا الحق على أنه الحق في الانفصال أو انشقاق الدولة التي تشكل الأمم المستعبدة جزءًا منها، رافضًا الصيغ البديلة مثل الفيدرالية أو الحكم الذاتي القومي الثقافي، ومؤكدًا أن الماركسيين يجب أن يكونوا معارضين للانفصال، إلا في الحالات الناتجة عن تحليل ملموس لكل حالة ملموسة. لقد أدرج هذا التوجه في استراتيجية تقوم على المركزية الاستراتيجية للطبقة العاملة، وعلى الأممية البروليتارية، وبالتالي على رفض النزعات القومية، مع تمييز بين الأمم المسيطرة والأمم المستعبدة واقتراح مهام مختلفة للماركسيين في كل منهما.
بدءا من عام 1913، وفي خضم المناقشات في الأممية الثانية حول توصيف المرحلة الإمبريالية والموقف الواجب تبنيه تجاه الحرب الكبرى، اعتبر لينين أن الإمبريالية ستؤدي إلى تفاقم التناقضات القومية بشكل متزايد، وميز بين ثلاث مجموعات مختلفة من البلدان التي تطرح فيها المسألة القومية والاستعمارية، وتناول عدداً من الحالات الملموسة في أوروبا الغربية وفي ظل الإمبراطورية القيصرية الروسية، وتناقش بصراحة مع مواقف أخرى، ولا سيما مع روزا لوكسمبورغ. وتمثل حالات انفصال النرويج عن السويد عام 1905 والانتفاضة الأيرلندية عام 1916، وكذلك الحالات التي ظهرت بالفعل في روسيا وبولندا وفنلندا وأوكرانيا وجورجيا، أهم هذه المناقشات. وفي هذا الصدد، أكد من جديد دفاعه عن حق تقرير المصير والانفصال إذا رغبت هذه الشعوب في ذلك، على الرغم من أنه اعتبر أن الإطار المرغوب أكثر من وجهة نظر الطبقات العاملة في الأمم المستعبدة والمسيطرة هو إطار فيدرالية يمكن تسميتها بالانضمام الحر.
وأخيراً، بعد انتصار الثورة الروسية في أكتوبر 1917، تم الدفع بتطبيق هذا المذهب، كما يشهد على ذلك إعلان حقوق شعوب روسيا، ولكن سرعان ما واجه النظام الجديد حرباً أهلية ونشوب نزاعات قومية واستعمارية مختلفة داخل حدوده. آنذاك دخل في مواجهة مفتوحة على نحو متزايد مع القومية الروسية الكبرى التي كانت تتجلى داخل حزبه بقيادة ستالين. وفي مواجهة هذا الميل إلى تعزيز الدولة المركزية، أيد لينين في كتاباته الأخيرة مشروعا كونفدراليا يتضمن حق الانفصال. بيد أن الاعتراف بهذا الحق في دستور اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية لم يستطع أن يخفي إنكاره عملياً من قبل نظام متزايد المركزية والبيروقراطية. في هذه الحقبة أيضًا، على الرغم من أنه كان قد شدد عليه بالفعل بعد الثورة الروسية عام 1905، أكد لينين في إطار الأممية الثالثة وفي مواجهة الإحباط المبكر للتوقعات الثورية في أوروبا، على الدور متزايد الأهمية الذي سيكون لحركات التحرر الوطني لشعوب الشرق، حتى لو استمر بعض اللبس في استخدام تعابير مثل ”البلدان المتحضرة“ و”البلدان المتخلفة“، مع أنه بات يستحضر فرضية أن هذه الأخيرة لن تمر بالضرورة بالمرحلة الرأسمالية.
بعد هذا الاستعراض الموجز، ليس من الصعب أن نفهم، من ناحية، الرفض الجذري الذي يبديه الزعيم الروسي الحالي، فلاديمير بوتين، لإرث أطروحات لينين حول المسألة القومية (وتشويهه لها ، بما في ذلك، من بين أمور أخرى، ادعاؤه بأنه لينين من ”اخترع“ الأمة الأوكرانية، كما ذكّرنا إيتيان باليبار في جلسة الأيام اللينينية التي شاركنا فيها (باليبار، 2024)، ومن ناحية أخرى، دفاعه عن القومية الروسية الكبرى القديمة، التي كان ستالين مواصلا وفيا لها.
يبدو جليا أنه على الرغم من أننا في عصر مختلف تمامًا عن عصر لينين - عصر نشهد فيه ”أزمة متعددة الأبعاد“، محددة تضافريا بأزمة بيئية واجتماعية ومناخية تهدد مستقبل الحياة البشرية في ظل رأسمالية كوارث - ثمة أوجه تشابه في استمرار علاقات الاضطهاد القومي والاستعماري من قبل العديد من الدول على شعوب أخرى خارج حدودها وداخلها. ولا شك أن الحالة الأكثر مأساوية اليوم هي الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني على يد دولة استعمارية وعنصرية بتواطؤ من القوى الأوروبية الأمريكية العظمى، ولهذا السبب يجب أن نطالب بالاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. كما يجب أن نشير إلى الغزو الروسي الجائر لأوكرانيا، وبالتالي ضرورة دعم حق الشعب الأوكراني في الدفاع عن نفسه وتقرير مصيره، دون أن نغفل انتقاد الدور الذي لعبته استراتيجية توسع حلف الناتو في هذا الصراع.
هذا لأننا إزاء أزمة جيوسياسية عالمية يشهد فيها النظام الإمبريالي القديم، في ظل هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية، أفولا نسبيًا وبزوغ قوى عالمية وإقليمية جديدة بقيادة الصين التي تقاتل من أجل إعادة تشكيل النظام العالمي الحالي. في هذا السياق، وعلى خلفية نهاية ”العولمة السعيدة“، تظهر باستمرار في مناطق مختلفة من العالم صراعات قومية، سواء بين الدول أو بين الدول والشعوب التي تطالب بحقها في تقرير مستقبلها.
من هنا تنبع، بوجه مختلف الحالات التي تُطرح أمامنا، ضرورة العمل بنصيحة لينين بإجراء تحليل ملموس لكل حالة محددة، ولكن بالانطلاق دائمًا ، كما أوصى الزعيم البلشفي أيضًا، من موقف أممي معارض لكل الإمبرياليات، دفاعًا عن حق جميع الشعوب في تقرير مصيرها، مؤداه بالتالي ”لا يمكن لأي شعب يضطهد شعبًا آخر أن يكون حرًا“.
===========
خايمي باستور أستاذ متقاعد في العلوم السياسية، وعضو منظمة Anticapitalistas ، فرع الأممية الرابعة الاسباني، صدر له عام 2014 كتاب بعنوان "النزعة القومية والدولة الاسبانية و اليسار". عضو في هيئة تحرير مجلة ”يينتو سور“Viento Sur. النص اعلاه صيغة مراجعة من مداخلته في دورة 29 أكتوبر 2024 حول "لينين والمسألة القومية" مع ايتيان باليبار وغال كيرن، في الأيام اللينينية المنظمة من قبل مجلات مختلفة منها بينتو سور.
- 1
خطاب الى الحزب الشارتي: ألمانيا وبولندة، 9 ديسمبر 1847.
- 2
رسالة ف. انجلز إلى كارل كاوتسكي، 12 سبتمبر 1882.
- 3
أنظر، من أجل دراسة موثَّقة جيدا ومُجدِدة لهذه المسائل، وبوجه خاص للمجتمعات غير الغربية، كتاب كفين .ب. أندرسون "ماركس ومجتمعات الأطراف، حول القومية، الإثنيات والمجتمعات غير الغربية". ترجمة د. هشام روحانا
- 4
أنظر:
Haupt, Löwy et Weill, Les marxistes et la question nationale, L'Harmattan, 2º édition 1997.
يُعزى هذا المسلك داخل الأممية الثانية إلى غلبة موقف إزاء السياسة الاستعمارية للقوى العظمى الغربية يشوبه لبس، كما يشهد على ذلك المؤتمر المنعقد في أمستردام في العام 1904 (Montserrat Galceran (2016), La bárbara Europa)
- 5
أنظر:
«Libération nationale et bolchevisme», Eric Blanc, publié par Contretemps et traduit par Avanti.
- 6
البرافدا، 10 مايو 1913لينين: نصوص حول المسألة القومية، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، 1972.
- 7
بصدد أتو باور والمسألة القومية احيل على مقالي: "عودة نقدية الى الماركسية النمساوية" مجلة Viento Sur ، 27/08/2021
- 8
فيما يخص المسألة اليهودية، يلاحظ إنزو ترافرسو، في كتابه "الماركسيون والمسألة اليهودية، تاريخ نقاش 1843-1943 (1998)، تذبذبا دائما لدى لينين بين اعتراف بالطابع القومي لليهود وانكار له، رغم اعترافه الجلي في 1913 كما رأينا للتو في "ملاحظات انتقادية..." . قد تكون هذه التذبذبات مشروطة، بحسب ترافرسو، بتطور علاقاته مع البوند داخل حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي؛ وقد يكون رفضه الاعتراف بـــثقافة قومية يهودية" خاصة- رغم إقراره بالحق في التعليم باللغة الأم- مرتبطا بما كان يرى من ميل الامم إلى الاندماج بما هو خاصية تاريخية للرأسمالية وبالطريق المستقبلي نحو الاشتراكية، مع انه عبر دائما عن رفضه الجلي والحازم لمعاداة السامية والمذابح ضد اليهود، هذه التي كان يؤيد تنظيم ميليشيات دفاع ذاتي عمالية ضدها.
- 9
لينين، البرافدا 1913. الأعمال الكاملة بالفرنسية الجزء 19 ، صفحة 78.
- 10
لينين: حق الأمم في تقرير مصيرها، المختارت من 10 أجزاء، ج 5، دار التقدم، موسكو، 1976، ص 144.
- 11
المرجع ذاته.
- 12
يوجد هذا الخطاب في أعمال لينين الكاملة، وقد أوردته صحافة تلك الحقبة. أنظر:
R. Serbyn, « Lénine et la question ukrainienne en 1914: le discours séparatiste de Zurich », Pluriel-Débat n° 25, 1981.
- 13
أنظر:
Roman Serbyn, 1981, cf. note 12, pp. 81-84.
- 14
لينين: الاشتراكية و الحرب، المختارات (10 أجزاء) جزء 5، دار التقدم، موسكو، 1976، ص 367.
- 15
لينين، المختارات (10 أجزاء) جزء 6، دار التقدم، موسكو، 1976، ص 36.
- 16
لينين، المختارات (10 أجزاء) جزء 6، دار التقدم، موسكو، 1976، ص 153.
- 17
لينين، المختارات (10 أجزاء) جزء 6، دار التقدم، موسكو، 1976، ص 36.
- 18
Michael Lowy, les marxistes et la question nationale
أحيل، من أجل تناول أحدث للفروق بين موقف روزا لوكسمبورغ وموقف لينين إلى :
Andreassi, Les travail- leurs ont-ils une patrie ? Internationalisme et question nationale, IIRF, 1991, et Tafalla (2021(
- 19
The Rediscovery and Persistence of the Dialectic in Philosophy and in World Politics, 2007.
- 20
لينين، المختارات (10 أجزاء) جزء 6، دار التقدم، موسكو، 1976، ص 86.
- 21
المرجع نفسه: ص53.
- 22
لينين، المختارات (10 أجزاء) جزء 6، دار التقدم، موسكو، 1976، ص 66.
- 23
لينين الأعمال الكاملة، فرنسية، ج 24، ص223.
- 24
نفس المرجع.
- 25
لينين: رسالة الى عمال وفلاحي أوكرانيا بمناسبة الانتصارات المحرزة على دينيكن (مقتطف).ضمن نصوص حول المسألة القومية،تر :جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت،1972.
- 26
la crise de la social-démocratie 1915.
- 27
Lenine : Œuvres , T 29, p.137.
- 28
أنظر: Matthieu Renault, L'Empire de la révolution. Lénine et les musulmans de Russie, París, Syllepse, 2017.
- 29
لينين، المختارات (10 أجزاء) جزء 10، دار التقدم، موسكو، 1976، ص 15.
- 30
إقرأ، من أجل تجليل لهذه النقاشات،
Montserrat Galceran, La bárbara Europa, 2016.
مؤتمر باكو الذي اعتبرته القوى الامبريالية الغربية( الحكومة البريطانية بوجه خاص) خطرا حقيقيا، بات حاليا متبنى من قبل قطاع من الحركات المناوئة للاستعمار كسابقة هامة ( انظر :
Révolution. Une histoire culturelle d'Enzo Traverso, La Découverte, 2022 et Le premier congrès des peuples de l'Orient, Bakou 1920, La Brèche/Radar).
- 31
بلغ الأمر بستالين، في اجتماع للمكتب السياسي الروسي، في 28 سبتمبر 1922،أن قال لكامنيف: " اعتقد انه يجب اعتماد الشدة مع إيليتش". أنظر:
Le dernier combat de Lénine, Moshe Lewin, Syllepse, 2015 et Russie/ URSS/Russie, Moshe Lewin, Syllepse, 2017.
- 32
لينين، المختارات (10 أجزاء) جزء 10، دار التقدم، موسكو، 1976، ص 535، رسائل إلى المؤتمر التي تمثل وصية لينين.
كان المشروع الذي قدمه ستالين، كما ذكر بذلك موشي لوين في كتاب "معركة لينين الأخيرة"، ينص على دمج محض "للجمهوريات المستقلة" في فيدرالية روسيا بصفتها "جمهوريات مستقلة". وينص أيضا على أن الحكومة الروسية، ولجنتها التنفيذية المركزية، ومجلسها لمفوضي الشعب، ستكون حكومة الجميع.
- 33
المرجع ذاته.
- 34
جدد هذا التمني في مقاله الشهير : من الأفضل أقل، شرط أن يكون أحسن. انظر: لينين، المختارات (10 أجزاء) جزء 10، دار التقدم، موسكو، 1976، ص 572.
- 35
المرجع ذاته.