يعمل ما يفوق نسبة 10% من سكان الفلبين في الخارج، ويرسلون تحويلات مالية أساسية لاقتصاد البلد. يشرح مؤلف جديد كيف استطاع اليسار كسب هذه الفئة ثم كيف فقدها فيما بعد.
عندما يسافر الناس إلى الخارج ويستقرون في بلدان أخرى، فإنهم لا يشكلون جالية بنحو تلقائي. بل إن النشاط السياسي والتعبئة هما اللذان يشكلان جالية شتات، كما تقول شارون م. كوينساتSharon M. Quinsaat، الأستاذة المساعدة في علم الاجتماع في كلية غرينيل (آيوا، الولايات المتحدة الأمريكية)، في مؤلفها Insurgent Communities : How ProtestsCreate a Filipino Diaspora”الجاليات الثائرة: كيف تمكنت الاحتجاجات من خلق شتات الفلبين".
يمثل المهاجرون الفلبينيون حالة مثيرة للاهتمام لأسباب عديدة.لا يقتصر الأمر على كون سكان الفلبين المغتربين من أكبر المهاجرين في العالم عدداً، حيث يعيش ما يفوق عشرة ملايين شخص في ما يزيد عن مائتي بلد وإقليم في الخارج. إذ تشكل هجرة اليد العاملة سمة أساسية من سمات سياسة الدولة الاقتصادية. وعلى الرغم من إجبار الاضطهاد السياسي قسماً من شتات الفلبين على مغادرة البلد، خاصة إبان ديكتاتورية فرديناند ماركوسFerdinand Marcos بين العامين 1972 و1986، لم يكن ذلك نتيجة ضروب الاضطهاد العرقي أو الديني، وهي الأسباب ”الكلاسيكية“ لهجرة سكان الشتات.
قام بونغ بونغ ماركوس Bongbong Marcos، رئيس الفلبين حاليًا ونجل الديكتاتور السابق، وسلفه رودريغو دوتيرتي Rodrigo Duterte على حد سواء، بدور هام في تبييض إرث فرديناند ماركوس، الذي وارى جثمانه الثرى بمراسم تكريم عسكرية في المقبرة الوطنية عام 2016.
كان الشتات الفلبيني مصدرمقاومة مهم ضد النظام الديكتاتوري، الذي سعت الحكومات المحافظة المتعاقبة إلى إعادة الاعتبار إليه.واليوم، يؤيد قسم كبير من الشتات قادة اليمين مثل دوتيرتي وبونغ بونغ ماركوس.لم يحدث هذا التطور على نحو منعزل. بل يشكل، كما تبين كوينسات، نتاج التحولات القائمة في الرأسمالية والسياسة العالمية.
نماذج ذات طابع استعماري واستعماري جديد
كتبت كوينسات أن الاستعمار "هيأ الفلبين سلفاً لتصبح أمة قائمة على الهجرة".بدأت الهجرة أثناء حقبة الاستعمار الإسباني للأرخبيل، لكن بحلول أواخر القرن التاسع عشر، لم تعد إسبانيا الوجهة المقصودة إلا لمجموعة قليلة، لكن مؤثرة، من الفلبينيين الذين كانوا يحاولون تفادي اضطهاد السلطات الاستعمارية أو يسعون إلى مواصلة دراستهم التعليمية.
أدت المطالب الليبرالية التي رفعها هؤلاء "المستنيرون" المثقفون والأثرياء، المتواضعون إلى حد ما في البداية، حتمًا إلى مواجهة ضد عناد موقف السلطات الاستعمارية - نزعة قومية ناشئة ومندمجة مع السخط الشعبي بعد اندلاع الثورة الفلبينية عام 1896.بعد ذلك بعامين، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية الحرب على إسبانيا وتحكمت القوة الصاعدة الجديدة بالفلبين، مما يمثل حقبة استعمارية جديدة و"بداية الهجرة الفلبينية بالفعل".
أدت سياسة الولايات المتحدة الأمريكية الاستعمارية إلى جعل الفلبينيين "مواطنين أمريكيين"، وحرمتهم من الحقوق السياسية بينما أتاحت لهم حرية التنقل داخل حدودها.في بداية القرن العشرين، قررت الحكومة الأمريكية تجنيد الفلبينيين للاشتغال في قواعدها البحرية. باشر عدد كبير منهم العمل في المنشآت الزراعية في هاواي وعلى الساحل الغربي للولايات المتحدة الأمريكية.كان عدد كبير منهم شغيلة موسميين، يتنقلون بين المنشآت الزراعية والحقول كخدم وطهاة وغسالي أواني منزلية وحراس أمن أثناء فصل الشتاء.وقد استلهم أحدهم، وهو كارلوس بولوسان Carlos Bulosan، من تجاربه الخاصة وتجارب العمال الفلبينيين المحيطين حوله لتأليف رواية "أمريكا في القلبAmerica Is in the Heart"، التي تعتبر من كلاسيكيات الأدب البروليتاري.
أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1946 استقلال الفلبين رسمياً. لكن المعاهدات التي تربط سياسات الفلبين الاقتصادية بسياسات مستعمرها السابق، عبر تقديم تسهيلات تفضيلية للمقاولات الأمريكية، أتاحت توطيد العلاقات بين البلدين. كما واصلت البحرية الأمريكية تجنيد فلبينيين، وقد حصل كثير منهم في آخر المطاف على الجنسية الأمريكية واستقدموا عائلاتهم معهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية.كان ضمن رواد هجرة اليد العاملة الفلبينية الحديثة الممرضات اللواتي تلقين تكوينا وفق المعايير الأمريكية وتمكنّ من الاشتغال في الخارج.
وبصفتهم جالية مهمة عدديا وعريقة، يشكل فلبينيو الولايات المتحدة الأمريكية مجموعة واضحة المعالم، من البديهي تناولها في إطار دراسة عن شتات الفلبين. تقارن كوينسات حالتهم بوضع مجموعة أخرى أقل شهرة: فلبينيو هولندا. منذ سنوات الستينيات والسبعينيات، وصل عدد قليل من العاملات إلى هولندا، بداية كممرضات ثم في قطاع صناعة النسيج.
أدى إتقان اللغة الإنجليزية المعمم، كإرث للاستعمار الأمريكي وما أرساه من نظام تعليمي، إلى تسهيل هذه الهجرة، لكن موقع الفلبين الاستعماري الجديد في الرأسمالية العالمية أفضى الى جعل الفلبين بلدًا مصدّرًا لليد العاملة.أقر فرديناند ماركوس في عام 1974 برنامج التشغيل في الخارج رسميًا و"حوّل موقع الهجرة العالمية من الولايات المتحدة الأمريكية إلى وجهات جديدة حول العالم". استمر تشجيع الهجرة العالمية بعد إطاحة الديكتاتور عبر الاحتجاجات الشعبية في عام 1986.
أدت التدابير النيوليبرالية، في شكل برنامج تقويم هيكلي مفروض من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، إلى ارتفاع معدل البطالة، مع عجز الزراعة والمقاولات الفلبينية عن المنافسة على صعيد العالم.وإلى جانب ما فرضه نفس البرنامج من تقليص الخدمات العامة وتعويضات الحماية الاجتماعية، أفضت هذه التدابير إلى تفاقم حدة الفقر.
في ظل هذه الظروف "لم تصبح الهجرة حلاً سياسيًا رسميًا لتقليص تأثير الأزمات عن طريق التحويلات المالية وحسب، بل أيضًا استراتيجية تكيف - نمط حياة مقبول - للفلبينيين العاديين للتغلب على المصاعب اليومية"، كما كتبت كوينسات.وبدلاً من السعي إلى اتخاذ تدابير من شأنها معالجة الأسباب العميقة التي تسبب نزوح الناس بعيداً عن ديارهم وعائلاتهم، نهجت حكومات الفلبين المتعاقبة سياسات اقتصادية جعلت البلد ممون الرساميل العالمية بيد عاملة وموارد رخيصة الثمن.
تشير كوينسات إلى أن "حالة الفلبين فريدة من نوعها بسبب دور دولة الفلبين في تحفيز هجرة مواطنيها وتدبيرها، حيث أقر البنك العالمي بنهجها نظاما متطورا للغاية لمساعدة العمال المهاجرين، مما يجعله نموذجًا يحتذى به في غيرها من بلدان المنشأ".
واليوم، يشكل العمال/ات الفلبينيون/ات في الخارج جزءًا أساسيًا من الطبقة العاملة في البلد.إذ يمثلون ما يناهز نسبة 10% من إجمالي سكان البلد، ويرسلون/ن ما يفوق 30 مليار دولار أمريكي، أي ما يزيد عن نسبة 9% من الناتج الداخلي الخام للفلبين. تقوم الهجرة أيضًا بدور"صمام أمان"، حيث تجذب العمال/ات الشباب/ات الباحثين/ات عن حياة أفضل لهم/ن ولأسرهم/ن. وبعبارات أخرى، يمثل هؤلاء نوع الأشخاص الذين قد يشكلون قاعدة انتخابية طبيعية لحركات المعارضة في البلد.
التنظيم من أجل التغيير
لا يعمل كتاب Insurgent Communities "الجاليات الثائرة" على تناول الفلبينيين/ات العاملين/ات في الخارج باعتبارهم مجرد ضحايا للعلاقات الرأسمالية العالمية. يتطرق الجزء الأكبر من الكتاب إلى مختلف طرق تنظيمهم لمقاومة الاستغلال والاضطهاد في بلدهم وفي الخارج. كان هذا النشاط، وفقًا لكوينسات، حاسمًا في تكوين شتات الفلبين أكثر من أي هوية عرقية طبيعية.
تشكل منظمة KatipunanngDemokratikong Pilipino (اتحاد الديمقراطيين الفلبينيين) القائمة بالولايات المتحدة الأمريكية، إحدى المنظمات التي قامت بدور مهم في هذه السيرورة.تأسس اتحاد الديمقراطيين الفلبينيين في عام 1973، وضم مختلف الأجيال، حيث قام بتجميع مناضلين ولدوا في الولايات المتحدة الأمريكية ومهاجرين جدد، وشكل حلقة وصل بين النضالات الوطنية والأممية.خاض اتحاد الديمقراطيين الفلبينيين نضالًا عابرًا للحدود الوطنية على جبهتين: ضد ديكتاتورية ماركوس في الفلبين وضد الرأسمالية في الولايات المتحدة الأمريكية.
كان من المتوقّع أن تؤدي الديمقراطية في الفلبين إلى وضع حد لضرورة مغادرة الفلبينيين بلدهم، في حين كان النضال من أجل الاشتراكية في الولايات المتحدة الأمريكية يعتبر على أنه جزء من النضال لإنهاء ما يواجهه العمال/ات الفلبينيون/ات في هذا البلد الأخير من استغلال وعنصرية.كانت أيديولوجية اتحاد الديمقراطيين الفلبينيين متأثرة إلى حد كبير بماوية الحزب الشيوعي الفلبيني السري، التي كانت وثيقة الارتباط بهذه المنظمة أثناء سنوات السبعينيات.
كان اتحاد الديمقراطيين الفلبينيين جزءًا لا يتجزأ من التجذر العام في أواخر سنوات الستينيات والسبعينيات.أعرب مناضلون فلبينيون أمريكيون شباب "عن تضامنهم مع شيوعيي فيتنام الذين يرونهم مناضلين من أجل الاستقلال وتقرير المصير".رأى هؤلاء الراديكاليون في الحرب على فيتنام امتدادًا لنطاق الإمبريالية العنصرية الأمريكية في آسيا، التي كانت استعمرت الفلبين بالفعل.جرى إحياء تاريخ النضالات الأولى المناهضة للاستعمار في الفلبين، حيث يَعتبر الراديكاليون الشباب أنفسهم ورثة هذا التراث.
كان الجالية الفلبينية في هولندا محدودة العدد ومتجانسة مقارنة بالجالية الفلبينية القائمة في الولايات المتحدة الأمريكية. ولد الجيل الأول من المناضلين خارج نطاق هذا الجالية الأخيرة. في عام 1975، أنشأ متطوعون في مجال المعونة الإنمائية ومبشرون هولنديون المجموعة الفلبينية الهولندية Filippijnengroep Nederland بهدف لفت الانتباه إلى الانتهاكات في مجال حقوق الإنسان التي كانوا على علم بها أثناء تواجدهم في الفلبين.ومن باب الصدفة استضافت هولندا في وقت لاحق قادة الحزب الشيوعي الفلبيني الرئيسيين الذين تمكنوا بمساعدة الجمعيات الدينية من الحصول على وضع لاجئين في البلد.كانت مدينة أوتريخت تضم مقر مكتب الجبهة الديمقراطية الوطنية الفلبينية (NDF)،وهي جبهة تنظيمية جماهيرية يتحكم بها الحزب وبمثابة جناحه الدبلوماسي.
يبرز نقاش كوينسات حول جاليتين مختلفين تمامًا أوجه تشابه التحديات التي واجهها المناضلون/ات.واجه المناضلون/ات في الولايات المتحدة الأمريكية وهولندا على حد سواء، توترات ناجمة عن كونهم منظَّمين داخل مجتمعات ذات علاقات مغايرة مع بلدان مختلفة. واجه اتحاد الديمقراطيين الفلبينيين معارضة من المناضلين/ات الذين كانوا يعتقدون أن موقفه المعادي لديكتاتورية ماركوس "مثير للانشقاق" وأن تجذره في النضالات القائمة في الولايات المتحدة الأمريكية غير محبذة من قبل المناضلين الليبراليين الفلبينيين، بما في ذلك المنفيين البرجوازيين الفلبينيين، الساعين إلى التأثير على الدولة الأمريكية للضغط على ماركوس.لكن تجذر منظمة اتحاد الديمقراطيين الفلبينيين هو الذي أتاحت لها تجميع المهاجرين الجدد والمنفيين بسبب نضالهم ضد الديكتاتورية في الفلبين وجيل الشباب في الولايات المتحدة الأمريكية، المتجذرين بفعل تجربتهم الخاصة في مواجهة العنصرية والاستغلال.
"يبلور العمل النضالي معالم الذات والهوية": هكذا تلخص كوينسات أحد المواضيع الرئيسية في كتابها.لم تتغيّر سمات هوية المناضلين/ات وحسب؛ بل قاموا/ن بتغيير معالم هوية مجموعات أوسع نطاقًا من خلال كونهم/ن جزءًا من جاليات وحركات أوسع مدى.
كان الانتماء إلى هوية شعب الفلبين منفصلًا عن الولاء لدولة الفلبين عبر تنظيم النضال ضد الديكتاتورية. تعززت النزعة القومية الفلبينية بمحتوى جديد مناهض للإمبريالية من خلالإعادة الارتباط بتاريخ الثورات المناهضة للاستعمار، في حين كانت الهويات الثقافية تشهد تسييساً.
أشكال مد وجز متغيرة
يوثق كتاب Insurgent Communities "الجاليات الثائرة" مساعي مناضلي/ات الشتات لمواجهة أساليب التستر على ديكتاتورية ماركوس،لكن نسبة الدعم الذي يحظى به اليوم هؤلاء القادة اليمينيون بين العمال/ات المهاجرين/ات مرتفعة للغاية. فبينما حصل ماركوس على نسبة 58% من الأصوات بين الفلبينيين في البلد، بلغت هذه النسبة 72% لدى أعضاء الشتات.
تشير تحليلات عديدة عن شعبية دوتيرتي وماركوس إلى دور التضليل الاعلامي في تقديم الديكتاتورية على أنها عصر ذهبي للفلبين. تؤكد كوينسات في هذا الصدد، أن السؤال المطروح قائم في كيفية تلقي هذه المعلومات؛ ولماذا اعتبرها الناس ذات مصداقية، وكيف بدت لهم منطقية، على الرغم من أن هذا التضليل الإعلامي عامل مهم؟يشكل كتاب "Insurgent Communities/ الجاليات الثائرة" جزئيًا وثيقة حول أفول التأثيرات اليسارية في شتات الفلبينلتحل مكانها عناصر أخرى لإثبات الهوية تقدم الصعوبات التي يواجهها البلد على أنها راجعة إلى انعدام "انضباط" مزعوم وإلى ضرورة وجود قيادة صارمة، وليس إلى الإمبريالية والاستغلال الرأسمالي.
ومِثل صعود نفوذ اليسار الأمريكي-الفلبيني، لا يمكن فصل أفوله عن تراجع اليسار في العالم وفقدان الاشتراكية مصداقيتها كبديل.لا يندرج موضوع تطور الوضع في الفلبين ضمن إطار هذا الكتاب، لكن الأزمة التي عصفت بمنظمة اليسار الفلبيني الرئيسية، أي الحزب الشيوعي الفلبيني، في أواخر سنوات الثمانينات من القرن الماضي أثرت على الجهود الأممية التي كانت أحياناً مرتبطة بالحزب بشكل مباشر.كما أدى عدم تناغم موقف الحزب وشبكته العابرة للحدود الوطنية تجاه دوتيرتي إلى تأثيرات سلبية أيضًا.وعلى الرغم من تزايد عدد ضحايا ما يسمى بالحرب على المخدرات، واصل مناضلون بارزون عديدون، معينين من قبل الجبهة الديمقراطية الوطنية الفلبينية، خدمة دوتيرتي في مناصب وزارية حتى بعد وفاة ماركوس.
يُعدّ كتاب "Insurgent Comunities/ الجاليات الثائرة" مرجعًا مقتضباً نسبيًا لكنه غزير المحتوى. ومما لا شك فيه أن القراء الساعين إلى فهم تطور معنى تحديد الهوية والتحديات التي تواجه العمل النضالي العابر للحدود الوطنية سيستخلصون منه معلومات كُثر. أما بالنسبة للمناضلين الراغبين في إنشاء جاليات ثائرة جديدة، فإن هذا الكتاب أداة لا تقدر بثمن.
________________________________________
أليكس دي يونغ، موقع جاكوبين Jacobin، يوم 02 تموز/يوليو عام 2024