اليسار الموالي لمادورو يتخلى عن الشغيلة وعن الشعب الفنزويلي

Une femme en tenue chaviste quitte sa maison délabrée dont la façade est ornée de propagande. À la fin du gouvernement d’Hugo Chávez © Wilfredor – CC0.

على خلاف ما جرى إبان عشرات الانتخابات في فنزويلا، على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية وفوز هوغو شافيز في عام 1998،انقسم رأسا على عقب مجملُ يسار أمريكا اللاتينية، حتى أنصار "التقدمية" بعد الانتخابات الرئاسية في 28 تموز/ يوليو2024. 

حيث أن قطّاعًا أصغر حجمًا، ولكنه لا يزال كبيرًا، ويضم مثقفين كُثر، يُردد حجة منتدى ساو باولو 1 ، والتي مفادها أن إنقاذ فنزويلا والمنطقة من الإمبريالية الأمريكية يقتضي دعم حكومة نيكولاس مادورو مهما كلف الأمر. وتشمل هذه التكلفة، بالطبع، قبول بقاء مادورو في السلطة حتى وإن لم يفز بالانتخابات، بعكس المرات السابقة - لأنه رفض حتى الآن إثبات انتصاره.

وفقًا لهذا المنطق، المعتمد على الجغرافيا السياسية الكلاسيكية أكثر من الماركسية، فإن أي شيء مبرَّر، بل وضروري بالفعل، من أجل "عدم تسليم" السلطة في فنزويلا (ونفطها) "إلى اليمين". وبموجب هذا المنطق الجيوسياسي، فإن حقيقة فوز نيكولاس مادورو أو خسارته في الانتخابات تأتي في مرتبة ثانوية مقارنة بالواجب "القومي التقدمي" المتمثل في منع الإمبريالية الأميركية، التي يجسدها مرشح المعارضة إدموندو غونزاليس، من الوصول إلى  قصر ميرافلوريس، وبالتالي تعريض ملكية الدولة لشركة النفط الفنزويلية، التي تمتلك واحدة من أكبر احتياطيات النفط والغاز على هذا الكوكب، للخطر. صحيح أن قسماً آخر من "التقدميين" يركّز بشكل أقل على النفط وأكثر على المأساة التي قد تترتب على الاعتراف بهزيمة مادورو، المعتبر يسارياً، في سياق تقدم اليمين المتطرف في العالم والمنطقة. ولا يرى الجميع مخرجا سوى في الاصطفاف مع مادورو ــ مستبعدين حتى تفاوض الجانبين في النزاع الفنزويلي، كما يقترح لولا وغوستافو بيترو، سعيا ولا شك إلى تقاسم المعسكرين للسلطات، مع ضمانات لبعض الحريات الديمقراطية وسلامة شركة النفط الفنزويلية.

لا أهمية للتاريخ و للوقائع 

لنتساءل، إنعاشا للذاكرة،ما الخط الفاصل بين اليمين واليسار –الأقوال أم الأفعال؟ يحافظ مادورو على خَطابة يسارية. يقول إن حكومته "تحالف عسكري - بوليسي - شعبي" مناهض للإمبريالية ومن أجل الاشتراكية. إنه يحتاج إلى إضفاء شرعية على نفسه داخليًا وخارجيًا كخليفة لتشافيز، في حين أن كل ما فعله هو التراجع عن إنجازات وإرث السنوات التقدميةللسيرورة البوليفارية. وبعيداً عن المظاهر، تمثلت سياسته منذ عام 2013 في تشجيع إثراء قطاع أعمال جديد في البلد، ومثل بونابرت، فاوض مختلف أقسامالبرجوازية الفنزويلية، الجديدة والقديمة (باستثناء الفئة الأكثر ارتباطاً باليمين المتطرف الأمريكي، وهي ماريا كورينا ماتشادو وإدموندو غونزاليس) من أجل البقاء في الحكومة.

وتزامنا مع انحرافهالاستبداديالصريح، فضّل مادورا دوما قطاعات الأعمال، وخاصة المقاولين في الخدمات لصناعة النفط، التي جرى توزيع الكثير منها على المستويات العليا من قواته المسلحة والشرطة.ومن هنا جاءت تحالفاته.

حتى تحت نيران العقوبات الإمبريالية الغربية الكثيفة ضد فنزويلا - التي بدأت مع إدارة أوباما، ومرت عبر ترامب وأصبحت أكثر مرونة مع بايدن - لم يتخذ مادورو أي تدابير لمواجهة النظام المالي العالمي وأنصاره المحليين. لقد خصص جزءًا كبيرًا من الميزانية الوطنية المتضائلة للبنوك الخاصة لضمان بيع العملات الأجنبية لشركات خاصة وريعية. إنها في الواقع سياسة لدعم الأغنياء وتفضيلهم2 .

في الوقت نفسه (منذ المرسوم 2792 لعام 2018)، حظر الإضرابات، والتعبير عن المطالب، وحق الطبقة العاملة في التعبئة، و كذا إضفاء شرعية على نقابات جديدة، بينما يلاحق ويسجن قادة النقابات الذين يشككون في الممارسات الداخلية في الشركات، أو يطالبون ببساطة بزيادة الأجور والتأمين الصحي. تلك حال سيديرورجيكا ديل أورينوكو (سيدور)، أكبر تجمع للبروليتاريا في فنزويلا: بعد التعبئة من أجل الأجور والمزايا الاجتماعية بين حزيران/ يونيو وتموز/ يوليو 2023، تعرض المضربون وقادة الحركة لقمع شديد. ومنذئذ، سُجن ليوناردو أزوكار ودانييل روميرو، مندوبي النقابات. 3

إن ”معاداة الإمبريالية" التي يتبناها مادورو وحاشيته لا تمنعه الآن من إمداد الولايات المتحدة بالنفط الذي تحتاجه من خلال شركة شيفرون وغيرها من الشركات الأجنبية الكبرى (مثل ريبسول)4 ، في سياق تسمح لهم وزارة الخزانة الأمريكية باستخراج ذهب فنزويلا الأسود، بينما تمنع الشركات من دفع الضرائب والإتاوات لفنزويلا. يُظهر قبول هذه الشروط الاستعمارية الجديدة حدود معاداة مادورو للإمبريالية 5 .

باتت العقوبات المفروضة على فنزويلا أكثر ليونةفي عهد بايدن (بضغط منالنزاعمع روسيا)، لكن مادورو اتخاذ العقوبات ذريعة للمضي قدمًا في تعديل هيكلي يؤثر بشكل أساسي على الشعب العامل. من الناحية السياسية، داخل فنزويلا، فقد الخطاب المتعلق بالعقوبات الأمريكية (وهي عقوبات حقيقية وملموسة ومقيتة) فعاليته السياسية في مواجهة نمط الحياة المتباهي والمّترف لمن يحكمون البلد الآن، ومعه تورطهم في قضايا فساد بالملايير6 .

الطبقة العاملة كعنصر ثانوي

استعاض أنصار مادور عن وضع الطبقة العاملة الفنزويلية كأساس للتحليل اليساري بموضة "الجغرافيا السياسية للنفط". لا ترى هذه الجغرافيا السياسية الثنائية سوى التناقض بين الإمبريالية والدولة الفنزويلية (وهو بلا شك تناقض مهم في الواقع). لكنها ليست جدلية بما يكفي لتأخذ في الاعتبار،ضمن سيناريو تناقضات متعددة، الوضعَ المادي والسياسي للطبقة العاملة وتطلعاتها ومنظوراتها.ويبدو الأمر وكأن هذه قضية ثانوية أو تناقض ثانوي. إن "الصيغة المقدسة" التي يستخدمها أنصار مادورو لتبرير إغفالهم للتحليل الطبقي، هي الحاجة إلى منع اليمين من الوصول إلى السلطة، متجاهلين حقيقة أن حكومة فنزويلا تطبق الوصفات الاقتصادية البنيوية لليمين، ولكن بخطاب يساري فقط.

يكفي أن نتحدث إلى الشغيلة أنفسهم (وليس إلى البيروقراطية المؤيدة للرؤساء في نقابة عمال فنزويلا)، في سيدور أو شركة النفط الوطنية الفنزويلية، وإلى المعلمين وأساتذة الجامعات، لنرى الوضع المادي الرهيب الذي يعيشون فيه (الحد الأدنى للأجور 4 دولارات أمريكية في الشهر، ومتوسط ​​الراتب 130 دولارًا أمريكيًا في الشهر، 80٪ منها عبارة عن مكافآت)، فيما يتعرضون لأسوأ تقليص منذ عقود لحرياتهم الديمقراطية في التنظيم والتعبئة والنضال.

بصدد انتخابات 28 تموز/ يوليو 2024، يتعارض جيوسياسيو"النزعة التقدمية" الجدد مع وسائل الإعلام الدولية السائدة (سي إن إن وسي بي إس وغيرهما)، ولكن في صورة معكوسة. إنهم لا يدافعون عن مصالح ماريا كورينا ماتشادو وإدموندو غونزاليس، بل عن مصالح مادورو والبرجوازية الجديدة، مع البديهية الزائفة المماثِلةَ مادورو معالطبقة العاملة، دون تحليل سياسات مادورو المناهضة للشغيلة والمعادية للشعب. إنهم يقعون في فخ "التقديس القانوني الأعمى" باقتصار تحليلهم للوضع علىنتائج الانتخابات، متجاهلينالمعايير الطبقية. والقضية ليست فقط أن مادورو واللجنة الوطنية للانتخابات لم يوضحا كيف منحت عملياتهم لحساب الأصوات النصرللرئيس في انتخابات 28 تموز/ يوليو، بل أيضًا كيف يؤثر هذا الوضع على الحريات الديمقراطية الملموسة التي تعمل فيها الطبقة العاملة وتستمر في البقاء.

إذا انعدمتالشفافية والشرعية في الانتخابات الوطنية، التي يُمثّل فيها المرشحون المسجلون تنويعات مختلفة من البرامج البرجوازية، فمن الصعب التفكير في استعادة الحد الأدنى من الحريات الديمقراطية التي تحتاجها الطبقة العاملة للدفاع عن نفسها ضد هجوم رأس المال على عملها (الحق في الأجور اللائقة، والحق في الإضراب، وحرية تكوين الجمعيات، وحرية التعبئة والتعبير عن الآراء والتنظيم في أحزاب السياسية). الطبقة العاملة معنية بشكل أساسي بالكيفية التي يتيح بها أو يقيد الوضع بعد 28 تموز/ يوليو، في الأمد القريب، الحريات التي تحتاجها للتعبيرعن نفسها بما هي طبقة مستغَلة. لكن هذا التناقض لا يندرج في منطق وخطاب الجغرافيا السياسية التقدمية الجديدة.

أوجه إغفال وصمت منطوية على أضرار

لا يكثرت هؤلاء ”التقدميون" لقمع التنظيمالنقابي والسياسي للشغيلة والشعب 7 ، ولا بمنع مادورو أي قطاع على يسار الحزب الاشتراكي الموحد من المشاركة في الانتخابات الأخيرة في البلد –وصولا إلى اختراق ومقاضاة ومهاجمة قيادة الحركة الشعبية الانتخابية وحزب الوطن للجميع والتوباماروس والحزب الشيوعي الفنزويلي نفسه، المخضَع ذاته للوصاية! 8 لا يذكر أنصار مادورو أن الحكومة شددت، بعد 28 تموز/ يوليو، القمع، ليس ضد الطبقة الوسطى، بل ضد الطبقة العاملة بشكل أساسي، حيث أرسلت زهاء2000 شاب إلى السجن مع عقوبات إعادة تربية مزعومة، ما يعني إخضاعهم لطقوس غسل دماغ علنية مغيظة.

ويلتزمون الصمت بشأن بناء سجنين يخضعان لحراسة أمنية قصوى لمن يُقبض عليهم بجريرة الاحتجاج أو التحريض عليه في وسائل التواصل الاجتماعي. ويتجاهلون سجن العديد من السياسيين المعارضين، والتهديدات المباشرة التي وجهها وزير "المطرقة"9 ، ديوسدادو كابيلو، على سبيل المثال، إلى رئيس بلدية كراكاس السابق خوان باريتو أو فلاديمير فيليغاس، شقيق وزير الثقافة. إذا كان تهديد شخصيات عامة على هذا النحو، فهو أسوأ إزاء الناس العاديين الذين ليسوا شخصيات إعلامية. لقد شهدنا مؤخرًا نشر قوات أمن بملابس مدنية لتهديد الناشطين - كما حدث يوم السبت 10 آب/ أغسطس، ضد كودي كامبوس ولياندرو فيلوريا، وهما من قادة مجتمع الميم-عين في كاراكاس. كما رأينا في الأيام التالية في معقل تشافيز التقليدي،حي 23 شباط/ فبراير في كاراكاس، التأشير على منازل الناشطين من قبل عملاء الحكومة لتخويفهم من إمكانية المظاهرات.

ويلوذ اليسار الجيوسياسي بالصمت بشأن عدد القتلى بعد 28 تموز/ يوليو(حوالي 25 قتيلًا، وفقًا لتقديرات منظمات حقوق الإنسان والحركات الاجتماعية)، متبنيا رواية أنهم من اليمين فقط. وليس هذامنافيا للحقيقة وحسب، بل يشكل تراجعا عن المكاسب التي تحققت في مجال حقوق الإنسان في فترات ما بعد الديكتاتورية في المنطقة.

يُعيد أنصار"التقدمية الجيوسياسية" إنتاج سراب حكومة شعبية لم يعد لها وجود، محاها موقف مادورو الحربائي وسياساته المناهضة للشغيلة. ويقبلون نضالات الطبقة العاملة الفنزويلية فقط في الإطار الذي يسمح به مادورو، ليروجوا في الخارج صورة لا يمكنهم بناؤها في بلدهم الخاص. وتتغاضى هذه التقدمية عن واقع أن لأنصار مادورو حسابات مؤدى عنها في الشبكات الاجتماعية بينما تمارس الحكومة رقابة على محتويات آراء القطاعات الشعبية (بحسابات مجانية). ألا يعني لهم شيئا أن الحكومة أغلقت شبكات X وسيغنال مدة 10 أيام 5 وربما أكثر، فيما حافظ عليها كبار الموظفين ومعها VPN(غير المتاحة للشعب).

ماذا عن النفط؟

إن كل الحقائق الخطيرة المذكورة أعلاه تعتبر من قبل أنصار "انتصار" مادورو تفاصيل "ديمقراطية شكلية" ثانوية في مواجهة خطر عودة اليمين "القذر" إلى الحكم في فنزويلا. الاستدلال يخلو من المعايير الطبقية بقدر ما يخلو من رؤية متبصرةلوقائع البلد الأولية.

منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، في إطار الحرب في أوكرانيا، سمح وزير الخزانة الأمريكي لشركة شيفرون باستكشاف نفط فنزويلا وتصديره، بشرط عدم دفع أي ضرائب أو إتاوات لحكومة فنزويلا، ما يشكل كيفيات استعمارية جديدة لم تكن معروفة حتى في الحكومات التي سبقت شافيز، وقد قبلها مادورو. ومنذئذ، أصبحت فنزويلا مرة أخرى موردًا مستقرًا للنفط إلى أمريكا الشمالية. وهذا ما يفسر سلوك بايدن المُراعي والتمهل البالغ للثالوث التقدمي، لولا وبترو لوبيز أوبرادور وأملو (المنسحب منه الأسبوع الماضي) في اتخاذ موقف.

يلزم الحذر عندما الكلام عن الحظر الأميركي على فنزويلا. فهناك نوعان من الحظر. ذاك الذي طالالغذاء والدواء وقطع غيار الحافلات والسيارات التي تنقل الناس وأسهمبنحو حاسم في هجرة أربعة إلى خمسة ملايين عامل. لكن فنزويلا تمكنت من أن تصبح سادس أكبر مورد للنفط إلى الولايات المتحدة، متجاوزة دولاً مثل المملكة المتحدة ونيجيريا 10 .

إن ما هو على المحك في فنزويلا هو معرفة أي قطاع من الطبقات الحاكمة - البرجوازية القديمة "القذرة" أو قطاعات الأعمال الجديدة المرتبطة بالجيش"البوليفاري"-  المغتنية في ظل مادورو - يسيطر على تجارة النفط.يتعلق الأمر إذنبنزاع على من سيحصل على نصيب الأسد من عائدات النفط. وسيضمن كلاهما إمداد القوى الرأسمالية الغربية بالنفط  الذي لا غنى عنه من الناحية الجيوستراتيجية.وسيحد كلاهما بشكل متزايد من توزيع عائدات النفط على الشعب - لأن ذلك من طبيعة القطاعات الرأسمالية والبرجوازية ولأن طبيعة الدولة الأحادية الاستخراجية المصدرة للأحافير لم تمسسها العملية البوليفارية.وأخيرا لأن مادورو ليس، على الرغم من خَطابته، اشتراكيًا ولا معاديًا للإمبريالية. من السذاجة تخيل أن مادورو يدافع عن برنامج وأن له من الشجاعةما يكفي لمواجهة الخطط الإمبريالية لإعادة النفط الذي تستطيع فنزويلا إنتاجه إلى السوق العالمي. إنه خطأ فادح غضُّ الطرف، باسم سيادة مزعومة، عن النزعة الاستبدادية المتنامية لنظام مادورو ضد العمال والشعب الساخط.

وبنحو مأساوي، من المفيد أيضا للجيوسياسيين المادوريينمواصلة اعتقاد أن خلاص فنزويلا يكمن في الواقع من لعنتها التاريخية: ثروتها النفطية. وهو الأمر الذي أشار إليه حتى التنموي البرازيلي العظيم سيلسو فورتادو، دون أن يكون اشتراكيًا أو بيئيًا، باعتباره مشكلة كبرى للبلد الذي عاش فيه في الخمسينيات.

هل من مخرج؟

إن القوة التي اكتسبتها المعارضة اليمينية، التي هُزمت في صناديق الاقتراع عدة مرات على يد تشافيز ومرة ​​على يد مادورو، والتي يتزعمها الآن جناحها الأكثر تطرفًا، الأوليغارشية ماريا كورينا ماتشادو، تمثل مأساة. والمأساة الأعظم هي حقيقة أن هذا الجناح اليميني المتطرف فاز أو اقترب كثيرًا من الفوز في الانتخابات - ولا يوجد سبب آخر لإصرار مادورو على إنكار النتائج وقمع الناس بقسوة. يصعب إيجاد حلسلمي، ولا يمكن قبول تسليم الحكومة ببساطة لأقصى اليمين، وبالتالي قد تتمثلوسيلة تجنب "حمام الدم" الذي يهدد به الطرفان فنزويلا فيما أشارت إليه حكومتا البرازيل وكولومبيا: عرض النتائج، ومفاوضات بين الطرفين، وقبل كل شيء مع مادورو نفسه (ترفض الزمرة الحاكمةالحواروفحص نتائج المعارضة). إذا أمكن الحصول في المفاوضات على حريات ديمقراطية، وعلى الإفراج عن السجناء السياسيين، ووقف القمع، وحرية نقابية وسياسية واسعة للأحزاب، فمن الممكن أيضًا الحصول على بنود تحمي شركة النفط الوطنية الفنزويلية.

في الوقت الحالي، يمثل دعم الحل التفاوضي الذي اقترحته كولومبيا والبرازيل - والذي يحظى بدعم تشيلي، وبالطبع اِستِنكار الديكتاتور دانييل أورتيغا - السياسة الصائبة لأنها أكثر حذرا وملاءمة، ومناسبة لشغيلة البلد وشعبه.

هذه السياسة تتعارض مع نظام متزايدالاستبداد، يقمع الشباب والنقابيين والمعارضين اليساريين، وهي أقل سذاجة وتحيزًا بيروقراطيًا من مجرد تصديق على مخالفات الحكومة وتعسفها. إنهاتتيح الاعتراض على تفكيك اليمين المتطرف لشركة النفط الوطنية الفنزويلية وللمكاسب الاجتماعية القليلة المتبقية، دون الانطلاق من المبدأ الخاطئ القائلإن مادورو وحاشيته العسكرية البيروقراطية البرجوازية سيضمنون "سيادة" فنزويلا على أي شيء.

السيادة الوطنية والسيادة الشعبية

تَستعمل"التقدمية الأمريكية اللاتينية"، على غرار العالم -الثالثية واليسار االستاليني، مصطلح السيادة بالخلط بين معنيين مختلفين: السيادة الوطنية والسيادة الشعبية. بالطبع، السيادة الوطنية عادة ما تكون شرطًا للممارسة الكاملة للسيادة الشعبية. وتكمن المشكلة في أن الأنظمة (وتيارات الرأي) المختلفة جداً، التقدمية والرجعية على حد سواء، تتبنى الدفاع عن السيادة الوطنية في مواجهة ضغوط السوق العالمي والإمبريالية.

كانت السيادة الوطنية في قلب الحركات المناهضة للاستعمار وحركات الاستقلال الوطني، وكذلك الشعبويات الوطنية التنموية في القرن العشرين. لكنها كانت أيضًا في قلب الديكتاتوريات العسكرية (مثل ديكتاتوريات المخروط الجنوبي في أمريكا اللاتينية في الستينيات)11 ، والديكتاتوريات الثيوقراطية (مثل إيران)، وبيروقراطيات الدولة، وكما نرى مع مودي وترامب، وحكومات اليمين المتطرف. نعم، يمكن أن يتم الدفاع عن السيادة الوطنية وحتى المواجهات مع الإمبريالية في ظل أنظمة رجعية للغاية. بالنسبة لنا، يتخذ الدفاع عن السيادة الوطنية معنى بالاقتران مع الدفاع عن السيادة الشعبية وتنظيم الجماهير الذاتي الديمقراطي، والظفر بالحريات والحقوق التي تعزز الكتلة التاريخية للطبقات الشعبية، والتي يمكن أن تبني بدائل للرأسمالية العالمية والإمبرياليات التي تُهيكِلها.

وعلى نحو مماثل، لا يمكننا، بعد التجارب الستالينية في القرن العشرين، أن نماثلبنحو آلي الشعوب بقادتها السياسيين، فمعرفة ما إن كانوايمثلونها تقتضي فحصا ديناميا للعلاقة بين الطرفين. وعندما تنقطع العلاقة - كما حدث أو قد يحدث في فنزويلا - تصبح الحريات الديمقراطية عنصراً أساسياً في أي نضال من أجل السيادة، سواء الشعبية أوتبعاً الوطنية. وعلى هذا فلن تكون هناك قوى تضمن سيادة فنزويلا على أراضيها وثرواتها دون استعادة السيادة الشعبية.

أليست للديمقراطية أهمية؟ 

ليست أنظمة الديمقراطية البرجوازية ما نطمح إليه نحن الاشتراكيون من الناحية الاستراتيجية: نحن نحلم ونناضل من أجل بناء منظمات ديمقراطية شعبية، وديمقراطية مباشرة، وسلطة شعبية - كأجنة لشكل جديد وأكثر حيوية من الديمقراطية، تمارسها القطاعات العمالية والشعبية - في سيرورات هجومية وثورية. ولكن هل الديمقراطية الشكلية حقيرة لدرجة أننا لا نهتم بالانتخابات، أو بالنتائج المزورة؟

في عالم مهدد بشكل متزايد من قبل كوكبة من القوى اليمينية المتطرفة، يستوجب نضالها بنحو دائم الدفاع عن الحريات والحقوق الديمقراطية، وحتى مؤسسات الأنظمة الديمقراطية البرجوازية ضد هجمات اليمين المتطرف - كما شهدنا بالفعل مع ترامب وبولسونارو وأردوغان وأوربان، وغيرهم.

ما الرأي في يسار يحتقر الديمقراطية إلى حد تأييد التلاعب بالانتخابات أمام شعوب وشغيلة العالم وفي البلدان (المتكاثرة) حيث يعد النضال ضد اليمين المتطرف أمرًا حيويًا؟

ستكونالقطاعات المنتسبة إلى اليسار، والمؤيدة لأنظمة قمعية، في موقعسيئ للغاية، من وجهة نظر استراتيجية، في السيرورة الضرورية للبناء السياسي والنظري والعملي ليوتوبيا جديدة مناهضة للرأسمالية،لاقتياد شرائح عريضة من الشباب والنساء والشغيلة. إن يسارا جديدا جماهيريا مناهضا للرأسمالية إما أن يكون ديمقراطيًا ومستقلًا ويواجه "النماذج" الاستبدادية، وإلا فلن تقوم له قائمة.

ولكن لا يزال هناك سؤال واحد يجب أن يكون أكثر أهمية من غيره لجميع المناضلين/ات والمنظمات الاشتراكية في أمريكا اللاتينية وفي العالم: كيف نرد على انتظارات الشغيلة والشعب وما تبقى من اليسار غير البيروقراطي في فنزويلا؟ هل سيجري التخلي عن القطاعات القائمة على يسار الحزب الاشتراكي الفنزويلي الموحد،وعن تلك المنتقِدة سرًا داخل هذا الحزب نفسه، المُتشظية والمُضطهَدة وبعضها مسجون، لكن قسما كبيرا منها في عز الكفاح ضد القمع الحكومي، لتلقىمصيرها؟ 12  من جانبنا، يمثل دعم نضالاتها، وتشجيع وحدتهما من أجل المقاومة، ومساعدتها، على البقاء، المهمة الأممية ذات الأولوية. كل ما لا يأخذها في الاعتبار قد يكون جيوسياسيًا، لكنه ليس أمميًا من أسفل. في نهاية المطاف، توجد الضمانة الاستراتيجية الوحيدة لسيادة فنزويلا، ولظروف معيشية وعمل أفضل، ولإعادة التنظيم والسلطة الشعبية في الأمد المتوسط، بين أيدي تلك القوى الاجتماعية والسياسية التي كانت بطلة السنوات الذهبية للسيرورة البوليفارية وليست في أيدي حفّاري قبر تلك السيرورة.

 

18 آب/ أغسطس 2024

  • 1] تجمُّع واسع للأحزاب اليسارية، أنشأه حزب الشغية البرازيلي في العام 1990. ويتألف اليوم من أكثر من 100 منظمة، بما في ذلك الحزب الشيوعي الكوبي، وحزب أورتيغا في نيكاراغوا، وإيفو موراليز وحزبه "ماس" في بوليفيا. وقد نأت جبهة أوروغواي في أوروغواي بنفسها عن مادورو لأكثر من عام. أما الآن، فقد "قسم" لولا وبيترو ولوبيز أوبرادور بشكل نهائي الكتلة.
  • 2 
  • 3 
  • 4شفرون ثاني شركة نفط أمريكية خلف ايكسون موبيل. ربسول شركة اسبانية.
  • 5] تلك الشروط التي وضعها ما يسمى الترخيص 44، والذي سمحت بموجبه إدارة بايدن، في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، مرة أخرى بالبيع القانوني لنفط فنزويلا للشركات الخاصة الأمريكية والأجنبية.
  • 6 
  • 7 
  • 8الحزب الشيوعي الفنزويلي تحت الوصاية، بقرار قضائي يوم 11 آب/ اغسطس 2023، ما منعه من تقديم مرشحينللانتخابات.
  • 9قدم ديوسدادو كابيلو برنامجًا تلفزيونيًا يدين فيه غير الموالين باعتبارهم خونة ويعدمهم بمطرقة ضخمة. لا، هذه ليست قصة من الواقعية السحريةلأمريكا اللاتينية.
  • 10تشتري الولايات المتحدة الأمريكية نفطا من كراكاس بنحو متزايد، فيما تعرقل مبيعات فنزويلا لبلدان أخرى، 3 حزيران/ يونيو 2024 Brazil de Fato.
  • 11المخروط الجنوبي (بالاسبانية Cono Sur وبالبرتغالية Cone Sul) تعبير ظهر في سنوات 1960 ويقصد به منطقة أقصى أمريكا الجنوبية. ويشمل الأرجنتين والشيلي والأورغواي. وبنحو أوسع بعض مناطق باراغواي وولايات البرازيل الجنوبية. تتميز هذه المنطقة بحضور قوي للمتحدرين من أسلاف أوروبيين نتيجة الهجرة من أوروبا.
  • 12 بيان من أجل حملة مغايرة ، 19 آب/ أغسطس 2024 مجلة Movimento